تنشر جريدة «المساء» (طيلة شهر رمضان) بعض أقوى فقرات كتاب «عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض» للزميل الصحافي محمد الطائع. يكشف الكتاب تفاصيل جديدة عن تجربة «التناوب التوافقي» في تحضيرها وسياقها وصراعاتها الخفية ومآلها، كما يسلط «الكتاب» الضوء على بعض كواليسها. ولأن تجربة «التناوب التوافقي» التي تعتبر من العناوين الدالة وأحد المداخل البارزة للانتقال الديمقراطي بالمغرب، وارتباط اسمها بقائدها، الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول، الذي قاد التجربة، وبصفته أيضا كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، (أقوى أحزاب المعارضة آنذاك)، فإن ثنايا «الكتاب» اقتحمت كذلك بعض عوالم اليوسفي «الخاصة»، سواء باعتباره وزيرا أول أو باعتباره كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي. التفاصيل الواردة بين دفتي هذا الكتاب مستقاة من شهادات ومعلومات وافادات وخلاصة عشرات الجلسات مع سياسيين وقيادات ومسؤولين عاشوا تجربة التناوب كما عايشوا اليوسفي عن قرب. منذ استقالته، وباستثناء ذلك الوفد اليتيم من المكتب السياسي، الذي زاره في منزله، لم يتلق عبد الرحمان اليوسفي لاحقا أي اتصال من معظم قيادات الحزب. مستوى الجحود كان كبيرا جدا، والرفقة النضالية التي امتدت لعقود لم تحترمها إلا قلّة قليلة من المخلصين والأوفياء، وعلى رأسهم الحبيب الشرقاوي، محمد الصديقي، عباس بودرقة، محمد منصور، محمد الحلوي وقلة قليلة. التخلص من «السي عبد الرحمان» كان مبيّتا، كما كان السعي حثيثا من لدن خصومه في الحزب بغرض طمس اسمه من الذاكرة الاتحادية. وعلى عكس رفاق الأمس، كان المئات من أصدقاء اليوسفي والمتعاطفين معه، سياسيون وحقوقيون وفعاليات من المجتمع المدني، وفنانون ورياضيون، دائمي الاتصال به داخل المغرب وخارجه. اعتذر اليوسفي على سيل من طلبات التكريم والاحتفاء به، من مؤسسات دولية ووطنية. «ما قمنا به واجب وطني ونضالي، وفعل الواجب يسقط التكريم». هكذا كان يعتذر الكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي وقائد تجربة التناوب، إلى جانب رفضه قبول دعوات تكريمه، كيفما كان نوعها أو الجهة المنظّمة لها. عرضت على «سي عبد الرحمان» مناصب مختلفة بمؤسسات مغربية وأجنبية وظل متشبثا باستقالته من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومن السياسة. في شهر أبريل 2004، تلقى اليوسفي اتصالا من الملك محمد السادس، يقترح عليه تولي رئاسة هيئة الإنصاف والمصالحة. وكعادته، وبأدب وأناقة الكبار، اعتذر اليوسفي للملك قائلا: «Majesté je vous remercie doublement» «أشكركم يا جلالة الملك مرتين، الأولى لاقتراحكم علي تولي هذه المسؤولية والثانية لقبول اعتذاري عن تلبية طلبكم». وهو المنصب الذي سيؤول لاحقا إلى المناضل اليساري الراحل ادريس بنزكري، بعد اعتذار اليوسفي. أراد اليوسفي أن يكون «خطاب بروكسيل» الشهير خطاب مكاشفة ونقدا ذاتيا وأيضا وثيقة سياسية وحزبية مرجعية لحكومة التناوب، تأسيسا ومآلا. لأجل ذلك انكب على تحرير الخطاب مدة أسبوع كامل، وبعد تنقيحات وتعديلات وتدقيقات يومية، أعد الخطاب في صيغته النهائية بلغة فرنسية راقية. قرر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية استغلال دعوة رسمية من نائبة رئيس الحكومة البلجيكية لوريت أونكيلينكس وعضو مجلس الشيوخ جان كورنيل والحزب الاشتراكي البلجيكي الفرانكوفوني للحديث عن «التجربة الديمقراطية في المغرب»، في إطار منتدى الحوار السياسي الحضاري من 24 إلى 26 فبراير2003، وهي المناسبة ذاتها التي وشح فيها العاهل البلجيكي عبد الرحمان اليوسفي بوسام ملكي. مرت تقريبا 100 يوم على تعيين حكومة ادريس جطو، ووزع اليوسفي رسائله المباشرة وغير المباشرة في عرضه تارة إلى الداخل الحزبي والرأي العام الدولي، وكذا إلى السلطات المغربية وعموم الفاعلين بالبلاد. قال اليوسفي بوضوح إن تجربة «التناوب التوافقي» لم تفض الى النتائج المرجوة، أي الانتقال إلى «التناوب الديمقراطي». لكن الزعيم الاتحادي تمسك بالأمل ورسم خطة عمل بخطين متوازيين تمتد إلى سنتين، كان يأمل بمقتضاها أن تصحّح الأخطاء المؤثرة سلبا على عملية الانتقال الديمقراطي. خطة عمل تبدأ بالانتخابات الجماعية، حيث كان ينتظر أن يحصل حزب الاتحاد الاشتراكي على عدد منصف من رئاسات الجماعات، أبرزها عمادة الدارالبيضاء، ومجموعة من المجالس البلدية والقروية، مشددا على عمودية مدينة الدارالبيضاء لما تمثله من رمزية وقوة، والتي كان يرغب أن تؤول إلى شخص خالد عليوة، في إطار اتفاق بين مكونات الأغلبية وبالتزام من ادريس جطو، وكذا التحضير للمؤتمر الوطني السابع للحزب في سنة 2005. وهي المحطة التي كان اليوسفي يعتزم أن لا يترشح فيها لمنصب الكاتب الأول للحزب، ولا لأي مسؤولية حزبية، كما كان مصمما على الإشراف على تحضير المؤتمر وإنجاحه وإعطاء انطلاقة جديدة للحزب عبر مجموعة من المبادرات كان يعدها على نار هادئة ويخطّها في مفكرته، كان أبرزها عملية تحديث شامل للحزب، وتأنيث منصب نائب الكاتب الأول وتشبيب القيادة الحزبية، وغيرها من المبادرات الرامية إلى استنهاض الحزب. صرّح اليوسفي في عرض/خطاب بروكسيل «لقد وجدنا أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول تمليه المصلحة الوطنية والثاني يميل إلى الاعتبارات السياسية والحزبية، فكان علينا إذن أن نختار بين المشاركة في الحكومة في الوقت الذي كنا نعرف فيه أن الحالة الصحية لعاهلنا مثيرة للقلق وأن المغرب من جراء ذلك سيواجه موعدا عصيبا أو ننتظر تولي عاهلنا الجديد العرش من أجل التفاوض معه حول إجراءات وطرائق مشاركتنا، فاخترنا تحمل مسؤوليتنا الوطنية وفضلنا مصلحة البلاد من أجل المشاركة في انتقال هادئ.. وقد حصل اتفاق عام في المغرب خلال السنوات الخمس المنصرمة على كون التناوب التوافقي بإنجازاته وثغراته ليس إلا مرحلة انتقالية تنتهي مع انتخابات 27 شتنبر 2002، من أجل الانتقال إلى التناوب الديموقراطي.. وبعد تفكير طويل اخترنا عدم التسرع في الحكم على ما وقع، وقلنا إن أمامنا استحقاق الانتخابات الجماعية في الشهور القليلة القادمة، حيث إن الإعداد لها وتنظيمها وشفافيتها سيشكلون مؤشرات على اتجاه الأمور· غير أن الاهم من ذلك، هو أنه بعد هذه الانتخابات، سيعقد مؤتمرنا الوطني السابع، أي بعد سنتين من تشكيل الحكومة الحالية· وحينها سيكون قد مضى وقت كاف لتقييم مسار الأشياء في بلادنا· وبالتالي ستتاح لنا إمكانية تقييم تجربة التناوب في شموليتها». صدمة اليوسفي كانت كبيرة جدا جراء الحملة الشرسة التي قادها ضده نائبه الأول محمد اليازغي وجماعته، يتقدمهم ادريس لشكر ومحمد بوبكري وآخرون، إلى درجة أن توجيهات اليازغي دفعت بعض حزبيي الدارالبيضاء إلى إفشال كل تحالفات الحزب ونسف خططه للتصويت ضد خالد عليوة لفائدة محمد ساجد، المدعوم بأحزاب اليمين والمتمتع بنفوذ فؤاد عالي الهمة، كاتب الدولة في الداخلية آنذاك، فضلا عن حملات التشهير والتهجمات المباشرة، التي كانت تقودها جريدة «الاحداث المغربية» بتوجيه من اليازغي ضد اليوسفي وخالد عليوة، الذي تمسك به اليوسفي كمرشح للحزب رغم تحفظات بعض الاتحاديين. حسابات وغايات محمد اليازغي كانت تهدف إلى تصفية كل المقربين من اليوسفي، وأيضا تنحية اليوسفي ودفعه دفعا إلى ترك الحزب، حتى لا يحضر المؤتمر السابع . حرب وضغط اليازغي وأتباعه على اليوسفي امتد إلى اجتماعات المكتب السياسي، التي بات يتفادى حضورها الكثير من أعضاء المكتب السياسي بسبب الأجواء المسمومة والمشحونة، التي تمر فيها. اجتماعات قيادة الحزب عطّلت ونادرا ما كانت تنعقد وإن انعقدت فإنها تخصص ل«جلد» اليوسفي وأحيانا باستعمال كلام ساقط للغاية وغير أخلاقي في حق الكاتب الأول للحزب، خاصة من طرف «ادريس لشكر»، بتحريض من محمد اليازغي. قام بوبكري بتجييش هائل للشباب الحزبي ضد اليوسفي ونعت الزعيم الحزبي بأبشع النعوت، التي لم يجرؤ أحد على استعمالها قبلا. أيضا كان محمد بوبكري أداة لليازغي واليد الطولى لإدريس لشكر في ما تبقى من الشبيبة الاتحادية. وبعد كل اجتماع للمكتب السياسي كان ألم «سي عبد الرحمان» يزداد وأرقه يتعمق. مرت الانتخابات الجماعية دون ما كان ينتظره اليوسفي، وفي خضم السنة الانتخابية 2003، أدرك اليوسفي أن أكثر من طرف لم يحترم تعهداته، وأن «الكلمة» لم يعد لها معنى، كما تأثر بالغ التأثر بالهجومات «العشوائية» التي تعرض لها وفهم أنه ما عاد ممكنا تحمّل التعايش في محيط ينخره فيروس الحلقية الضيقة وغياب الاحترام. فلا داعي لانتظار محطة المؤتمر السابع، فكانت الاستقالة. حاز اليازغي على ما أراد، فجلس على مقعد الكاتب الأول للحزب، بعدها اكتشف جل من كان يوظفهم في حروبه أنهم كانوا ضحية اليازغي، وعلى رأسهم محمد الكحص، الذي لم يتردد اليازغي ومن معه في «تدميره» رمزيا وتنظيميا رغم ما يتوفر عليه من كفاءة ومصداقية، وينضاف إلى محمد الكحص العشرات من الضحايا من الأطر والكفاءات، التي لم تتردد فيما بعد في الاتصال باليوسفي ومقابلته والاعتذار له. لا يخفي «سي عبد الرحمان» ندمه الشديد على عدم إشهار استقالته، مباشرة بعد تعيين ادريس جطو والانقلاب على المنهجية الديمقراطية، مهما كانت التكلفة السياسية لذلك.