دخلت إحتجاجات الأساتذة المتدربين بالمغرب أسبوعها الثامن على التوالي دون أن تجد أذان صاغية من طرف الحكومة التي فضلت التعامل معها بمقاربة أمنية صرفة بدل الحوار الجاد، في المقابل فإن هذه الاحتجاجات السلمية عرفت تضامنا واسعا من الفئات الشعبية والسياسية والنقابية والحقوقية والمدنية والطلابية بمختلف تلاوينها اليسارية والإسلامية والمعتدلة والأمازيغية.... وهذا الإلتفاف حول معركة الأساتذة المتدربين بالمغرب، لا يمكن اختزاله في تضامن هذه الهيئات مع حق الأساتذة المتدربين في التوظيف والمنحة، بل جاء نتيجة عمق التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للمرسومين الوزاريين المعنيين بهذه الإحتجاجات. تعود حيثيات احتجاجات الأساتذة المتدربين بالمغرب إلى إصدار وزارة التربية الوطنية خلال نهاية شهر غشت الماضي، أيام قليلة قبل إجراء مباراة الدخول إلى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، لمرسومين وزاريين الأول رقم 2-15-588 ويقضي بفصل التكوين عن التوظيف والثاني رقم 2-15-589 ويقضي بتقليص منحة التدريب من 2450 درهم إلى 1200 درهم. الوزارة عللت إصدار هاذين المرسومين، بكونهما يأتيان في سياق إعداد الحكومة لرؤية استراتيجية لتكوين الأطر التربوية في إطار برنامج تكوين متكامل بين المدارس العليا للأساتذة بقطاع التعليم العالي والمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين بقطاع التربية الوطنية والتكوين المهني وبسعيها نحو تحقيق الجودة في تأهيل مواردها البشرية ومن جهة أخرى بغية مد القطاع الخاص بكفاءات مكونة خاصة بعد صدور المذكرة الوزارية التي حددت بداية موسم 2017 كتاريخ نهائي يمنع بعده على رجال التعليم العمومي الإشتغال في القطاع الخاص. في مقابل هذا التوضيح، يعتبر الأساتذة المتدربون أن مبررات الوزارة لا تعدوا أن تكون بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة، وهي في نظرهم أهداف يسهل تفنيدها حتى من طرف غير المتخصصين في الميدان. فكيف يعقل أن تضمن المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين جودة في تكوين الأساتذة المتدربين بالرفع من عددهم، خاصة وأن أغلب هذه المراكز تعاني من خصاص مهول في الأساتذة المكونين وتزداد حدة هذا الخصاص في بعض التخصصات كعلوم التربية والتشريع المدرسي وديداكتيك المواد والفرنسية الرياضيات...، وهكذا وجد الأساتذة المتدربون أنفسهم بداية هذا الموسم يدرسون في قاعات مكتظة يصل فيها عددهم في بعض المواد (التشريع المدرسي نموذجا) إلى ستون أستاذا متدربا في القسم الواحد، نفس الإكتظاظ يعرفه تفويج الأساتذة المتدربون أثناء إجراء التداريب الميدانية. من جهة أخرى كيف يعقل إعتبار تقليص المنحة إلى أقل من النصف إجراء يخدم جودة التكوين، إذا علمنا أن الأستاذ المتدرب مطالب بإنجاز بحوث وتداريب ميدانية واقتناء كتب ومراجع بالإضافة إلى تدبير شؤون حياته اليومية... أما فيما يتعلق بتكوين موارد بشرية مؤهلة للإشتغال في القطاع الخاص فيعتبرها الاساتذة المتدربون أمرا غير مقبول كونها أمول دافعي الضرائب والمدارس الخاصة قطاع خاص ينبغي أن يتحمل مسؤولياته في تكوين موارده البشرية. و حتى لو سلمنا جدلا بهذه الحجة فهي تظل بدورها حجة عارية من الصحة. لماذا ؟ أولا يجب أن نعود هنا إلى مقتضيات إتفاق 8 ماي 2007 الموقع بين الحكومة وممثلي مؤسسات التعليم الخصوصي، والذي التزمت الحكومة بموجبه بالمساعدة في تكوين الأطر التربوية لفائدة هذاه المدارس، وقد راء النور تطبيق هذا الإتفاق سنة 2013 خلال توقيع إتفاقية برنامج تكوين عشرة ألف إطار تربوي من الموجزين المعطلين من مختلف التخصصات. إتفاق تم بين وزارتي المالية والتربية الوطنية و بين هذه الأخيرة ورؤساء الجامعات التي ستسهر على هذا التكوين وحضره كذلك مديري المدارس العليا للأساتذة بالمغرب وممثلي مؤسسات التعليم الخصوصي بالمغرب، وقدر الغلاف المالي لهذا البرنامج بحوالي 161 مليون درهم موزعة على مدى ثلاث سنوات. تخرج الفوج الأول والثاني من هذه الأطر من مختلف المدراس العليا للأساتذة بالمغرب بتكوين نظري وعملي مماثل لما تخرجه المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، في المقابل لم تلتزم لا فيديرالية المدارس الخاصة ولا أرباب هذه المدارس بتشغيل هذه الكفاءات. وبإستثناء القلة التي كانت تعمل بالمدارس الخاصة قبل ولوجها التكوين، فإن كل الخريجين من البرنامج فشلوا في الظفر بعمل في هذه المدارس. لكن رغم فشل برنامج تكوين عشرة ألف اطار فشلا ذريعا، من حيث التشغيل داخل المدارس الخاصة، فقد سوقت الحكومة لفكرة أخرى مفادها أن هذا التكوين ناجح بحيث أن أزيد من 70 في المائة من المكونين ولجوا المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وهو تحوير للهدف الأصلي الذي خرج لأجله البرنامج والمتمثل في تشغيل الخريجين في القطاع الخاص. فلماذا اليوم تكرر الحكومة نفس الخطاء مع المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين؟ وذلك بتكوين كفاءات مصيرها البطالة. فقطاع التعليم الخاص بالمغرب قطاع غير متجانس وقطاع غير منظم ويعيش على الامتيازات الضريبية ويقتات من التعليم العمومي، فمن حيث التشغيل فهذا القطاع لايخرج عن ثلاثة أنواع من الأساتذة وهم شريحة مهمة من أساتذة القطاع العام، ونسبة مهمة من متقاعديه والذين لا يكلفون الكثير لهذه المؤسسات ماداموا لا يطالبون بالتغطية الصحية والضمان الأجتماعي وحتى الأجور التي يتلقونها تبقى نسبيا متدنية، في المقابل فهم وسيلة جذب تستعملها المؤسسات لإقناع أولياء امور التلاميذ بتسجيل أبنائهم في هذه المؤسسات. أما النوع الثالث فهم الشباب الحاصلون على الشهادات وهنا يمكن أن تكون هذه الشهادات مجرد باكالوريا او شهادة جامعية او إجازة وفي أحسن الأحوال شهادة الماستر، فهولاء عادة ما يضطرون إلى قضاء سنة من التدريب في مؤسسة خاصة من أجل قبولهم في السنة الموالية في ظروف مجحفة يتعرضون خلالها لأبشع صور الإستغلال من قبل أرباب هذه المدارس الذين يشغلونهم بأجور جد متدنية لا يتمتعون معها بأبسط حقوقهم القانونية، وذلك في غياب مراقبة الدولة، فلا أجرة مشجعة ولا ضمان اجتماعي ولا تغطية صحية ولا أجر في العطلة الصيفية...وهو أمر تحاول بشتى الوسائل هذه المؤسسات الحفاظ عليه ما دام يخدم مصالحها الاقتصادية في ظل وفرة الطلب على الشغل. هكذا يجد الأساتذة المتدربون بالمغرب أن تبريرات الوزارة المتمثلة في الجودة وتكوين موارد مؤهلة للقطاع الخاص لاتقنع حتى أشد المتفائلين، فماهي إذن الأهداف الخفية وماهي التداعيات الحقيقية لهذين المرسومين؟ لفهم ما يجرى بقطاع التعليم من إقرار بأزمته ومحاولات إصلاحه، بما في ذلك المرسومين 2-15-588 و2-15-589. لابد من استحضار السياق الدولي والوطني وسيرورتهما. فالمغرب منذ منتصف الثمانينات يعيش بشكل كبير على قروض البنك الدولي إرتفعت معها مديونية الدولة خاصة في السنوات الأخيرة لتبلغ مستويات قياسية غير مسبوقة قدرت ب 63.4 في المائة. هذا الحقيقة جعلت من البنك الدولي يفرض توصيات على المغرب تمثلت في ضرورة رفع الدولة ليدها عن القطاعات العمومية وتقليص الإنفاق العمومي الى أدنى مستوياته خدمة للدين الخارجي. فبإستمرار المغرب في الإنفاق العمومي على ماهو عليه سيؤدي، حسب البنك الدولي، إلى تفاقم الأزمة وتراجع معدلات نموالبلاد. وهكذا ومنذ التقويم الهيكلي والمغرب يتراجع ويرفع يده عن القطاعات العمومية شياء فشياء، ولعل تصريح السيد رئيس الحكومة لأبلغ دليل حين قال بالحرف وصراحة أن على الدولة أن ترفع يدها على قطاعي التعليم والصحة. ومن بين أهم المجالات التي تصرف فيها الدولة الكثير من ميزانيتها نجد كتلة الأجور والتي مثلت نسبة ناهزت هذه السنة 33% من الميزانية العامة ونسبة 54.17% من ميزانية التسيير، وتستحوذ وزارة التربية الوطنية على حصة الأسد ب38% من هذه الكتلة. كتلة الأجوركانت تؤرق الحكومات المتعاقبة على تسيير دوالب الشأن العام المغربي ولا زالت كذلك إلى اليوم، حتى وإن كان الخبراء يرون في نسبة هذه الكتلة بالمقارنة مع عدد سكان المغرب رقما لايرقى إلى ما تنفقه الدول المجاورة كالجزائر وتونس ومصر، ويرون أن المشكل لا يتمثل في حجمها بل يكمن في طريقة توزيعها بين الموظفين الكبار والصغار. على أي حال حاولت الحكومات السابقة التقليص من هذه الكتلة من خلال المغادرة الطوعية، وهي ورش خلف، للتذكير، خسائر مهمة من حيث الموارد التي خصصت له ومن حيث حرمان القطاع العام من كفاءات كان بأمس الحاجة اليها. الحكومة الحالية في المقابل ستفطن إلى إجراء من نوع أخر تمثل في إعادة النظر في الترقية بالنسبة للموظفين القدامى وفي التعاقد بالنسبة للوافدين الجدد على القطاع، في افق التخلي كليا عن النظام الأساسي للوظيفة العمومية. وهو الأمر الذي صرح به وزير تحديث القطاعات العمومية مؤخرا، معلنا قرب التوقيع على قانون منظم للتوظيف بالتعاقد بالقطاع العام، سيمكن من جهة من تقليص كتلة ألاجور ومن جهة أخرى سيمكن من تفعيل أفضل لسياسة اللاتركيز الإداري باعتباره نمطا أساسيا لإعادة تنظيم الإدارة العمومية، كما سيمكن كذلك من الاعتماد على مبدأ تفعيل الأجور مقابل الإنتاج بدل الترقية بالشواهد والأقدمية التي كان معمولا بها سابقا. وهكذا، وفي الوقت الذي يعيش فيه قطاع التربية والتكوين بالمغرب، بشهادة التقارير الدولية وبشهادة القائمين على القطاع والممارسين، اختلالات بنيوية وسوء تدبيريزداد تأزما سنة بعد سنة، بلغ معه الاكتظاظ ببعض المؤسسات أزيد من 70 تلميذا بالقسم نتيجة الخصاص المهول في الموارد البشرية والأطر التربوية أو الإدارية والبنيات التحتية - معطيات أدت إلى تصنيف قطاع التربية والتكوين المغربي ضمن المراتب المتأخرة دوليا في هذا المجال- نجد أن هاجس الدولة الكبير في الإصلاحات ظل هو تقليص ميزانية القطاع التعليمي، أي أن الهاجس المالي هو المتحكم في مختلف الإصلاحات، كما أن المستهدف الحقيقي في جل الإصلاحات كان هو المدرس من خلا ضرب حقه في الاستقرار والترسيم والترقية... وأي ضرب واستهداف للمدرس هوفي النهاية استهداف مباشر للمدرسة العمومية وهذا ما يتضح أيضا من خلال المصادقة على المرسومين الوزاريين 2-15-588 و 2-15-589 حيث يتناقض محتواهما مع واقع الخصاص المهول الذي يعرفه القطاع وتم بالمقابل اللجؤ إلى تدابير أخرى كالتفيض والتنقيل وتجميع المستويات....لحل جزء من هذه المشاكل. إن هذه الإصلاحات بشكلها الحالي، أي التخلي تدريجيا عن التمويل واعتماد التوظيف على أساس التعاقد وتوظيف الأطر التربوية على الصعيد الجهوي على أساس التعاقد كذلك، ستؤدي إلى الضرب في مصداقية المدرسة العمومية وإيصالها إلى حافة الإفلاس سيسهل تفويتها بعد ذلك إلى القطاع الخاص، كما ستضع أوليا أمور المتمدرسين أمام الأمر الواقع المتمثل في تردي التكوين بالمؤسسة العمومية، وسيضطرون بالتالي إلى تنقيل أبنائهم نحو المؤسسات الخاصة ما يعني إثقال كاهل ميزانيات هذه الأسر بمصاريف إضافية على حساب احتياجات أخرى، وهي الأهداف الواردة بشكل صريح في تقارير البنك الدولي والتي تعمل الحكومة على تطبيقها. وليس هذا فقط بل إن التعليم الخصوصي بحد ذاته وكما تمت الإشارة إلى ذلك من قبل، يعتبر قطاع غير متجانس، بينت دراسات عديدة الاختلافات والتباينات الصارخة مابين مؤسساته، ما بين تلك المكلفة جدّا ومؤسسات البعثات الأجنبية والمخصصة للنخبة، ومدارس خاصة متوسطة والتي تجلب الآباء ذوي الدخل المنخفض، الأمر الذي زاد من حدة عدم المساواة في التمتع بالحق في تعليم متكافئ الجودة. هكذا ستكرس الدولة توريث الفقر والبؤس بالقضاء على فرص الطبقات الدنيا في الرقي الإجتماعي، كون هذه الفئات الفقيرة كانت في الماضي تجد في التعليم مجالا للاستثمار، وفضاء يضمن شيئا ما توزيعا عادلا للثروة، ويقلص بالتالي من درجة فقرهذه الأسر ويرفع من شأنها بحصول أبنائها على تعليم مناسب ومناصب عمل مشرفة في مهن مرموقة كالطب والهندسة والمحامات... إن نضالات الأساتذة المتدربين اليوم، وعلى رأسها مسيرة السابع عشر من دجنبر، لا تتمثل في مجرد إسقاط مرسومين يفصلان التوظيف عن التكوين ويقلصان المنحة إلى أقل من النصف، إنما هي معركة من أجل مدرسة عمومية متكافئة الفرص وسياسة لا طبقية تضمن للفئات الأكثر هشاشه نصيبها من موارد البلاد، وهذا هو ما يضمن لهذه الإحتجاجات كل التضامن الذي عبرت عنه مختلف المكونات الحية بالبلاد سوء منها السياسية والنقابية والحقوقية والطلابية والشعبية. فتمرير هذين المرسومين وإن كان لا يضر بشكل كبير الفوج الحالي للأساتذة المتدربين باعتبار أن أغلبهم سينجح في مباراة التوظيف ومن لم يتمكن من ذلك فستتاح له فرصة ثانية خلال الموسم المقبل، فإنه في المقابل سيجعل الأجيال القادمة من الأساتذة المتدربين يجترون ويلات البطالة والتوظيف بالتعاقد، وستدق بذلك الحكومة مسمار أخر في نعش التعليم العمومي المغربي، الذي يحدر خبراء من إندثاره في أفق 2040. لحسن ويعبوب
أستاذ متدرب بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس.