“خصوم التغيير هم الاستبداد السياسي المدعوم من الرأسمالية واليسارية الانتهازية، والرجعية الدينية أو الدين التقليدي”، على شريعتي. كما حصل مع الحركة الوطنية المغربية، لم ينجح كل من خرج من عباءة الحركة الإسلامية الأم، جمعية الشبيبة الإسلامية، أفرادا وفصائل، في أن يكون بديلا عنها بعد استهدافها، لأنه لم يبق وفيا لفكرتها ويستمر في استكمال وتطوير مشروعها الذي انطلق عام 1969 وحصل على وصل التأسيس القانوني عام 1972، مشروع بدأ للتو يتخلق في رحم المجتمع المغربي ليعيده لأصوله الإسلامية عقيدة وتربية وسلوكا اجتماعيا وقيما أخلاقية. لقد لحق سخط الحركة الأم بجميع أبنائها، بل حتى الذين نسبوا أنفسهم إليها أو استفادوا من محنتها للحلول مكانها، أبناء اتخذوا من الاختلاف مع قيادتهم، في وقت عصيب وعاصف، بشأن منهج العمل والتنظيم وبشأن قضية اغتيال المناضل عمر بن جلون، التي نسبت إلى قيادتها، حسب الرواية الرسمية، اتخذوا من ذلك مبررا للتنكر لقيادتهم والعمل على تأسيس تنظيمات وصناعة زعامات انتهت، بعد سنوات، بخيبة أمل وإلى الطريق المسدود والمراوحة، تنظيمات وزعامات ومشاريع أحزاب وحركات منها من أدخلها النظام السجون ومنها من حلها وأقبر مشاريعها، ومنها من جعل منها مسخا بدون هوية ولا شخصية وأذابها في “أسيد” الحزبية حتى التحلل التنظيمي والفكري والسلوكي والأخلاقي، ومنها من لازال يروضها لتدجينها وإدماجها في نظامه في الوقت المخزني المناسب. هكذا فعل المخزن بالحركة الوطنية، زرع في رحمها الفرقة وشق صفها واستنبت منها أحزابا وتنظيمات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأضاف إلى المشهد السياسي ما سمي آنذاك ب”الأحزاب الإدارية” التي ولدت في ردهات القصر وأقبية وزارة الداخلية، واستقطب خير كوادر الحركة الوطنية للعمل لديه، حتى أوصل المشهد لحالة من العبث والعزوف السياسي وألحق الأحزاب بمؤسسات الدولة، يتدخل في اختيار أمنائها العامين ليؤثث بهم المشهد السياسي والحكومي كما يتمنى. لقد أنجبت الحركة الإسلامية، كما هي الحركة الوطنية من قبل، شخصيات، كانت عصية على المخزن على المستوى الفردي وليس المؤسسي، لا تباع ولا تشترى، شخصيات قاومت التهديد والإغراء، وفضلت أن تتولى إلى الظل للأبد وتغيب عن المشهد السياسي، ومنها السياسي الوطني عبد الله إبراهيم نموذجا، أو تهاجر في أرض الله الواسعة إيمانا واحتسابا، الشيخ والداعية عبد الكريم مطيع نموذجا، أو تدفع الثمن غاليا من حياتها في سبيل نضالها ومواقفها، المناضل عمر بن جلون نموذجا. جل حركات التحرر في العالم نجحت على المستوى الفردي في صنع شخصيات تحلت بقيم سامية وبقيت وفية لفكرتها ومشروعها في المعارضة أو في السلطة، بل دفعت ضريبة غالية من أجل مواقفها ومشروعها وقناعاتها، لكنها فشلت كمؤسسة، للأسف، أن تحافظ على هذه القيم وهذا المشروع لما استلمت السلطة وتولت المناصب واستمتعت بالمكاسب، كما هو الحال عندنا خلال حكومة التناوب المجازي عام 1998 بقيادة عبد الرحمن اليوسفي، وحكومة ما بعد حركة 20 فبراير برئاسة عبد الإله بنكيران عام 2012، وحكومة سعد الدين العثماني ابتداء من عام 2017، حكومات جمعت بالسياسة ما لم تجمعه الطبيعة، جمعت أحزابا انتهازية فاقدة للشرعية الشعبية ولمشروع التغيير السياسي الحقيقي الذي ناضل من أجله القيادي اليساري عمر بن جلون والشيخ الداعية عبد الكريم مطيع وآخرون من قامات الحركة الوطنية والإسلامية عبر تاريخنا المعاصر. المناضل عمر بن جلون، (1936-1975)، قيادي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والشيخ عبد الكريم مطيع، (1935)، زعيم جمعية الشبيبة الإسلامية، كانا من هذه الشخصيات المناضلة والمعادن العصية على المخزن، وكانا من خير ما أنجبت الحركة الوطنية والحركة الإسلامية. لقد كانا معا جزء من الإرث التحرري للحركة الوطنية، ومن مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وأول من وضع اللبنة الأولى لنقابة العمال والتعليم، وهما قطاعان يشكلان عصب الحياة السياسية والاجتماعية، ويمثلان حتى الآن قلقا مزمنا للنظام ولطبقته الأوليجارشية البورجوازية الطفلية وإقطاعية الاستعباد. لم يكن المناضل عمر بن جلون يشكل بخطابه الثوري ووعيه النقابي التقدمي قلقا فقط للمخزن، وهو القادم من جناح الدارالبيضاء، الخط الثوري، وإنما أيضا لقيادات داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أو ما يسمى بجناح الرباط الداعي للتغيير من داخل المؤسسات بقيادة عبد الرحيم بوعبيد، الذي انشق عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1974، سنة فقط قبل اغتيال بن جلون عام 1975. هناك سؤال تاريخي مشروع، ماذا يفعل هذا المناضل الثوري في حزب منشق بدأ يرسم طريقه بعناية نحو بيت الطاعة والمكاسب والمناصب؟ لقد وجد المخزن نفسه وجهات يسارية وإسلامية أخرى من ناحية أمام المناضل عمر بن جلون، وقد برز كصوت سياسي معارض شرس ونقابي صلب، ومن ناحية أخرى أمام الشيخ والداعية عبد الكريم مطيع، وهو أيضا قيادة ملتزمة حصيفة ومتمرسة، استطاع خلال ثلاث سنوات فقط أن يبني حركة إسلامية حديثة ومتجذرة في ثنايا المجتمع، جمعية متعددة الأنشطة التربوية والاجتماعية، ودعوة اكتسحت العديد من المدن والقرى في زمن قياسي، وأسس عملا نقابيا رائدا في قطاع التعليم. إنهما قيادتان ملأتا المشهد بحركيتهما وشخصيتهما الكاريزمية. لقد كان من الطبيعي أن يزعجا النظام السياسي واليسار الانتهازي والرجعية الدينية الجامدة. أمام هذا الواقع، أصبحت التصفية الجسدية للمناضل عمر بن جلون، والتصفية السياسية للشيخ عبد الكريم مطيع “مصلحة ضرورية” بالنسبة لجميع الأطراف المستفيدة من تغييبهما عن المشهد الدنيوي والسياسي، الأول إلى الصمت الأبدي، والثاني إلى المنفى والمطاردة لقرابة نصف قرن حتى الآن. هناك سؤال يطرح دائما في علم الجريمة، من المستفيد من هذه الجريمة المزدوجة، ونعيد طرحه اليوم، من المستفيد من اغتيال المناضل السياسي والنقابي عمر بن جلون جسديا واغتيال الشيخ والداعية عبد الكريم مطيع سياسيا؟ إن ما آلت إليه الأوضاع اليوم من مشهد سياسي هزيل وبئيس وما أصبح عليه أبناء الحركة الإسلامية الأم أو من يدعي ذلك من ضياع ومراوحة من جهة، وما انتهى إليه أبناء اليسار من تكالب وانتهازية وانبطاح وسقوط قيم ومواقف من جهة أخرى، الذي انشق عن حزب الاستقلال على اعتبار أنه رجعي ومخزني، يجيب على السؤال الذي بقي معلقا لقرابة نصف قرن. إن المستفيد الموضوعي من الاغتيال الجسدي والسياسي لكلا القيادتين الوطنية والإسلامية، المناضل عمر بن جلون والداعية عبد الكريم مطيع، هو النظام بطبيعة الحال، والاتحاد الاشتراكي في حكومة عبد الرحمن اليوسفي، 1998-2002، وحكومتي عبد الإله بنكيران، 2012-2016، وسعد الدين العثماني، 2017 حتى الآن، بحيث لم تعمل هذه الحكومات اليسارية والإسلامية على معالجة هذا الملف الوطني الخطير، حكومة اليسار اكتفت بالمتاجرة بدم المناضل عمر بن جلون وابتزاز النظام والإسلاميين، وكانت تملك الوسائل القانونية والتنفيذية لإظهار الحقيقة، بل تعرف حقيقة ما جرى يوم 18 دجنبر 1975، وحكومة الإسلاميين، تلامذة الشيخ عبد الكريم مطيع وأبناء الحركة الأم في أغلبهم، عملت بكل وسعها لكي لا يعالج هذا الملف، خاصة فيما يتعلق بعودة الشيخ مطيع لوطنه وإماطة اللثام عن هوية الجهات المسؤولة عن تصفية المناضل عمر بن جلون. يقال إنه عندما غاب نبي الله موسى عليه السلام لميقات ربه، ظهر السامري ليسحر الناس ويجعل لهم إلها يعبدونه من دون الله، لكن عند عودة موسى إلي قومه انتهى دور السامري وسحره وافتراؤه على الله وأحرق العجل ونسف به الأرض. هذا ما كان يخافه المستفيدون، ظهور الحقيقة وبراءة وعودة الشيخ عبد الكريم مطيع لوطنه، مؤسس العمل الإسلامي بالمغرب، ومعرفة ملابسات اغتيال المناضل عمر بن جلون. من المصادفات في تاريخنا السياسي المعاصر أن تسبق الصفقات السياسية بين القوى السياسية والقصر تصفيات جسدية وسياسية لازالت تلقي بظلالها منذ الاستقلال على حياتنا السياسية والاجتماعية، من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، اغتيال المقاوم الوطني عباس المسعدي عام 1956، سنة بعد الاستقلال، والمقاوم الوطني أحمد أكوليز الملقب ب “شيخ العرب” عام 1964، أشهر بعد محاولة اغتيال بن جلون وقبل اغتيال بن بركة وإعلان حالة الاستثناء، والقيادي اليساري المهدي بن بركة عام 1965، وهي السنة الدامية لأحداث الدارالبيضاء، بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني، وحالة الاستثناء التي فرضها أعوام 1965-1970 وقوض بها عمل المؤسسات الدستورية على هشاشتها وصوريتها. كما تعرض المناضل عمر بن جلون عام 1973 لمحاولة اغتيال بطرد ملغوم، ليعقبها انشقاق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن الحزب الأم عام 1974، ثم بعد ذلك بسنة تتم عملية تصفية عمر بن جلون يوم 18 دجنبر 1975، شهر ونصف بعد انطلاق المسيرة الخضراء في السادس من نوفمبر من نفس السنة، مسيرة دعا إليها الحسن الثاني جميع الأحزاب والهيئات للمشاركة فيها ليقطع بها جميع الرؤوس المعارضة، إلا جمعية الشبيبة الإسلامية بقيادة الشيخ عبد الكريم مطيع لم تستجب لهذا النداء لأسباب سياسية حول كيفية تدبير هذا الملف من قبل القصر. ما كان للحسن الثاني أن يغفر للشيخ مطيع هذا الموقف أبدا. إنه نفس القدر والمصير الذي جمع بين الرجلين قبل سنوات في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وفي العمل النقابي العمالي والتعليمي، هو نفسه الذي حكم عليهما وهما في مقتبل العمر وسن العطاء الفكري والسياسي والنضالي، عمر بن جلون إلى دار البقاء وعبد الكريم مطيع إلى دار المنفى، وبذلك خلت الساحة للراقصين على جراح وآلام الشعب المغربي وشريحته العمالية الكادحة والتعليمية المظلومة. لقد كان هدف الجهات التي خططت لهذا السيناريو الأسود أن تخلو لها الساحة لتعقد قران متعة بينها من جهة، رغم التناقضات الفكرية والإيديولوجية، وبينها وبين القصر من جهة أخرى، فقادت هذه الجهات حكومات متتالية تضم تحالفات وأحزاب ما كان لها أن ترتاح في زمن المناضل عمر بن جلون والداعية عبد الكريم مطيع نظرا لمواقفهما الثابتة ونضالهما الضروس ووضوح رؤيتهما وفهمهما لطبيعة الصراع وخريطة الخصوم داخل دائرتيهما اليسارية والإسلامية وفي دائرة النظام وحلفائه، حكومات جمعت كل الأجناس الحزبية والإيديولوجية في قالب واحد، إذ لم يعد هناك اختلاف لا في البرامج ولا في الإيديولوجية ولا في المرجعيات، دخل الكل أو الجل بيت الطاعة. لقد كان المناضل عمر بن جلون يمثل خطا سياسيا وإيديولوجيا ثوريا داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وفي دائرة اليسار عموما رغم أن مكانه الطبيعي هو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهذا أمر لازال محيرا وعصيا على الفهم والتفسير، وكان الداعية عبد الكريم مطيع يمثل قراءة جديدة للدعوة الإسلامية متقدما بفقهه وطرحه التربوي والسياسي على التجارب الإسلامية التقليدية المغشوشة. لقد أصبح الحسن الثاني بعد التصفية السياسية للوطني الشريف عبد الله إبراهيم وحكومته عام 1960، واغتيال المهدي بن بركة عام 1965، وبعد حالة الاستثناء بين عامي 1965 و1970، و فشل الانقلابين العسكريين،1971-1972، وانشقاق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن الحزب الأم عام 1974، وبعد المسيرة الخضراء في نوفمبر 1975، والتصفية الجسدية للمناضل اليساري عمر بن جلون والسياسية للشيخ عبد الكريم مطيع عام 1975، لقد أصبح بعد كل هذا ملكا مطلقا يضع قواعد وشروط اللعبة السياسية كما يحلو له دون حسيب ولا رقيب حتى جاء تقرير البنك الدولي، “السكتة القلبية”، لعام 1996، ليبرم “صفقة القسم” مع الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي، ليس لإنقاذ البلاد أو الاقتصاد المغربي من “السكتة القلبية”، وإنما لإنقاذ الملكية من موت سريري محقق. جزء من “صفقة القسم” بين اليوسفي والحسن الثاني كان حول ألا يفتح اليوسفي بعض الملفات الحساسة والخطيرة قد تعرض الملكية لأزمة، وهي في منعطف انتقال الحكم من الأب للابن، خاصة ملف المهدي بن بركة وعمر بن جلون، حينما سيتولى منصب الوزير الأول لحكومة 1998، ليضحى به عام 2002، وقد كان يأمل أن يعاد تعيينه في المنصب لولاية ثانية اعترافا بخدماته، عندها فقط وصف تنحيته من المنصب بالخروج عن “المنهجية الديمقراطية”، وقد نسي أو تناسى بأن الخروج الحقيقي عن “المنهجية الديمقراطية” هي الصفقة التي أبرمها مع الحسن الثاني. لقد كان دوره المحدد هو الإشراف على انتقال السلطة بسلاسة للملك محمد السادس بعد وفاة والده. لقد وفى اليوسفي بوعده وبر بقسمه، إلا أنه غادر الحياة السياسية بغصة في حلقه، ولم يفتح ملف الاغتيالات الجسدية والسياسية، وجاء عبد الإله بنكيران لرئاسة حكومة 2012-2016، وغادر هو الآخر الحكومة وقيادة الحزب بطعنة في ظهره ولم يفتح هذه الملفات السياسية الحارقة. الأول أنقذ الملكية من “السكتة القلبية” وأمّن انتقال الحكم من الأب لنجله، والثاني أنقذ الملكية من “الانفجار الاجتماعي” مع انطلاق شرارة الثورات العربية وحركة 20 فبراير عام 2011. أما سعد العثماني، رئيس حكومة 2017 حتى اليوم، فكانت مهمته إقبار تجربة حكومة بنكيران وضرب حزب العدالة والتنمية في وحدته وتماسكه التنظيمي والسياسي، ولأنه كان متلهفا ومهرولا لنيل الرضا المولوي والمنصب والعودة لرئاسة الأمانة العامة للحزب، لحسابات في نفسه، فإنه لم يفتح ملف المناضل عمر بن جلون والداعية عبد الكريم مطيع، وأنّى له ذلك. إن اغتيال المناضل بنجلون جسديا والداعية مطيع سياسيا هو جريمة سياسية وليست فعلا إجراميا عاديا نتج عن ردة فعل غاضبة أفضلت لقتل غير مقصود، وهي أيضا مخطط امتدت خيوطه وأطرافه للعديد من الشخصيات السياسية، ذكرت في العديد من الشهادات والوثائق، كما أن هناك علامات استفهام غامضة لازالت تطرح حول بعض العناصر والأدوات التي استخدمت لتنفيذ هذا المخطط الإجرامي، منها من صرح بعد سنوات من السجن، مصطفى خراز، بأن جمعية الشبيبة الإسلامية وزعيمها الشيخ عبد الكريم مطيع لا علاقة لها البتة بهذه الجريمة، ومنها من لازال بدون أي أثر يذكر وكان ضليعا في الجريمة حسب الشهادات والقرائن، المدعو عبد العزيز النعماني، والذي ارتبط اسمه بجراح الولادات الحزبية القيصرية ورجل المخزن المخلص الدكتور عبد الكريم الخطيب بعد تنفيذ جريمة اغتيال المناضل عمر بن جلون، قبل أن يتوارى عن الأنظار إلى الآن. لقد ألقي القبض على الرجل الثاني في جمعية الشبيبة الإسلامية علي ذمة القضية، إبراهيم كمال، ثم تمت تبرئته بعد قضاء خمس سنوات في الاعتقال الاحتياطي(!)، فلماذا بقي ملف الشيخ مطيع معلقا حتى اليوم بالرغم من كل هذه الشهادات والبراءة ولم تظهر حقيقة اغتيال المناضل عمر بن جلون؟ كان الدكتور الخطيب يكلف دائما بإجراء العمليات السياسية العصية على النجاح، ففي عام 1959 شارك إلى جانب لحسن اليوسي ومبارك البكاى و”الزايغ” عراب المخزن والضابط في الجيش الفرنسي خلال الاستعمار، المحجوبي أحرضان، في تأسيس الحركة الشعبية في المشوَر(وهو القصر الملكي) على أساس خلفية قروية أمازيغية لمواجهة حزب الاستقلال ذي الخلفية البورجوازية الحضرية، لينشق عنها عام 1967، ثم شارك عام 1963 إلى جانب صديق ومستشار الحسن الثاني، أحمد رضا كديرة في تأسيس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية بنكهة تقدمية، الفديك، للمشاركة في انتخابات 1963 التشريعية ومضايقة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية صاحب النفوذ والشعبية في جل القطاعات الخدمية والعمالية، ثم دخل بعد ذلك في حالة سبات سياسي لثلاثة عقود، ليوقظه القصر من سباته عام 1996 للإشراف شخصيا على إجراء ولادة قيصرية وهي أكبر عملية غسيل سياسي وإعادة تأهيل لإسلاميي حركة التوحيد والإصلاح، كيان هجين طبخ على عجل، جمع حركتي الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، كيان وضعه الخطيب تحت عباءة “الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية” المجمدة لقرابة ثلاثة عقود، ثم أخرجه في قالب جديد عام 1998 سمي بحزب العدالة والتنمية لطمس الجذور المخزنية للحركة الأم. لكن، كما قالت العرب، العرق دساس، ثم إن لعنة النشأة ( le péché originel بالفرنسية )غير الطبيعية ستطارد هذه الحزب إلى يوم البعث السياسي، كما تطارد اليوم لعنة النشأة “حزب الأصالة والمعاصرة”، البام، وريث جبهة “الفديك”. ليس هناك ملف في الحياة الحزبية والسياسية المغربية في مرحلة ما قبل وبعد الاستقلال التفاوضي إلا وللدكتور الخطيب يدٌ فيه، وبالرغم من سباته السياسي لثلاثة عقود، بقي يلعب أدوارا محورية خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة لفائدة القصر فقط وواجه كل خصومه ولم يتردد في استعمال كل الوسائل من أجل ذلك حتى لقي ربه بما له وما عليه. إذا كان الحسد داء العلماء، فإن الحسد والدسيسة هما داء الساسة. لقد انتقل الكثيرون إلى الله ممن ارتبطت أسماؤهم بهذه الأحداث والمأساة، ملكا وساسة وضحايا، لينظر في أعمالهم وخصوماتهم ودمائهم وذممهم، وبقي البعض طاعنا في السن يحمل معه بعض أسرار وخفايا هذه المرحلة السوداء من تاريخنا السياسي المعاصر، من اليساريين والإسلاميين، كما سبق أن أغلق الحسن الثاني ملف صراعه مع اليسار بالعفو العام سنة 1994، قبل أن يودع الحياة، والسماح للمنفيين والمبعدين اليساريين بالعودة للوطن ومغادرة السجون بعد نهاية حقبة الحرب الباردة عام 1991 ووصول أحزاب اليسار إلى السلطة في كثير من دول أوروبا خلال العقد التاسع من القرن الماضي، من بينهم، عبد الرحمن اليوسفي، 1980، والفقيه البصري، 1996، كما عاد إلى المغرب في عهد الملك محمد السادس مومن الديوري، 2006، وأبراهام السرفاتي، 1999. لقد كان من بين قادة اليسار من تآمر على الملكية ورفع السلاح في وجهها ونفذ عمليات دامية بالمغرب وحُكِمَ عليه بالإعدام والسجن المؤبد غيابيا وأبعِد من المغرب، ثم عادوا ليتولوا مناصب سامية، مثل عبد الرحمن اليوسفي، ورئاسة هيئات ومستشارين بمؤسسات وطنية، مثل إدريس بن زكري وأبرهام السرفاتي، كما رفع الحظر جزئيا في عهد الملك محمد السادس عن ملف المهدي بن بركة، من قبيل إطلاق اسمه على أحد شوارع الرباط، ورفِعت الإقامة الجبرية عن مرشد جماعة العدل والإحسان، المرحوم الشيخ عبد السلام ياسين بعد عشرة سنوات. كما صدر عفو ملكي عن العديد من قيادات ما يسمى ب “السلفية الجهادية” عام 2011، وعاد أيضا بعض أبناء جمعية الشبيبة الإسلامية للمغرب عام 2015 بعد تقادم الأحكام القضائية التي صدرت في حقهم قبل ثلاثة عقود، بل حتى عتاة المجرمين من معتقلي الحق العام يتمتعون بالعفو الملكي، بل وحتى مغتصب الأطفال المغاربة دانيال كلفان الإسباني، فلماذا لم يشمل هذا القرار الملكي قادة وأبناء جمعية الشبيبة الإسلامية المظلومين وغيرهم، وعلى رأسهم الشيخ والداعية عبد الكريم مطيع وقد برأتهم هيئة رسمية، هيئة الإنصاف والمصالحة، ومر على محنتهم قرابة نصف قرن؟ لم يكن العفو العام الملكي على قيادات يسارية من الداخل والخارج قرار عاطفيا، لأن الملوك لا عاطفة لهم في شؤون الدولة وسياسة الرعية، وإنما كان حسابا دقيقا لمشهد بدأ الحسن الثاني يفكر فيه مبكرا لتأثيثه بكل تفاصيله وأدواته وأطرافه قبل أن يسلم الحكم لنجله، إذ أسر لصهره عبد اللطيف الفيلالي، الوزير الأول ووزير الخارجية، عام 1997، بحضور مستشاره إدريس السلاوي، أنه يفكر في تناوب يقوده عبد الرحمن اليوسفي، المحكوم غيابيا بالإعدام والمنفي في فرنسا. لقد كان تفكير الملك الراحل منصبا على انتقال الحكم في سياق وضع اقتصادي متدهور واجتماعي محتقن وفراغ سياسي في الحكم محتمل إذا أصابه مكروه، إذ كان المرض قد بدأ يدب في جسده قبيل التقرير الطبي الأمريكي الذي صدر عام 1995 خلال زيارته لنيويورك للمشاركة في الذكرى الخمسين لتأسيس الأممالمتحدة، تقرير حدد للملك أربع سنوات لتغيب شمسه إلى الأبد عام 1999، ويورث لنجله مُلكا مثقلا بالأعباء، وملكية مثخنة بالجراح وأضعفتها الشيخوخة، وشعبا غاضبا يريد حياة أفضل، وخصوما سياسيين كثر، وطامعين متربصين على الحدود الأربعة للدولة، ودولة عميقة تجاوزت مطامعها ومطامحها حدود الاقتصاد والسلطة ووضعت يدها على مقاليد الحكم ومؤسسات الدولة وعلى الديبلوماسية والإعلام الرسمي و جزء من غير الرسمي. إن القول بأن أحكام الإعدام التي صدرت عن القضاء ضد الشيخ مطيع وقيادات من الشبيبة الإسلامية قد سقطت بالتقادم لا يصح إلا في حالة الجريمة العامة، وحالة تصفية المناضل عمر بن جلون جسديا والشيخ الداعية عبد الكريم مطيع سياسيا هي جريمة سياسية بامتياز، يجب على الدولة، بل على رئيس الدولة الحالي، وهو لا علاقة له بتلك الأحداث المؤلمة من سنوات الرصاص في تلك المرحلة من الصراع بين والده وخصومه، يجب أن يتخذ قرارا سياسيا بهذا الشأن، كما اتخذه والده الراحل عام 1994، لتكون هناك مصالحة حقيقية تقطع مع الماضي نهائيا ويرد الاعتبار لمن لحق بهم الضيم والضرر ودفعوا الثمن غاليا من أعمارهم بعيدا عن أوطانهم وتعويضهم على ذلك الضرر الجسيم. إذا كانت هيئة الإنصاف والمصالحة قد تناولت في أغلب الحالات والملفات التي عرضت عليها وشملت فترة حكم الحسن الثاني، 1961-1999، تتعلق باليساريين، وهم بحق أكبر ضحايا سنوات الرصاص، فإن المغرب في حاجة اليوم إلى هيئة إنصاف ومصالحة جديدة، بعد مرور عقدين على تولي الملك الجديد الحكم، للنظر في مظالم طالت أبناء الحركة الإسلامية وتعويضهم، وعلى رأسهم الشيخ الداعية عبد الكريم مطيع وإخوانه، وإصدار قرار سياسي يبرئهم من تلك الجريمة البشعة التي راح ضحيتها المناضل عمر بن جلون، ليعودوا لأهلهم ووطنهم، عودة تحفظ لهم حقوقهم وكرامتهم. إن الوطن أكبر من أن يضيق بأحد أو يتسع للبعض دون غيرهم، ولا يكون الوطن وطنا إذا لم يتسع لجميع أبنائه مهما اختلفوا وتباينت رؤاهم وأفكارهم السياسية. لقد كشفت الأحداث والتغيرات منذ عام 2011 حتى الآن وأظهرت الدراسات الأكاديمية والعلمية والاستراتيجية في الغرب بأنه ابتداء من العقد الثالث من الألفية الثالثة والتي تليها، سيكون الإسلام كنظام حكم مركز الأحداث والتغيرات في العالم العربي والإسلامي والعالم أجمع، لذلك يجب على العقلاء اللحاق بركبه، وإلا سيخسر الجميع، الوطن والدولة، والشواهد اليوم وفي التاريخ المعاصر كثيرة. د/ علاء الدين بنهادي باحث وأستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري