تخيلت لمياء، تلك الأساتذة المتدربة، التي تحول وجهها الدامي إلى رمز لما تعرض له زملاؤها من تنكيل على يد قوات الأمن قبل تسعة أيام في البيضاء ومراكش وإنزكان، وهي تدخل قاعة الدرس بوزرتها البيضاء على الأرجح، ومحياها الملطخ بالدم. وخامرني ظن – أشك أنه شيطاني- أن هذه الشابة المسكينة قد تكرر على مسامع تلامذتها سبق لإحدى شخصيات القاص أحمد بوزفور أن صدحت به في قاعة الدرس، إذ قالت تلك الشخصية إن أوجب الواجبات هي "حب الله وحب الشرطة"! شخصيا لا أتمنى ذلك، ولكن لن أجرؤ على لومها أو لوم زملائها إن حدث وتصرفوا مثل تلك الشخصية التي صار الخوف من الأمن يسري فيها، مثل الدم والهواء من فرط ما تعرضت له من عنف. فقد اختارت السلطة حل الكسالى.. الحل السهل الذي لا يعالج الداء البتة، بل يعمل في أحسن الأحوال على تسكينه، ولكنه بالمقابل يحمل في طياته عواقب لا يعلم أحد درجة كارثيته: التنكيل بالأساتذة لأنهم تجرؤوا على الاحتجاج وأمعنوا فيه (بغض النظر عن الأسباب والخلفيات وكل الأحاديث الرائجة حول استغلال هذا الطرف أو ذاك لقضيتهم). وأشاحت بوجهها عن الحل الذي أراه ملائما وكفيلا بمعالجة ملف هؤلاء الأساتذة وكل الخريجين المعطلين، أي العمل على قطع حبل السرة بين التعليم والتوظيف في الإدارة، لأن ذلك يتطلب جرأة سياسية كبيرة، ويفترض جهدا فكريا هائلا. هذا الحل يتطلب جرأة سياسية كبيرة جدا، لأن السلطة، كانت دوما تقدم نفسها للكائن المغربي على أنها تلك الشجرة التي لا ظل آخر إلا ظلها.. تلك الشجرة الوارفة التي لا وجود للأمان إلا تحت ظلها. حتى إن هذا الكائن تاجرا كان أو فلاحا أو صانعا، لا يجد غضاضة في دفع الإتاوات ليحظى بمكان تحت ظل تلك. وكل من لا يعثر لنفسه حيزا ولو بحجم ظفر الأصبع الصغير، فإنه يصبح تائها في صحراء الخوف واللا استقرار. وقد تكرس هذا "القانون السياسي الاجتماعي الاقتصادي" غير المكتوب في حقل التعليم بعد أن حقن الاستعمار جسد السلطة المغربية بنموذجه الإداري، وزاد تكريسا، بل وأصبح في مقام "المكسب الذي لا تراجع عنه" إثر الاستقلال، نظرا إلى ظمأ الإدارة المغربية الوليدة وحاجاتها للأطر البشرية الكفيلة بتحريكها. طيلة العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال، ظلت هذه الإدارة، وكل مرافق السلطة عموما، مثل تلك الإسفنجة الخرافية التي تمتص بكل سخاء كل ما "تنتجه" أسلاك التعليم، الذي كان مصعدا فعالا للترقي الاجتماعي. بيد أنه في أواسط الثمانينيات، أصيبت هذه الإدارة بالتخمة (لأسباب كثيرة يختلط فيها سوء التدبير بالفساد)، ولم تعد قادرة على امتصاص الخريجين من مختلف التخصصات. ومع ذلك، لم ترغب السلطة في تبديد وهم تلك الشجرة الوارفة الظل، لأنه يشكل أحد مصادر قوتها واستمرار سطوتها على "خيال" الكائن المغربي.. لأنه يجعلها دائما مرغوبة من طرفه. ولا يكفي لفطم هذا الكائن، قطع حبل السرة بين التعليم والإدارة بضربة قلم، بل يتعين الانخراط في عملية تفكير عميقة وقاسية (التفكير بطبيعته مؤلم) لخلق نموذج مجتمعي مغاير يربط التعليم، أساسا، بتكوين الكائن المغربي وإعداده ليكون فردا كاملا في فردانيته (INDIVIDUALITE)، قادرا على العيش خارج وهم ظل شجرة السلطة.. نموذج مجتمعي مسلح بما يكفي من قوانين يشعر معها هذا "الفرد" بالاستقرار والأمان، ولا يرى حاجة إلى الاحتجاج على السلطة لتشغيله في دواليبها. ولكن في انتظار هذا اليوم البعيد جدا، فلن ألوم المغربي، سواء أكان أستاذا متدربا، أو دكتورا في الكمياء، حين يسعى إلى الحصول على مكان تحت ظل شجرة السلطة.. في انتظار ذلك اليوم الذي مازال بعيدا جدا..أحس بأن وجوها أخرى ملطخة بالدماء ستؤثث، إلى جانب محيا لمياء، فضاءنا الزمني.