و كنت نقابيا لما اخترت أن أواجه الموجة العاتية التي تدفع مشروع إصلاح أنظمة التقاعد المعرضة للإفلاس، ولاخترت ركوب الموجة عِوَض مواجهتها. لو كنت مفاوضا للحكومة في هذا الملف لما اخترت المواجهة مع «بيلدوزير سياسي» اسمه بنكيران، يتوفر على أغلبية في البرلمان، وعلى آلة تواصلية جبارة، وفوق هذا خرج للتو من امتحان اختبار الشعبية بسلام في انتخابات المدن الأخيرة، حيث صوت له أغلب المتضررين من إصلاح صناديق التقاعد في المدن الكبرى. لو كنت نقابيا لاخترت هذا التوقيت المناسب للحصول على أعلى المكتسبات للموظفين والأجراء الصغار والمتوسطين، لأن الحكومة محتاجة إلى إجماع حول إصلاح التقاعد في سنة صعبة، ومن ثمة فإن آذانها مفتوحة لسماع مطالب النقابات المعقولة والمنطقية. بكلمة أخرى، إن وقوف النقابات الآن في وجه مشروع إصلاح نظام للتقاعد على حافة الإفلاس موقف عدمي لن تخرج منه النقابات ولا الموظفون بأي ربح مادي ولا سياسي، وإن الذكاء النقابي والتموقع الاجتماعي الجيد يقتضيان أن تدخل النقابات إلى بيت الإصلاح، وتفاوض الحكومة على «توقيعها» مقابل الحصول على مكتسبات وحقوق جديدة للموظفين والعمال. الحكومة قررت رفع سن التقاعد إلى 63 سنة، وزيادة نسبة المساهمات بالنسبة إلى الدولة والموظف، مع تخفيض المعاشات ما بين 5٪ و10٪ حسب الأجر ومدة العمل، ومقابل هذه الإجراءات الصعبة على الموظفين، وضعت الحكومة 41 مليار درهم من الميزانية لتمويل هذا الإصلاح على مدى خمس سنوات. هذا يفتح المجال للتفاوض على أكثر من نقطة داخل الإصلاح وليس خارجه، مادامت خطاطة الإصلاح كانت ثمرة مشاورات موسعة شارك فيها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الأعلى للحسابات، واللجنة التقنية التي تجمع كل الأطراف المعنية بالتقاعد. يمكن للنقابات، مثلا، أن تتفاوض مع الحكومة على النقاط التالية: -1 الشروع في إصلاح شمولي وهيكلي لجميع أنظمة التقاعد في المغرب حتى لا تتكرر الأزمة مستقبلا، والتوقيع على مشروع قانون إطار يوثق التزام الحكومة بهذا الإصلاح، وإحداث وكالة مستقلة لإدارة صناديق التقاعد بشفافية عالية وحكامة ضرورية، وتمثيلية حقيقية لممثلي الأجراء والموظفين في التخطيط الاستراتيجي الخاص بأموال المتقاعدين وحسن استثمارها، والبحث الدائم عن حلول لتوازنها المالي في بيئة اقتصادية وديموغرافية واجتماعية سريعة التحول والتبدل… لا يعقل بعد 10 سنوات أو أقل أن نرجع إلى تحميل المواطنين أخطاء الدولة في إدارة صناديق التقاعد. -2 يمكن التفاوض مع الحكومة على الرفع من قيمة التعويضات العائلية التي تدفعها صناديق التقاعد عن الأطفال، حيث يقفز التعويض من 200 درهم لكل طفل إلى 400 درهم لكل طفل، وحصر عدد المشمولين من الأطفال بهذه المنحة في ثلاثة أطفال لا غير، وتخصيص منحة إضافية للفئات الوسطى التي يدرس أبناؤها في القطاع الخاص، والتي تعفي الدولة من أعباء تدريس أبنائها في حين تتحمل هذه الأسر هذه الكلفة التي تتجاوز في المعدل 1300 درهم عن كل طفل في الشهر. لا بد أن تتحمل الدولة جزءا من هذه الفاتورة الدراسية، وألا تترك محدودي الدخل يتحملونها لوحدهم مادام إصلاح المدرسة العمومية حلما لا رجاء منه. -3 لا بد من وضع حد أدنى وحد أقصى للمعاشات التي تدفع للموظفين بعد التقاعد، فلا يعقل، مثلا، أن يتقاضى مواطن بسيط 1000 درهم في الشهر كمعاش، في حين يتقاضى جنرالات 100 ألف درهم شهريا، أي الضِّعف ب100 مرة. لا بد من وضع سقف للمعاشات «الغليظة»، وحوافز للصعود بالمعاشات الضعيفة، وفي هذا الإطار يمكن للحكومة أن تتحمل 570 مليون درهم إضافية كل سنة، وترفع المعاشات الصغيرة من 1000 درهم إلى 2000 درهم (بنكيران التزم في البرلمان برفع المعاشات الصغيرة من 1000 درهم إلى 1500 درهم فقط). -4 يمكن التفاوض مع الحكومة على صيغ مرنة لتقاعد بعض الفئات التي لا يحتمل وضعها الصحي أو النفسي أو العائلي الاستمرار في العمل إلى 63 سنة أو 65 سنة مستقبلا، وذلك بدفع الموظفين والأجراء إلى شراء جزء من تقاعدهم وهم في مرحلة العمل، كأن يساهم موظف، مثلا، ب1000 درهم عِوَض 500 درهم شهريا، ويستفيد من تقاعد مبكّر ومعاش أعلى. لا يجب أن تكون القوانين الجديدة للتقاعد صلبة، بل لا بد أن تكون مرنة لتناسب الجميع داخل أهداف الإصلاح نفسها وليس خارجها. -5 يمكن التفاوض أيضا مع الحكومة على استثناء أصحاب الدرجات الدنيا في الوظيفة العمومية من الزيادات التي ستعرفها الاقتطاعات الشهرية للموظفين، وتحميل هذه الزيادات لمساهمة الدولة في إطار تخفيف العبء عن ذوي الدخل المحدود، فيكفي أن هؤلاء سيساهمون في الإصلاح بتمديد عمر خدمتهم في الوظيفة العمومية، والتنازل عن جزء من معاشهم الذي سيحتسب على أساس معدل أجرهم خلال الثماني سنوات الأخيرة، وليس على أساس الراتب الشهري الأخير. إصلاح صناديق التقاعد ورش استراتيجي، ويجب ألا ندخل إليه الحسابات السياسوية الصغيرة أو مناورات «الشناقة» في سوق الغنم. إن إفلاس صناديق التقاعد في بعض دول أمريكا الجنوبية كان هو الشرارة التي أطلقت موجة من الثورات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، والتي دفع الجميع ثمنها غاليا.