بعد أيام قليلة من وصوله إلى المغرب، عائدا من رحلة انطلقت لدعم الحرية قبل ان يتحول المشاركون فيها الى "محتجزين" بعد ان حاصر الجيش الاسرائيلي اسطول الحرية المتجه لكسر الحصار عن قطاع غزة، يحكي محمد البقالي الصحافي بقناة الجزيرة الإخبارية "لليوم 24" التفاصيل الكاملة لرحلة سفينة "ماريان" السويدية، والصعوبات التي واجهتها، إضافة إلى عملية اقتحام الجنود الإسرائيليين للسفينة واعتقال من فيها. حدثنا عن بداية مشاركتك في أسطول الحرية 3؟ مشاركتي في تحالف أسطول الحرية جاءت في إطار مهني، لكن عندما يتعلق الأمر بفلسطين يصعب الفصل بين ما هو مهني وما هو ذاتي. فالأمر لا يتعلق برحلة عادية نحو بلد عادي، إنها رحلة نحو فلسطين بكل رمزيتها وثقلها الوجداني والنفسي، وهي أيضا رحلة لكسر الحصار وتحدي الاحتلال ونصرة المظلوم… وذلك كله كفيل بأن يكسر الحاجز بين ماهو مهني وما هو ذاتي، فتصبح الرحلة رحلتك الخاصة تخوض فيها تجربة استثنائية مهنيا وإنسانيا. وأصدقك القول في هذه الرحلة بالذات لم أكن فيها مجرد صحافي شاهد على الحدث، بل كنت جزءا من هذا الحدث نفسيا ووجدانيا، ولذلك لم أتردد لحظة واحدة في المشاركة رغم المخاطر والمصاعب التي كانت تحيط بهذه الرحلة. كيف تمت الانطلاقة؟ البداية كانت من جزيرة "كريت" اليونانية، بقينا هناك أربعة ايام ريثما تجمّع كل المشاركين وعددهم ثمانون معظمهم من الأجانب. لكن دعيني أقول ان انطلاق الرحلة لم يكن سلسا: تعرضت سفينتان لعطل في محركهما، وواجهتنا صعوبات الطقس حيث اضطررنا لتأجيل موعد الرحلة لثلاثة أيام بسبب الرياح، وحين قررنا الإبحار كانت رياح السياسة اليونانية تهب بغير ما تشتهي سفننا، فالبلد المعروف بدعمه للقضية الفلسطينية تعرّض لضغوط شديدة للحيلولة دون إبحار السفن من شواطئه، وقدرته على مقاومة هذه الضغوط بدت محدودة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة. لذلك كان الاتفاق على ألا تبحر السفن مجتمعة، وألا تلتحق السفينة ماريان التي أبحرت من السويد بالشواطئ اليونانية مخافة حجزها، على أن تلتحق بها مجموعتنا المشكلة مني ومن المصور ومن الرئيس المنصف المرزوقي والنائب باسل غطاس وشارلي أندرسون أحد النشطاء السويديين في سفينة صيد صغيرة. محاولتنا الأولى للإبحار فشلت بعد اعتراضنا من قبل الشرطة اليونانية، وتطلب الأمر اثنا عشر ساعة من الاتصالات بين المنظمين اليونانيين وحكومتهم قبل أن يُسمح لنا بالإبحار من جديد في الواحدة ليلا، ومن ثمّ التحقنا بالسفينة ماريان في المياه الدولية على أن تلتحق السفن الأخرى في اليومين التاليين، هكذا انطلق أسطول الحرية. ما هي المشاكل التي واجهتكم خلال الرحلة؟ من يسمع بسفينة ماريان ربما يعتقد أنها سفينة ركاب ضخمة توفر كل شروط الراحة على متنها، لكن الأمر ليس كذلك تماما، فالأمر يتعلق بسفينة صيد صغيرة كل شيء على متنها في حده الأدنى. لذلك واجهنا خلال الأيام الخمسة التي قضينا على ظهرها مشكلتين رئيسيتين : دوار البحر وما يرافقه من مشاكل صحية بسبب علو الأمواج، وتأرجح السفينة المستمر بسبب تلاطم الأمواج. فكان علينا التأقلم مع عملية التأرجح المستمر، كما لو كنا نوجد فوق أرضية متحركة طيلة الوقت، بحيث لا يمكنك أن تتحرك أو تمشي دون أن تتمسك بأعمدة السفينة وحبالها، وحتى عند النوم يجب عليك التأقلم مع النوم متأرجحا. هكذا تصبح تفاصيل الحياة اليومية البسيطة مثل الأكل والجلوس والحمام تمارين قاسية على ظهر السفينة بسبب صغرها وعلو الأمواج المحيطة بها. كيف كانت العلاقات بين ركاب "ماريان" علما أنكم لا تعرفون بعضكم من قبل؟ كانت رائعة… كأننا نعرف بعضنا منذ سنوات… صحيح أنها المرة الأولى التي نلتقي لكننا نلتقي حول هدف وغاية، ووحدة الهدف والغاية تصنع حالة تآلف استثنائية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضية إنسانية مثل قضية فلسطين. هذا بالإضافة إلى أن كل المشاركين هم نشطاء في القضايا الإنسانية وهم ذوو حس إنساني عال وراق وهو ما يجعل العلاقة تتم بسلاسة، أذكر أن لحظة وصولنا الى السفينة تحولت الى لحظة استقبال رائعة، كان حالنا أشبه بحال من يلتقي بعد غياب وليس من يلتقي لأول مرة. كانت هناك ثلاثة مبادئ تسود على ظهر السفينة: السلمية والمساواة والبساطة، وهذه المبادئ جعلت من رحلتنا لحظة إنسانية نادرة، في يومياتنا كنا نتبادل القصص والتجارب على اعتبار أن كلاّ منّا قادم من مشارب مختلفة عن الآخر، ونتناوب على تنظيف السفينة والأواني بدون استثناء، وأحيانا نسلي أنفسنا بالقفز والسباحة في البحر الذي يبلغ عمقه 1000 متر. وبالنسبة لي كانت لدي مهام أخرى مرتبطة بالعمل المهني: إعداد تقارير ومراسلات مباشرة ولم يكن الأمر سهلا في ظل عدم ثبات السفينة وضعف إشارة الأقمار الصناعية. ماذا عن الاقتحام الاسرائيلي؟ الأمر يتعلق بقرصنة بحرية أكثر من كونها اقتحاما، لأن اعتراضنا تم في المياه الدولية، والقانون الدولي واضح في هذا الشأن. فقد كنا على متن سفينة سويدية في المياه الدولية نتجه من اليونان الى غزة التي لا تخضع للاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فاعتراضنا من قبل البحرية الإسرائيلية يمثل من وجهة نظر القانون الدولي قرصنة بحرية وانتهاكا لقانون الملاحة بل واختطافا للسفينة وركابها. لكن إسرائيل فوق القانون كما نعلم. لو كانت دولة أخرى ارتبكت هذا الجرم ربما كان رد فعل العالم سيكون مختلفا. أما العملية فقد بدأت على الساعة الواحدة من ليلة الإثنين، كنا على بعد مائة كيلومتر من غزة حين أحاط سبعة من السفن والزوارق الحربية على متنها ما لا يقل عن مائتين وخمسين جنديا إسرائليا، كل ذلك من أجل السيطرة على ماريان المسكينة وهي السفينة التي تُقلّ على متنها 17 ناشطا سلميا. بداية، طلبوا منا عبر مكبرات الصوت التوقف وتسليم السفينة، لكن القبطان رفض بطبيعة الحال، فوقع الاقتحام الذي لم يتم دون عنف، بل تعرض فيه طاقم السفينة للضرب بالعصي الكهربائية من قبل الجيش الإسرائيلي، وبعد السيطرة على السفينة بدأت عملية التفتيش والتحقيق ومن ثَمّ تمّ اقتيادنا إلى ميناء اسدود، ومن هناك بدأت عملية تحقيق أخرى في مكان أشبه بمركز اعتقال، لنقتاد في نهاية المطاف إلى الزنازين، حيث بقينا فيها مددا مختلفة تراوحت بين يومين وخمسة أيام قبل أن يتم ترحيلنا. هل صادروا شيئا من أغراضك الخاصة عند الاعتقال أو التفتيش؟ أخذوا كل شيء.. الهواتف وأجهزة البث والواقي من الرصاص بل حتى الأوراق التي كنت أدون عليها ملاحظاتي، الأكثر من ذلك أنهم طلبوا مني الرمز السري للدخول الى هاتفي، رفضت ذلك طبعا.. ولأني كنت مدركا أنهم سيصادرون كل شيء فقد رميت بنفسي حاسوبي المحمول في البحر قبل وصولوهم حتى لا يطلعوا على محتوياته. ماذا عن منصف المرزوقي وما قيل حوله؟ أستغرب مما تم ترويجه ضد منصف المرزوقي في عدد من المنابر الإعلامية، اتهموه بأنه قدم للإسرائليين جواز سفر فرنسي وهذا غير صحيح بتاتا، وسبق أن وضّحت الأمر في تدوينة فيسبوكية، فقد قد جواز سفر تونسي. أعرف المنصف المرزوقي عن قرب منذ فترة عملي في تونس، ولذلك فقد كنا قريبين جدا من بعض بحكم علاقتنا السابقة، طيلة الأيام الستة التي استغرقتها الرحلة، بل إننا كنا ننام بجانب بعضنا على اسفنجات مهترئة، وقال لي المرزوقي إنها تذكره بأيام السجن. والحقيقة أن صورة الرجل لم تتغير في عيني خلال هذه الرحلة: وجدته رجلا صبورا متحملا لمشاق الرحلة ومتواضعا (وقد حكيت من قبل قصة غسيله للأواني في المطبخ)، وهو رجل محب للمغرب حتى النخاع، عاش ثلاث سنوات في طنجة قبل أن يشد الرحال لدارسة الطب في فرنسا. وقد أسر لي ذات مرة أنه يعتبر المغرب وطنه الثاني… وفي مناسبة أخرى كان حديثنا فيها عن طنجة، قال لي "أنا طنجاوي"، بل إن له أشقاء مغاربة من أبيه الذي تزوج من مغربية خلال فترة مقامه في المغرب. تحدث الكثير حول دوافع البعض للمشاركة في أسطول الحرية، أي أنها مجرد مشاركة استعراضية كما هو الحال مع المرزوقي وأبو زيد؟ هذا حديث في النوايا، واتهام النويا أمر لايليق، وهو نقاش غير ذي معنى ولا جدوى خاصة عندما يتعلق الأمر بقضية وطنية مثل قضية فلسطين. أتمنى بصدق أن يتم تنزيه القضية الفلسطينية عن مثل هذه الصراعات والحسابات والاتهامات.