وددت لو جمعت وقرأت تلك الرسائل العديدة التي أمطرتها سماء مدينة الفقيه بنصالح، الثلاثاء الماضي، فوق رأس الملك محمد السادس لدى استقباله من طرف سكانها وإن كنت أُخمن مسبقا ما يتضمنه معظمها: بعض الشكاوى ضد المسؤولين الأمنيين والمحليين.. والعديد من الشكاوى التي تطالب برفع التهميش والعزلة.. والكثير من طلبات الحصول على ما تيسر من «كريمات» و»عطايا».. وربما تضمنت مطالب خاصة مثل العفو عن سجين أو التمتع برعاية طبية خاصة إلخ... ورغم أن الرسائل التي تطايرت في سماء هذه المدينة، التي لا نسمع عنها دائما، بدت كثيرة بشكل غير معتاد إلا أنها لم تثر دهشتي، فقط ذكّرتني مرة أخرى بما قاله الراحل محمد عابد الجابري حول ذلك الميل اللاوعي إلى التشبيه بين الإله والحاكم ليس فقط، لدى العامة، بل إن المفكر المغربي يرى أن «العقل السياسي العربي مسكون ببنية المماثلة بين الإله والحاكم»، الأمر الذي خوّل الهيمنة لما يسميه «الإيديولوجيا الريعية». إن سكان الفقيه بنصالح، الذين أمطروا محمد السادس بمطالبهم ورغباتهم لم يعبروا، في تقديري، سوى عن «قناعة» ترسخت في لاوعي الكائن المغربي وتعكس تلك «المماثلة» التي تحدث عنها الجابري. ففي نظر هذا الكائن المغربي من يُعتبرون «مسؤولين محليين أو إداريين» وحتى «ممثليه» (المنتخبين مبدئيا من طرفه)، ليسوا في حقيقة الأمر إلا ظل باهت جدا لرئيس الدولة.. ليسوا سوى حاشية من غبار، وهم غير قادرين على قضاء مصالحه، بل وليسوا أهلا لذلك. وإذا كان هذا الكائن «يهابهم»، فإنه في المقابل لا يمنحهم ولو جزءا ضئيلا من ثقته، ويعتبرهم قدرا مكتوبا عليه تحمله. في المقابل، فإن يتحين الفرصة السانحة للوصول إلى الحاكم.. إلى الشخص صاحب القرار الأوحد والوحيد. ولعل هذا السلوك له علاقة بعقلية «البدوي» الذي مازال يسكننا جميعا على الأرجح، رغم كل مظاهر التمدن، والذي يدرك «بحاسته السادسة» أن «شيخ القبيلة» هو القادر على قضاء المصالح.. وصاحب السلطة الذي يستحسن البحث عن مكان تحت مظلة «رضاه» حتى تغمر العطايا المنعشة. وتعلمه تلك الحاسة السادسة نفسها أن كل ما يجري الحديث عنه من مفاهيم غليظة مثل «الإدارة في خدمة المواطن» و»المؤسسات» و»الحكامة» و... ليست في أسوإ الحالات سوى «سراب» كلما اقترب منه المرء ازداد ابتعادا.. وفي أحسن الأحوال ليست سوى كائن في مرحلة الرضاعة، مازال غير قادر على المشي. كل هذا يذكرني بما قاله لورانس العرب في عشرينيات القرن الماضي. فبعد أن عاشر سكان الجزيرة العربية وقادتها، وصل في مذكراته «الأعمدة السبعة للحكمة» إلى خلاصة تكاد تكون «قاعدة رياضية»، مفادها أن العربي لا يثق بالمؤسسات، بل بالأشخاص.. والأشخاص فقط. وبعد مرور حوالي 100 عام كاملة على استنتاج «لورانس العرب»، يبدو أن الأمر لم يتغير بالنسبة إلى العربي والمغربي. ولعل السبب الرئيس في ذلك أن هذا الكائن لم يبلغ بعد مرتبة الفرد الكامل في فردانيته (individualité) حتى يتخلص من الارتباط بالأشخاص فقط. والحال أن اكتمال هذه «الفرادنية» شرط أساس ليكون للمؤسسات والحكامة والديمقراطية وجود فعلي ولا تبقى مجرد أصوات.. مجرد «فونيمات» تتطاير في السماء كما تتطاير رسائل المغاربة كلما زارهم ملك البلاد.