في كلّ مناسبة يثار فيها موضوع التّأريخ للحركة الإسلامية في المغرب، يطرح تحدّي آخر غير تحدّي المنهجية المزمن في تقاليد تدبيرنا لمجاهيل الموضوعات، ألا وهو ما يتعلّق بقاعدة المعطيات الضرورية التي لا يستغنى عنها في بناء تّصور كامل عن تجربة، لا زلت أعتبرها ملتبسة نتيجة تداخلات ذاتية/موضوعية لم يفرج عن حقائقها حتّى اليوم. وهذه المقالة ترمي إلى توضيح ما كنّا سمّيناه النّشأة الملتبسة للحركة الإسلامية المغربية، قبل أن تصبح حديث الغادي والبادي بعد أن لم يعد يعرف من مسارها سوى مظاهرها الملوّنة الجديدة وتمثّلاتها الفكروية المستحدثة. وإذا كان فعل التّأريخ والتوثيق هو من أصعب الفنون والمهام وأمحنها حتّى في حقير الشّؤون بله خطيرها، فإنّ توثيق ذاكرة الحركة الإسلامية والتّأريخ لأهم مراحل وفصول مسارها المتعرّج يكاد يكون في عداد المتعذّر حتى لا نقول المستحيل. فالحقائق هنا تقتلع اقتلاع الضرس من فم المضروس. وتنتزع انتزاع البوح من صدور منطوية على حزن تراجيديّ عميق. وهي تأتي نثارات كالّرذاذ بلا رواء. وتبدو كالسّراب يحسبها الضمآن إلى الحقائق، ماء. كما أنّ الحقائق هنا تتضارب بما يجعل تحقيقها وتشخيصها وتمييز صحيحها من عليلها، حقيقها من حشيّها، فضلا عن تحليلها أمرا في غاية الصّعوبة. كما أنّ مزاعم وادعاءات كثيرة قد تواجه الباحث وهو يتيه بين الصحيح والمغشوش من مرجعياتها. فقد باتت حركة الشبيبة الإسلامية بفعل هذا الواقع أشبه ما تكون بشبيبات إسلامية. ليس بسبب أنّ ثمة خطوطا اخترقت الشبيبة نفسها وتغذّت على رصيدها الدّعوي فيما كانت تدبّر ما لا عهد به لمنتميها وبعض قادتها، فحسب، بل أيضا بسبب كثرة المتحدّثين عن الشبيبة ممن لم يقفوا على المطبخ الدّاخلي الذي كانت تحبك فيه أشياء أخرى غير ما كان من شأن الدّعوة . الكلّ يعطيك قدر عقلك من وهم الكلام. والبعض يفاخرك بموقع في الشبيبة لم يكن فيه فاعلا ولا مفعولا به. وقد يفاخرك بموقع كان فيه مفعولا به لا فاعلا. مع أنّ العارفين بخبايا شؤونها عبر مسارها المتعرّج هم بنذرة الكبريت الأحمر. فمن ظلّ وفيّا لانتمائه على نقاء فطرته لهذا المكوّن مهما بلغ في قدم الانتماء، ستغيب عنه فصول مهمّة منها، لأنّه لم ينتم لمطبخها الدّاخلي وخطوطها المعنية باللّعبة السياسية، فما بالك بمن ليس له عهد إلاّ بجلساتها البعيدة كما كان يقضي انقسامها الخلوي. وربما كان في عداد الكومبّارس الذي كان يشكّل غطاء طيّبا لألعاب قذرة تدبّر في أخفى الخفاء. لكنّنا لا نعتبره تأريخا مستحيلا إلاّ بالقدر الذي يتمنّع صنّاعه عن البوح الصّريح ويمتنع الواقع عن سماع ما لم يعتد على سماعه من شؤون تجربة ظلم أهلها الحقيقيون وكرّم دخلاؤها العابثون. وما نقدّمه هنا ليس سوى فاتحة لما ينبغي المضيّ فيه توسّعا وتفصيلا. وهي مقبّلات ليس إلاّ تفتح شهية الباحث للوقوف على ما خفي من حقائق لا زالت تنوء بها صفحات مجهولة من تاريخ الحركة الإسلامية المغربية، التي كادت تصاب بالخرس من شدّة الصّمت والبعد عن توثيق ذاكرتها الحقيقية. وعموميات تنطوي على تفاصيل غاية في الأهمية. ولقد وجدت في مناسبة تكريم الأستاذ إبراهيم كمال الذي احتضنه المركب الثقافي(كمال الزبدي) بسيدي عثمان بالدار البيضاء ، يوم الجمعة من شهر أبريل 2012م، فرصة مناسبة لتحرير بعض من الحقائق عن هذه التجربة سيتعرّف عليها الرّأي العام للمرّة الأولى؛ لم أتحدّث عنها إلاّ بعد أن تأكّدت من صحّتها بالتحليل والمقارنة بين الحقائق والمعلومات التي تعددت مصادرها وأحيانا اختلفت وتناقضت. هذا في سياق تعزيز الموقف من براءة الشيخ إبراهيم كمال من كثير من تلك المغامرات التي لا زلت أصادف من لا يراه منها براء، وفي طليعتها حدث اغتيال المناضل المغربي عمر بن جلون في 18 دجنبر 1975م. وأيضا لتوضيح ما نعنيه بالتباس نشأة وتاريخ الحركة الإسلامية المغربية . من شأن هذا أن يشكّل دفعة أو إطارا لتحقيق القول في تجربة لازالت ضحية جهل عريض؛ ليس فقط من طرف من اشتغل عليها من الدارسين الأباعد، بل باتت على الغموض والالتباس نفسه حتى عند أبنائها والمشتغلين عليها من الأقارب. فلا يخفى أنّ جزء من تلك الحقائق لا يزال يتمنّع عن الصّدور. وقسم كبير من تلك المعطيات دفنت في صدور قادتها القدامى أو ماتت مع بعض من الواقفين على منعطفاتها، على يأس مرير أو رهاب مزمن لم تشف منه بعد؛ مع أنّها تدفع أثمان هذا الرهاب غاليا من كيس سمعتها ومصداقيتها . ماذا يعني تكريم الشيخ إبراهيم كمال أقيم حفل مهيب لتكريم أحد رجالات الدعوة والحركة الوطنية وكبير مؤسسي الحركة الإسلامية المغربية المعاصرة : الشيخ إبراهيم كمال بمبادرة من بعض محبّيه في التأريخ والمكان المذكورين أعلاه. حضر الحفل رموز الحركة الإسلامية القدامى من أبناء حركة الشبيبة الإسلامية؛ حركة لا تزال تحتفظ بذاكرة شباب بريء نقيّ ، وإن كان بعض قادتها لاعبا شقيّا مريبا. كانت المناسبة فرصة لتجديد العهد بذاكرة الحركة الإسلامية التي لا زالت لم توثّق بعد ويكتنفها الكثير من سوء الفهم الكبير. وإذا كان الالتباس هو المظهر الطاغي على تاريخ الحركة الإسلامية المغربية، فإنّ هذا الالتباس يتراجع كلّما عدنا إلى منبعها النّقي، وتحديدا إلى أبرز رجالاتها نقاء وبعدا عن الالتباس، ألا وهو الشيخ كمال إبراهيم. أعني أن الالتباس طرأ على الحركة الإسلامية المغربية مع غياب إبراهيم كمال؛ وكأنّ غيابه كان شرطا ضروريا لولوجها عهد الالتباس. هذا يعني أن تغييب إبراهيم كمال كان عملا ممنهجا وليس محض مصادفة. في هذه المناسبة أشكر أصدقائي من أبناء الشبيبة الذين قدّموا لي دعوة للحضور وأيضا لإلقاء كلمة في حق الأستاذ إبراهيم كمال، حيث نقلوني إلى أجواء البراءة والصفاء وتجارب الالتزام الأولى بصوابها وأخطائها.. بنبل الصّادقين من أبنائها وبشقاوة بعض رموزها..بكل هذه المتناقضات التي وسمت التجارب التّيّارية والحزبية في مغرب تصلّبت فيه السلطة و تشاقت فيه التيارات الأيديولوجية في سنوات الرصاص. يوم تحوّلت الحركة الإسلامية إلى حالة أفقية أصبح فيها كلّ إسلامي هو بالضرورة منحدر بالأصالة أو بالواسطة من حركة الشبيبة الإسلامية. لأنّها كانت النبتة الأولى لتجارب ما سيعرف بعد ذلك بالإسلام السياسي في المغرب المعاصر. لم يكن حضوري ولا كلمتي في مناسبة تكريم الأستاذ إبراهيم كمال، مجرد مجاملة في حقّ رائد الحركة الإسلامية المغربية المعاصرة وأبيها الرّوحي، ولكنها لحظة اعتراف بجهاد واجتهاد هذا الرّجل. ولحظة إيضاح وكشف عن حقيقة لا بدّ من ذكرها، ألا وهي أنّ تجربة الحركة الإسلامية المغربية كانت منذ نشأتها الأولى ذات شقين : الشّق المبدئي والأصيل بمدلوله الدّعوي والتربوي والرّوحي والذي يمثّله الأستاذ إبراهيم كمال؛ وربما لهذا السبب كان ضحية للعبة سياسية لم يكن في واردها. وهناك الشّق السياسي المتعلّق برهانات اللعبة السياسية بكلّ ملابساتها وتمثّلاتها الأيديولوجية السياسية، ويمثّله الأستاذ عبد الكريم مطيع. إنّ هذا لا يعني أنّ عبد الكريم مطيع ليس له تأثير وحضور خاص في مشهد الحركة الإسلامية المغربية ولا بصمة في خطابها الأيديولوجي، بل لقد كان مطيع رجلا سياسيّا بالدّرجة الأولى وله خبرة ومعرفة بلعبتها كاتحادي معتّق أكثر مما كان قائدا دينيا. ولحظة التّأسيس للحركة الإسلامية في ظروفها الصّعبة كانت تقتضي حضور شخصية سياسية ذات حنكة براغماتية وإحاطة بدهاليز السياسة. لكن السياسة بقدر ما تنفع تقتل. وبقدر ما تمارسها تمارس عليك مهما بلغ المرء من دهاء. ولقد كان مقتل الشبيبة في قدر أبنائها السياسي. أي حينما جهل أبناؤها السياسة في مبتدئهم، مورست عليهم بأشكال أخرى في خبرهم. وربما دفعت الحركة الإسلامية المغربية ولا زالت الثّمن غاليا بسبب دروشتها السّياسية. وهو المقتل الذي عزّز كون حركة الشبيبة الإسلامية لم تكن تخضع لوحدة القيادة بل تعدّدت قيادتها النافذة واستغل بعض قادتها قيادات أخرى ضمن مخطط طبخ من خارج الشبيبة الإسلامية. كان دور إبراهيم كمال تربويا توجيهيا أكثر مما كان دورا سياسيّا. فبفضل إبراهيم كمال وجهوده والإرث التربوي الذي خلّفه من ورائه كان جميع الإسلاميين قد انتقلوا إلى مستوى آخر من الفهم الدّيني الحركي. مع هذا الإرث التربوي أصبح للدين حمولة جديدة تختلف في شدّة الالتزام وسعة دائرته.حصل هذا قبل أن ينفرط عقد الحركة الإسلامية وتصبح القاعدة بلا قيادة، ودخل الجميع (كومة) الالتباس وأصبح أبناء الحركة الإسلامية في وضعية اليتامى، فشرقوا وغرّبوا. ففي سابقة من نوعها تصدّى شباب عديم العلم والخبرة لقيادتها، على جهل بمقاصد الشّرع وقلّة خبرة في التّدبير وخوف عارم يقلق البال ويخنق الصّدور. هذا هو الاستثناء الذي بات قدرنا في المغرب. استثناء بسلبه وإيجابه.. بحلوه ومرّه. ولا شكّ أنّ للحركة الإسلامية المغربية نصيب من هذا الاستثناء، حيث تتأكّد معالمه في ثلاث نقاط رئيسية : أوّلها أنّ الحركة الإسلامية لم تكن نبتة غريبة في مجال استبدّ به نظام انقلابي عسكري كما هو ديدن عديد من النظم العربية التي احتدم الصراع بينها وبين الإسلاميين. وثانيها أنها لم تكن نبتة في مجال استبدت به العلمانية المطلقة تقصي الدين من السياسة والمجتمع. وثالثها أنّها نبتت في محيط جعلت فيه مكمّلا لا بدعا، مما جعلها أشبه ما تكون بالماء في الماء. هنا لا يعني الاستثناء استقالة عن تجارب العالم، بل يعد ذلك ميزة ومكسبا. وقد يغدو الاستثناء أحيانا معرّة وأسرا وعائقا أمام التجارب.إنّ للتاريخ مكرا هو في النتيجة مكر الله. فهناك من أنصفهم التاريخ ، وهناك من كانوا هم من أنصفوا التاريخ حينما صدقوا ما وعدوا الله عليه. وهناك من أنصفوه ولم ينصفهم النّاس. وكلّنا نتساءل بعد ذلك : لماذا لم نستطع أن نكتب تاريخا حقيقيا للحركة الإسلامية المغربية؟ ولم لا زلنا نواجه استحقاقات عطب الذّاكرة؟ في الواقع إذا لم يتكلّم أمثال الشيخ إبراهيم كمال، فلن نعرف كيف نكتب تاريخا لهذه الحركة، على الأقل قبل طروء الالتباس عليها. وإذا لم ينطق الأستاذ مطيع فلن نعرف كيف نكتب تاريخا لهذه الحركة قبل وبعد وفي ذروة التباسها. أمّا تاريخ التباسها فله شأن قد يجهله الشيخ إبراهيم كمال، لأنه لم يهتم ببعدها اللّعبي بقدر ما كان ولا زال همّه التربية على الاستقامة وتهذيب السلوك والدّعوة. لو كان إبراهيم كمال في أي بلد عربي آخر لكان له شأن آخر ومكانة لا يضارعه فيها نظير. فلقد ساهم في تأسيس الحركة الإسلامية في زمن مبكّر، في جيل الكبار الذين عاصرهم. نشأ الشيخ إبراهيم كمال داخل الحركة الوطنية وكان يمثّل داخلها موقع الفدائي والأستاذ والفقيه. لم تكن الحركة الإسلامية في نظر هذا الفتى يومئذ مجرد لعبة سياسية أو محطّة في تنويع أيديولوجي، بل كانت اختيارا رافق إبراهيم كمال منذ نعومة أطفاله منذ كان ملازما لدروس أعلام وفقهاء الحركة الوطنية من أمثال العلامة بوشتى الجامعي، ومنذ كان يقرأ المتون التعليمية الأولى في درس المرحوم الشيخ عبد الرحمن النتيفي، حيث حفظ الشيخ إبراهيم القرآن مرورا بأيّام المقاومة والحركة الوطنية وانتهاء بانخراطه في العمل السياسي والنقابي. يختلف إبراهيم كمال عن سائر قادة الحركة الإسلامية المغربية في كونه نشأ على التّديّن منذ الطفولة وليس فقط في فترة متأخرّة من عمره. فلمّا كانت قيادات الحركة الإسلامية المغربية غارقة في تيه معرفي وأسئلة وجودية ، حيث كاد بعضها أن يتبودد والآخر أن يتسرتر، كان إبراهيم كمال على تدينه المغربي الأصيل. كان خيار الحركة الإسلامية نابعا من إحساس إبراهيم كمال واجتهاده بأن مغرب الاستقلال كان لا بدّ أن يحسم في سؤال الهويّة الوطنية. بين إبراهيم كمال وعبد الرحيم بوعبيد لقد كان سؤال تحديد هوية الاتحاد الوطني الأيديولوجية هو الخلاف الأوّل والأخير بين الأستاذ إبراهيم كمال والقيادي عبد الرحيم بوعبيد يومئذ. وللتّذكير ، فإن إبراهيم كمال كان هو المسؤول عن مكتب الاتحاد الوطني في منطقته. وهناك كان إبراهيم كمال هو نفسه من قام بتدريب زوجة عمر بن جلون في مكتبه. وقد كان عمر بنجلون يستقوي بإبراهيم كمال ومجموعته داخل الاتحاد الوطني في الانتخابات النقابية. وكان هو قد طلب منهم ذلك ووافق إبراهيم كمال بالفعل. وكان في فترة العمل النقابي داخل الاتحاد الوطني هو من قام باستقطاب بعض القيادات النقابية المعروفة اليوم ، مثل نوبير أموي، الكاتب العام للكونفيدرالية الديمقراطية للشغل. فلقد كان هذا الأخير بمعية آخرين يأتيه أسبوعيا ، كان إبراهيم كمال يعطيهم دروسا في موضوعات مختلفة كما يدرسهم كتبا خاصة، مثل "لعبة الأمم" لماكيل كوبلاند، هو من كان ضحية لعبة سياسية محلّية. وكذا كتاب "الفكر الإسلامي المعاصر : دراسة وتقييم" لغازي التوبة. لقد حصل اختلاف بين إبراهيم كمال وعبد الرحيم بوعبيد سنة 1964م حول هذه المسألة، ما اضطره إلى الخروج من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ففي اجتماع حضره كل من بوعبيد وعمر بن جلون والفقيه البصري وغاب عنه المهدي بن بركة طرح إبراهيم كمال مسألة تحديد هوية الحزب، لا سيما بعد أن بدأت تبرز أفكار وتوجّهات أيديولوجية جديدة. كانت قناعة إبراهيم كمال هو أن الشعب المغربي مسلم ويريد الإسلام. بينما في لجة النقاش كان عبد الرحيم بوعبيد يؤشّر على الجانب الرجعي في هذه الأطروحة، مما أدى إلى الفراق. وفي سنة 1965م بدأ إبراهيم كمال نشاطه التربوي بمسجد الشّافعي بالدار البيضاء، حيث كان من بين أوائل من حضر جلساته التربوية الشيخ زحل. كان العمل في ظاهره دعوي تربوي، بينما كان هناك من يراقب ويقوم بتأطير واستقطاب واستيعاب الشباب ضمن مشروع تنظيم الشبيبة الإسلامية. علال الفاسي وحركة الشبيبة الإسلامية حصل حينئذ تفاعل إيجابي مع هذا المشروع من قبل قيادات في العمل الوطني، لا سيما الزعيم التّاريخي لحزب الاستقلال : الأستاذ علال الفاسي. وإذا كانت قيادة الجماعة الإسلامية فيما بعد وقبل اندماجها في حزب عبد الكريم الخطيب قد طرقت باب حزب الاستقلال بدعوى أنّه حزب قريب من حيث مبادءُه من توجهات الجماعة، فهذا لا ينبغي أخذه على بساطته، بل له خلفية يدركها عبد الكريم مطيع أكثر من أبناء الجماعة الإسلامية الذين عرضوا انتماءهم الأوّل على حزب الاستقلال دون أن يعلموا آثار هذا التوجيه الذي رتّب ترتيبا حسب الأهمّ والمهم. سنتحدّث فيما بعد عن أنّ اختيارات الجماعة الإسلامية حتى في الاندماج الحزبي لم تكن بعيدة عن إيحاءات عبد الكريم مطيع. ولكن هناك تساؤل مشروع لكنه لم يتأكّد لي بعد حول ما إذا كان الأخير يرى أنّ الاندماج في حزب الخطيب هو أسوأ من اندماجهم في حزب علال الفاسي؛ ذلك لأنّ مطيع يدرك مدى نفوذ الخطيب وقدرته على احتواء الجماعة لصالح أجندة قد تكرّس عزلة مطيع في منفاه الملتبس. وأعني بذلك أن الخطيب هو نفسه كان يدرك أن احتواءه للجماعة ممكن لكن شريطة أن يبعدها قليلا عن تأثير مطيع. لعلّ هذا ما يفسر عمق الخلاف والانزعاج الذي ما فتئ يبديه مطيع من الخطيب. مما يجعلنا نتساءل : إذا ما كان اندماج الجماعة في حزب الخطيب هو الهدف غير المعلن لمطيع نفسه أم أنّ الخطيب كان قد سارع لإحباط خطّة مطيع بقبول اندماج الجماعة في حزبه، فكان ذلك هو سبب نقمة مطيع على خيار الجماعة وعلى الخطيب نفسه؟ سؤال وجب طرحه وبحثه، حيث يشكّل مدخلا مهمّا لفهم جدل التصعيد واللّوم المطيعي لقيادة الحركة الإسلامية البديلة . لمعرفة ذلك لا بدّ من الرّجوع قليلا إلى الوراء. مثلا، كان علال الفاسي بعد أن تعرّض للقذف بالطماطم في الجامعة ، قد بدأ يميل ميلا شديدا للحركة الإسلامية. فلقد عقدت جلسات خاصّة لا يعلم بها حتى قادة حزب الاستقلال بين إبراهيم كمال وعبد الكريم مطيع وعلال الفاسي، حيث استحسن آراءهما، وقد أخبرهما علال الفاسي بأنّه لولا وجود بعض الظروف لكان انظمّ إلى الشبيبة الإسلامية. وكان علال الفاسي قد وعد قيادة الشبيبة بأنه لمّا يعود من مؤتمر الألفية عن ابن سينا في إيران، سيدعمهم بطريقة غير مباشرة وأن يصدر مجلة باسم معين على أن لا يعرف أحد بذلك. لكنه لم يرجع حيث مرض بالتشيك وتوفيّ رحمه الله. وكان عليّ يعتة أوّل من أصدر بيانا ضدّ الإسلاميين حينئذ تحت عنوان : "من يحرك هؤلاء الظلاميين؟". فكان أن ردّ عليه علال الفاسي بمقالة تحت عنوان : "هؤلاء الذين تحرروا من الخوف". النشأة أصيلة والنهاية تقليد إن ميزة أخرى للحركة الإسلامية يومئذ أنّها لم تأت تقليدا. فلقد سمعت من الشيخ إبراهيم كمال أنّ تجربتهم لم تكن تقليدا للإخوان المسلمين في مصر، ولا كان لهم علاقة بها. بل ولقد حدث أن تعرّض إبراهيم كمال للتعذيب في السجن وسئل عمّا إذا كانت لهم علاقة بالإخوان المسلمين، فأجاب بالنفي؛ وكانت تلك هي الحقيقة بالفعل. أفهم أنّ قضية تأثير تيّار الإخوان المسلمين جاء متأخّرا. بل لا أستبعد أن ذلك هو ما كان يمثّل البصمة الخطيبية على جسم الحركة الإسلامية منذ استقدم عبد الكريم الخطيب أثناء توليه رئاسة أول برلمان مغربي في الخمسينيات من القرن الماضي، القيادي الإخواني ، توفيق الشّاوي، وتعيينه مستشارا قانونيا له. بالإضافة إلى عدد من رموز الإخوان المسلمين كانوا ضمن أصدقاء وحاشية الخطيب ومن خلاله تمّ التّعرف عليهم من قبل الجماعة الإسلامية، من أمثال عمر بهاء الدين الأميري وصالح أبو رقيق. إن التقليد طرأ على الحركة الإسلامية في مرحلة التّشتّت والالتباس حيث أعيد توزيع وإعادة إنتاج ثقافتها وأدبياتها على أرضية التّصور العام للإخوان المسلمين. بل يبدو لي أنّ بداية تأثير خطاب الإخوان المسلمين في الحركة الإسلامية المغربية تكرّس أثناء تواجد مطيع في منفاه بالسعودية وفي مرحلة أخرى بالكويت، واتصاله بمؤسسات (مثل منظمة الندوة العالمية الإسلامية) و مشايخ وزعماء الحركة الإسلامية الذين شاركوه المنفى من أمثال صديقه المقرّب زين العابدين سرور مؤسس التّيار السلفي السروري والقيادي السّابق لتنظيم الإخوان المسلمين بسوريا. وهو نفسه من كان مبعوثا لعبد الكريم مطيع من الكويت بهويّة مزورة إلى المغرب في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي لمحاولة تحريض شباب الحركة الإسلامية ضدّ قيادة السّداسيين . لقد انتقلت الحركة الإسلامية المغربية من طور السلفية الوطنية التي تستمدّ أصول تفكيرها من أمثال أبي شعيب الدّكالي والمختار السوسي وبوشتى الجامعي وابن العربي العلوي، الموسومة بالأصالة والعقلانية والانفتاح، والتي كانت تصل الحركة الإسلامية من خلال الشيخ إبراهيم كمال، إلى سلفيات مستوردة بحمولتها الفكرية ورهاناتها السياسية من الخارج. كان رموز السلفية الوطنية أساتذة ومعلمّين وفقهاء ومفتين في الحرم المكّي،كما كان من شأن أبي شعيب الدّكالي، ورموزا للحركة الوطنية حتى كان الفرنسيون يعتبرون كل سلفي مغربي وكانوا يخلطون بين السلفية عموما والوهابية خصوصا هو بالضرورة مناهض للاستعمار. وليس كشأن السلفية المستحدثة في المشرق والتي انفضح شأنها كما في مذكرات مستر هانفر، صنيعة للاستعمار البريطاني. لقد كانت السلفية الوطنية في أساسها حركة حضرية استهدفت رفع الوعي ودخلت في صراع مبكّر مع الخرافة ومع مظاهر البداوة. وكان يكفي أن ينعت السلفي الوطني بالبداوة لكي يفقد بعضا من جاذبيته عند أهل الترجمة والرجاليين. فعلى ما كان من قدر عبد الرحمن النتيفي الجعفري عند أهل التراجم، قال فيه الشيخ محمد الباقر الكتاني : كان فيه بدوية، إذ علمه لم يتحضّر. بينما كان أساس السلفية المستحدثة في المشرق حركة بدوية استهدفت الرجوع بالوعي إلى الماضي وحاربت المعقول بالمنقول والمدنية بالبداوة. فتراث السلفية الوطنية المغربية كان شاهدا على هذا الميز الذي لم تحافظ عليه الحركة الإسلامية التي سرعان ما أصبحت أكثر ميلا للخطاب السّروري نسبة لزين العابدين سرور زعيم التيار السلفي السروري منها إلى السلفية الوطنية، بعد أن بعثه مطيع في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم لتغيير منحى الحركة الإسلامية من السلفية الوطنية إلى السلفية الوهابية. وكان هذا الارتداد عن السلفية الوطنية إلى السلفيات المشرقية، هي أولى خطوة قام بها مطيع في غياب إبراهيم كمال، لربط القيادة الشابة البديلة بمصادر تفكير وخطاب يغني عن الإرث الدّاخلي وعن وصاية إبراهيم كمال على الخطاب التّربوي للحركة الإسلامية. وقد ظهرت آثار ذلك واضحة؛ إذ بمجرد أن غادر الشيخ إبراهيم كمال السجن، حتى بات غريبا عن الحركة الإسلامية التي لم تهتمّ به بما يناسب موقعه التّأسيسي والتربوي؛ هذا في حين استغنت الحركة الإسلامية البديلة بخطاب سلفي خارجي، تؤمّنه منشورات مراكز الدّعوة السلفية في المشرق بتحريض من عبد الكريم مطيع. هذا يعني أنّ الجماعة الإسلامية حتى في مرحلة ما بعد الشبيبة كانت تخضع لإعادة إنتاج خطابها الحركي والدّعوي كما خطّط له الأستاذ عبد الكريم مطيع وتمثّلته القيادة البديلة. وهو الذي شكّل تحوّلا في خطاب الحركة الإسلامية، وذلك في غياب الشيخ إبراهيم كمال، الذي كان حتى ذلك الوقت مغيّبا في السجن. لقد حدث تحوّل في تجربة عبد الكريم مطيع على المستوى الإقليمي والدّولي، كان سببا في إحداث تحوّل في خطاب وثقافة الحركة الإسلامية كما صارت عليه الجماعة الإسلامية كوريث وبديل عن الحركة الإسلامية الشبيبية. وهي المرحلة التي استبدل فيها عبد الإله بن كيران بالشيخ إبراهيم كمال، كقائد للحركة الإسلامية البديلة. سنشير فيما بعد وعلى سبيل الاختصار إلى ما نقصده بمفهوم الحركة الإسلامية البديلة وملابساتها. لكنه من المهمّ أن يشار إلى أنّ هذه اللحظة التي شكّلت إعادة ترتيب وضع الحركة الإسلامية بتنسيق بين قيادة الشبيبة وقيادة ما سيعرف بتنظيم(حاتم) بعد زيارتها لمطيع في منفاه، هي ليست قطيعة بين رجلين، بل هي لحظة قطيعة بين منهجين وخطابين ومرحلتين من العمل الإسلامي تمّ التوافق عليها من قبل الرّجلين. هذا لا يعني أن الأستاذ عبد الكريم مطيع كان متأثّرا بالسلفية الوهّابية بالمعنى التقليدي لمفهوم التّأثر والتأثير، بل كان ذلك في سياق رهانه السياسي، حيث لم يلبث قليلا في منفاه بالسعودية حتى فرّ منها على إثر أحداث مكة التي تزعمتها حركة الإخوان بقيادة جهيمان العتيبي في 1980م ، في اتجاه الكويت. لم يكن استقراره في الكويت سوى محطّة كان الأستاذ مطيع يبحث فيها عن مخرج إلى جهة أخرى ضمن البدائل المطروحة يومها أمام كل زعيم إسلامي؛ ذلك لأنّ الاستقرار في ليبيا القذّافي كان خيارا مريبا، ولم يكن خيارا أثيرا للشخصيات الإسلامية أنذاك. لكن كانت هناك خيارات أخرى أمام مطيع تغنيه عن التّوجّه لليبيا، لاسيما في اتجاه السودان حيث قدّم له عرض من السودان بوساطات مع حسن الترابي مستشار النميري أنذاك، بالإقامة في السودان وشغل منصب مفتش عام للمدارس الدينية. لكنه فضل السفر إلى إيطاليا ومن ثمّ إلى فرنسا حيث سيقدم طلب اللجوء إلى ليبيا القذّافي، في خطوة غامضة، ليرتبط مصيره منذ ذلك الحين بهذا البلد وما يحيط به من أنشطة ورهانات، بعد أن تعززت علاقته بالقذّافي وغدا واحدا من مستشاريه السياسيين في الظّل، إلى أن سقط النظام الليبي بأيدي الثوار من الحركة الإسلامية، ويغادر مطيع طرابلس باتجاه لندن. قد يكون من قبيل المفارقة أن يكون وهو الإسلامي الذي لا يؤمن بالنظرية الثالثة للقذافي صديقا لنظام أطاح به الإسلاميون. وفي كل هذا، ظلّ إبراهيم كمال على فكره الإسلامي المغربي ، حتى عدّه بعضهم ممن تجاوزتهم التجربة الإسلامية وهم في هذا يخطئون الحقيقة لأنّ الشيخ إبراهيم كمال لم يكن جزء من لعبة التّحول الذهني والتغيير في خطاب الحركة الإسلامية البديلة. فدفع ثمن أصالة فهمه الدّيني ووطنيته غاليا.هذا جانب كبير من حياة هذا الرجل لا يعلمه المغاربة. مع أنها وحدها تعطينا صورة عن حقيقة ما جرى من حوادث وتصدّعات وتضعنا أمام فهم حقيقي لأهم المنعطفات في مسار الحركة الإسلامية التي ما فتئنا ننعتها بالالتباس في طورها الجديد. سوف أتناول فيما يلي بعض الحقائق عن تجارب الشيخ إبراهيم كمال وكذا عن الحركة الإسلامية في أطوارها الأولى مع إشارة لجانب من تجاربها الإقليمية والدّولية وهو ما لم يسلّط عليه الضوء حتى الآن. ولا شكّ أنّ المنهجية تقتضي أن نقف مليّا عند حادث مقتل القيادي والنقابي الشهير عمر بنجلون، لأنني أعتقد أنّ مقتل بنجلون في التأثير على مصير ومسار الحركة الإسلامية المغربية كتأثير مقتل سيد قطب على الحركة الإسلامية في مصر. كلاهما شكّل منعطفا في مسار الحركة الإسلامية في كل من مصر والمغرب. فالحركة الإسلامية المصرية بعد حادث إعدام سيد قطب ليست هي نفسها قبل إعدامه. كذلك الحركة الإسلامية المغربية بعد حادث اغتيال بن جلون ليست هي نفسها قبل اغتياله. إنها العقدة التي شكّلت مبتدأ الغموض والالتباس فيما تبقى من عمر الحركة الإسلامية المغربية. وهو الوضع نفسه بالنسبة لمسار اليسار المغربي. فبالنّسبة لمحمد عابد الجابري، كانت تلك بمثابة الإرهاصات الأولى للإرهاب الذي استهدف عمر بن جلون بعد المؤتمر الاستثنائي عام 1975م. أي ما يوحي بأنّها أيضا شكلت منعطفا في التجربة الاتحادية. حقائق عن مقتل عمر بنجلون من السهولة أن تخلط الأوراق في مثل هذا الملف. فهناك من يقحم كلّ مكوّنات الحركة الإسلامية وقادتها في اغتيال عمر بن جلون. وهذا في تقديري لا يخدم القضية، بل يميّعها ويجعلها عصية على الفهم. هذا مع أنّ الاقتناع ببراءة من برّأتهم المحكمة من مقتل بنجلون بدأت تظهر في مواقف مختلفة من بعض قادة اليسار. فأحمد بنجلون شقيق الضّحية لم يفتأ يتساءل عن المنفّذين الحقيقيين المجهولين بدل أولئك البسطاء الذين اعتبرهم مجرّد أدوات لتنفيذ مخطط كبير. وكان عبد الرحيم بوعبيد نفسه يعتبر أنّ لغز القضية هو عبد العزيز النعماني. وكان القيادي الاتحادي اليازغي قد عبّر عن ذلك من خلال حضوره حفل خروج المعتقلين في ملف السلفية الجهادية مؤخّرا إلى جانب الشيخ إبراهيم كمال. ففي حفل تكريم الشيخ إبراهيم كمال، تحدّث مصطفى خزار وهو من بين المجموعة الضّالعة في اغتيال عمر بن جلون، من على المنصة متوجها إلى إبراهيم كمال قائلا : أريد أن أعتذر للشيخ إبراهيم كمال، على ما سببنا له من معاناة الاعتقال. مصطفى خزار وآخرون شاركوا في اغتيال عمر بن جلون وقضوا عقوبتهم في السجن لا يختلفون حول براءة إبراهيم كمال من دم عمر بن جلون. وكان أحمد سعد في حضور إبراهيم كمال قال لي : لقد كان إبراهيم كمال يحذّرني من ارتكاب أيّ عمل طائش. ولما تورطنا وورطناه معنا والتقينا معه في السجن، لم يلمنا على ما أخطأنا في حقّه وسببناه له من متاعب. كانت المحكمة قد برأت إبراهيم كمال بعد أن قضى أربع سنوات سجنا تعرض فيها لأشكال من التعذيب فقد معها بعضا من سمعه وبصره. كان أحرى للمعنيين بحادثة اغتيال عمر بن جلون من مناضلي اليسار المغربي لا سيما الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يساهموا في حماية إبراهيم كمال الذي بقي وحده يدفع ثمن قضية غلفت بالكثير من الالتباس. فلقد كان إبراهيم كمال أكثر رفضا لمنهج العنف وسياسة الاغتيالات. بل لا أستبعد أن يكون سبب تهميش إبراهيم كمال منذ البداية نابع من مبدئيته في رفض منهج العنف والتصفيات. بل لا شكّ في أنه لولا إبراهيم كمال لحدثت حوادث أكبر مما رأينا ، ولكان تعرض للتصفية رجالات كثر من اليسار المغربي وكذا من أبناء الحركة الإسلامية. ففي تلك الظروف التي ارتفعت فيها حرارة العنف بين التيارين : الإسلامي واليساري، كانت بعض الأسماء تتردد بين شباب الحركة الإسلامية على أساس مواقفها وجرأتها على الدّين مثلما حصل مع المنياوي نفسه الذي تعرّض للعنف. كان منفّذوا القتل في سنّ لا يسمح لهم بالتّمييز الكامل. لكن لعبت برؤوسهم معلومات وأفكار وحرارة الاعتقاد. لا يوجد إسلاميّ في مثل ذاك السّن وفي مثل تلك الحقبة إلاّ وستكون له ردود أفعال متشدّدة. ليبقى السّؤال حول أولئك القادة الكبار الذين شجّعوهم على العنف. نعم لا شكّ أنّ هذا وحده لا يكفي لتبرير اندفاع شباب من داخل الحركة للقيام بما قاموا به يومئذ؛ إذ لا شكّ في وجود تحريض واستعمال. لكن هذا غير مبرر فقط في الترتيب المنطقي للأفكار وعلاقتها بالفعل. أمّا في منطق المرحلة والمناخ المشحون بطراوة الحساسية الأيديولوجية وهيمنتها الكاملة على العقول يومئذ وملابساتها السياسية، كان هذا سببا كافيا. فقد كان عبد العزيز النعماني المتهم الرئيسي في قيادة الخلية المكلّفة برصد وتنفيذ عملية اغتيال النقابي عمر بن جلون، يأخذ بعض العناصر التي شاركت في خلية اغتيال عمر بن جلون لحضور محاضرات هذا الأخير ليقفوا على أفكاره ويزدادوا احتقانا ضدّه، وكذا الإطلاع على جانب مما كان يكتب في جريدة المحرر. في هذا المناخ لم يكن غريبا أن يتم تداول إسم عمر بن جلون كشخص يجب تصفيته. وهذا التهديد كان واردا ومعروفا حتى أنّ الفقيه البصري سبق وحذّره من الدّوام في مقر جريدة المحرر باعتباره المستهدف الأوّل في تلك المرحلة؛ الفقيه البصري الذي كان صديقا وجارا لإبراهيم كمال في الاتحاد الوطني، وظلّ كذلك حتّى بعد خروجه من السّجن ورجوعه من منفاه إلى البلد؛ حيث كان قد دعا إبراهيم كمال لحضور مؤتمر الحوار القومي الإسلامي في بيروت. وكان بعضهم قد استفسر الشيخ ابراهيم كمال حول مدى شرعية قتل عمر بن جلون. كان الشيخ ابراهيم كمال، قد ظنّ أنّ توجيهه لأبناء الحركة الإسلامية يكفي لترشيد سلوكهم، لكنه لم يكن الوحيد الذي يتحكم في مسار الحركة الإسلامية، فلقد كانت هناك جهات تتحكم فيها وربما بشكل يفوق سيطرة إبراهيم كمال الذي أراد البعض أن يستصدر منه فتوى تشرّع اغتيال عمر بن جلون. رفض إبراهيم كمال أي فعل من هذا القبيل. ولكي يعزز موقفه ذلك، استفتح بالقرآن الكريم، ليجد الآية الكريمة : (ولا تطغوا). لما أدركت بعض الجهات المتحكمة بالشبيبة الإسلامية أن موقف إبراهيم كمال حاسم في رفض سياسة الاغتيالات، بدأ العمل على تنفيذ تلك الخطة بعيدا عن الشيخ إبراهيم كمال، حيث فوجئ وهو يلقي درسه في إعدادية (2مارس) بالبيضاء في ذلك النهار من يوم الخميس، بأن النقابي المغربي عمر بن جلون قد قتل. إذا كانت المحكمة قد برّأته بعد أن قضى أربع سنوات في السجن، فإنّ جملة من القرائن تؤكّد ذلك من وحي تجارب الرّجل. لقد عاد ابراهيم كمال من إسبانيا على الرغم من أن مطيع نصحه بعدم الرجوع بسبب تهمة اغتيال عمر بن جلون. بينما أصرّ إبراهيم كمال على العودة، لأنّه كان واثقا من أن لا علم له بما جرى. وهذا بخلاف ما يردّده البعض من أن القبض ألقي على إبراهيم كمال أثناء محاولته الفرار إلى إسبانيا. رفض إبراهيم كمال سياسة الاغتيالات منذ ذلك العهد. فقد كان هو الأكثر تديّنا وفقاهة من غيره من قادة الحركة الإسلامية يومئذ.كان التّدين لديه فقها جادا وليس "لعيبة" كما تراءت للبعض الآخر. وكان يوصي الشباب بعدم المغامرة أو الإقدام على أي عمل غير محسوب العواقب في غيابه. يكفي أن نعلم مواقف سابقة لإبراهيم كمال لنعرف أنّه كان قد حال دون تصفية بعض الرموز السياسية. فلقد نبّه شباب الحركة الإسلامية لا سيما الذين تورطوا في اغتيال عمر بن جلون من الإقدام على أي عمل غير شرعي. وكان قد واجه من استفسره عن مدى شرعية قتل عمر بن جلون يومها ، فأجاب مستفتحا بالآية الكريمة :(ولا تطغوا) كما ذكرنا سابقا. لهذا السبب تمّ إخفاء ذلك المخطّط عنه. وإضافة إلى هذا الشّاهد نستطيع أن نعود قليلا بالشيخ إبراهيم كمال إلى عهد الحماية، حينما كان ضمن العمل الفدائي. فلقد كان فدائيا قياديا نجا من عملية اغتيال غادرة دبّرها له أعوان الاستعمار، حيث فجّروا قنبلة قدّام بيته دمرت جزءا من بيته ونجا بأعجوبة. وكان قد تمّ تعيين الشيخ عبد السلام ياسين يومئذ مفتشا في التعليم بالدار البيضاء. وكان الفدائيون يخططون لاغتياله بعد أن اتهموه بالخيانة والتعاون مع الاستعمار الفرنسي. وكان أن تدخّل إبراهيم كمال كي يمنعهم من تنفيذ الخطّة وإنقاذ عبد السلام ياسين من قتل كان مدبّرا ضدّه من قبل المقاومة الوطنية. ويمكن أن نعزّز هذا بشاهد آخر، وهو حينما تقرر يوم أرادت الحركة الإسلامية أن تنشقّ عن الشبيبة الإسلامية ضمن القيادة الأربعينية التي تصدت للانتقال بالحركة الإسلامية من الشبيبة الإسلامية إلى الجماعة الإسلامية، كان إجماع أبناء الحركة الإسلامية على تولّي المرحوم علال العمراني زمام القيادة. وكان حظّه الأوفر على قيادتها مقابل القيادة البديلة. كانت قيادة الشبيبة في المنفى قد وجهت تعليماتها إلى المدعو أبو العزّ، للقيام بتصفية علال العمراني. وربما كان الدّافع أنّ هذا من شأنه أن يكون الردّ المناسب على الجماعة، غير أنّ الأمر كان أبعد من ذلك؛ كانت له علاقة بإزاحة علال العمراني المنافس الوحيد والحائل دون وصول القيادة البديلة للحركة الإسلامية إلى قيادة الجماعة الإسلامية . كان المدعو أبو العزّ قد أفشى هذا الخبر الذي سيتناها إلى مسامع علال العمراني عن حقيقة ما يدبّر له، مما جعل علال العمراني يبتعد عن الواجهة لصالح قيادة مجموعة الحركة الإسلامية البديلة، بينما غضب إبراهيم كمال ورفض هذا الأسلوب وحذّر علال العمراني مما يدبّر له بليل. وكان أن تحقق هدف قيادة الشبيبة في الخارج في تأمين مرور سلس للقيادة الجديدة للجماعة الإسلامية. قد نفترض أن الأمر كان مجرّد رسالة أريد لها أن تبلغ علال العمراني، لكن في حالات كثيرة لم يكن الأمر يتعلّق بخوف شديد كان يتملّك أبناء الشبيبة الإسلامية من دون مبرّر؛ ثمة ما يوحي أنّ هناك من كان على قناعة بوجود ما يبرّر هذا الخوف؛ كونهم يشعرون بأنهم تحت عيون قيادة قتّالة. هذه الحادثة والتي لا غبار على صحّتها تنسجم مع وجه آخر من المقاربات التي تحيط بها بعض معالم نظرية المؤامرة؛ لكنها لا تخلو من حقائق. فهناك من يشير إلى تورّط عبد الكريم الخطيب في هذه القضية بتنسيق مع عبد الكريم مطيع. وقرائنهم على ذلك أنّ عبد العزيز النعماني ظلّ متخفّيا في ضيعة يملكها عبد الكريم الخطيب بين مدينتي الدارالبيضاء والجديدة. ثم تمّ تهريبه إلى الخارج. وعلى الرّغم من إصرار الأستاذ عبد الكريم مطيع على نفي أي علاقة تربطه بالنعماني، إلاّ أنّ هناك ما يؤكّد على أنّ النعماني بعد مغادرته للمغرب كانت زيارته لمطيع في منفاه بالسعودية هي أوّل زيارة قام بها خارج المغرب. ثم استمرت سنويا في مكّة في موسم الحجّ.بل لقد كان مطيع قد دبّر للنعماني جواز سفر لبناني مسيحي كان النعماني يتحرّك به في سائر الأقطار الأوربية. بعضهم يتحدّث عن أنّ تهريب مطيع كان تحت عين الخطيب الذي رافق السيارة التي كانت تنقل مطيع باتجاه إسبانيا. ثم حينما يصل مطيع إلى إسبانيا يلتقي مع توفيق الشاوي القيادي من الإخوان المسلمين الذي تربطه مع الخطيب علاقة قديمة ووثيقة. هذه القراءة تعتقد أنّ الأمر تمّ تدبيره مسبقا. كان عمر بن جلون وراء احتجاجات 1961م حيث رفض طلاب وموظفي وعمال البريد إيقاف الإضراب. وحصل اختلاف بين عبد الرحيم بوعبيد الذي قبل التفاوض وبين عمر بن جلون الذي أصرّ على مواصلة الإضراب. ثمة حديث تتناقله بعض الأوساط يذهب بعيدا، فينسب لعبد الرحيم بوعبيد تهديده لعمر بن جلون بأنه سيقتله، تحت سطوة الغضب وفي لحظة تلاسن، لأنّهما كانا مختلفين. كان الغرض إذن تدبير عملية اغتيال عمر بن جلون ثم نسبة الحادث إلى عبد الرحيم بوعبيد والاتحاديين. الذي غيّر اتجاه المخطط حسب هذا المنظور هو وقوع أحد المتورطين في اغتيال عمر بن جلون في يد شرطي كان يعبر بدراجته النارية في عين المكان. بالنسبة إلى المجموعة التي تولت تنفيذ عملية اغتيال عمر بن جلون، فهي ترى أنّها لم تكن قد دبرت العملية مسبقا وإنما كانت تسعى لنهيه عن بعض الأفكار والمواقف، فتطور الأمر إلى جدل حاد أعقبه عنف. أحمد سعد الذي سدّد الضربة القاضية لعمر بن جلون لاذ بالفرار، لكن ولسوء حظّه سلك طريقا طويلا، وتزامن الأمر مع تغيير دوام رجال الأمن مما جعله يثير اهتمام شرطي كان يعبر من عين المكان، استعان عليه بمجموعة من العمّال كانوا يمتطون شاحنة. ألقي القبض على سعد الذي لم تنفعه الدراجة النارية "هوندا" التي وفرتها قيادة الشبيبة لذلك الغرض، ثم في الليلة التالية سيلقى القبض على مصطفى خزار والآخرين في " برّاكة"، لا يعرفها من غير الكامنين فيها إلاّ أحمد سعد وعزيز النعماني.إذا شئنا مزيدا من الاستطراد في هذه المقاربة، فإنّ هناك ما يؤكّد على لقاء جرى بين حسين جميل مدير الاستخبارات المغربية وعبد الكريم مطيع قبل شهور قليلة من المحاكمة التي انعقدت في الثمانين من القرن الماضي. حصل اللقاء داخل فندق هيلتون بالكويت.الحديث الذي جرى حينئذ بين مطيع وحسين جميل، دار حول مسار المحاكمة. وكان جميل قد طمأن مطيع بأن المحاكمة ستجري في ظروف عادية حيث سيتم تبرئة الجميع بمن فيهم مطيع باستثناء خزار وسعد. كان من المقرر لو تمت الأمور كما جرى في هذا الحديث أن يتم عقد مؤتمر للشبيبة الإسلامية في باريس. لم يلق ما يشبه المقترح هذا الذي تحدث عنه جميل قبولا، حيث صدرت الأحكام بخلاف ذلك وتم إعفاء حسين جميل من منصبه وبدأت حكاية أخرى في إطار العمل الإسلامي بالمغرب. في السيناريو الجديد كان المطلوب هو إبراز شخصية لم تكن يومئذ معروفة.إنّ هناك سوء فهم لطبيعة العلاقة بين الزعيم الجديد للحركة الإسلامية الذي سيقود التجربة إلى الاندماج في حزب الخطيب وبين عبد الكريم مطيع. فحسب هذا الرّأي توجد معطيات تؤكّد على أنّ هذا التنابذ والخصومة بين مطيع وبن كيران هي مجرد مسرحية بامتياز. لكنني أعتقد أنّ ذلك ناتج عن تغييرات في مسار الخطط، وعدم وفاء بعضهم لبعض في تدبير المتفق عليه. وهذا يؤكّده أنّ الزعيم الجديد للحركة الإسلامية فرض فرضا على الحركة الإسلامية المغربية بعد أن جاء متأخرا ولم يشهد مطيع إلا بعد أن زاره في وقت متأخّر خارج المغرب ولا إبراهيم كمال إلا بعد خروجه من السجن. وحتى حينما كان من المقرر أن تجمع الحركة الإسلامية بقيادتها الأربعينية على قيادة المرحوم علال العمراني، كانت قيادة الشبيبة في الخارج قد أصدرت تعليماتها لأحد عناصرها يومئذ (أبو العزّ) لتصفية علال العمراني، لكن أبا العزّ لم ينفّذ العملية وكان أن بلغ الخبر إلى علال العمراني ، الذي اعتزل العمل الإسلامي إلى أن توفيّ كما أسلفنا. كان الأمر يتعلّق بتمكين الزعيم الجديد للجماعة الإسلامية، حيث بدوره كان هذا الأخير يخبر مطيع بكل تفاصيل المحاكمة، قبل أن يقود مسيرة كبيرة من دون خوف بالدار البيضاء احتجاجا على المحاكمة دون أن يعتقل،مع أن الجميع اعتقل يومئذ. هذا مع أن قائد المسيرة لم يكن معروفا لأهل الدار البيضاء ولا معرفة له بقيادات الشبيبة. هذا في وقت كان مطيع وبعد انتقاله إلى ليبيا يراقب حركة إبراهيم كمال ويحذّره من القيام بأيّ نشاط. كانت الخطّة تقتضي تغييب إبراهيم كمال شيخ الحركة الإسلامية المغربية ومنح فرصة لبديل آخر مختلف. باختصار، لمّا كان مطيع يساهم في بروز القيادي الجديد في الحركة الإسلامية البديلة ويدعم نشاطه ويغطيه، كان يراقب ويضيّق ويحاصر إبراهيم كمال في أي نشاط يقوم به. وحسب وجهة النظر هذه يكون الزعيم الجديد الذي ورث قيادة الحركة الإسلامية وسقط في مشهدها بصورة مثيرة للاستغراب، هو نفسه العنصر الذي كان يستعمله مطيع عينا له على اليسار. لا ينسى ذلك الرعيل من اليسار يوم أمسكوا هذا الزعيم بين صفوفهم وحاكموه وحلقوا شعره بالزجاج وتعرّض لاعتداء قاسي من قبل الطّلاب اليسار. في تلك الأثناء كان مطيع قد أصدر مجلة المجاهد التي كان فيها قاصدا لما يقول، حيث كان المقصود هو تعزيز الخلافات بين الحركة الإسلامية المغربية. وكان بالفعل قد انشغلت الحركة الإسلامية بالإشاعات والقيل والقال. ودبّت الفتنة في داخل المشهد الإسلامي إلى اليوم. كما سربت أخبار كثيرة لا رصيد لها من الصّحة لكنها كانت تشغل بال الحركة الإسلامية وتشدّها إلى القيادة التي كانت تتحدّث دائما عن المنفى والاستهداف. فمثلا يوم قيل أن مطيع قد تعرّض لعملية اغتيال في لبنان، لم يكن كذلك بالفعل، بل كان في تلك الأثناء نزيلا بفندق الشاطئ بطرابلس الليبية في جناح مجاور لعبد العزيز المراكشي زعيم البوليساريو وعبد العزيز بوتفليقة أثناء فراره من الجزائر. يحسب لمطيع حنكته السياسية وخبرته الأمنية حيث تحدّث عن انتقالاته بين أقطار أوربا، بينما استقرّ به النوى بطرابلس. وحتى حين أعلن بنكيران انشقاقه عن الشبيبة وبعث بسفيره (بوخبزة) للقاء بمطيع، لم يلتق بمطيع وإنما بمساعده أنذاك الحاج عبد الكريم، قبل أن يربط الاتصال بينهما من الخزيرات إلى طرابلس، في مكالمات تليفونية كانت تطول بالساعات، وكلّ ذلك على نفقة مطيع لأنّ بوخبزة لم يكن يحمل معه نقودا. كانت نتيجة الحوار أن أقنعهم مطيع بتأسيس عمل مستقل بزعامة القيادة الجديدة للجماعة الإسلامية : الحركة الإسلامية البديلة. الخطيب والشبيبة ومقتل عمر بنجلونكانت علاقة الخطيب بالشبيبة علاقة يكتنفها الكثير من الالتباس أيضا. إن فكرة إنشاء تنظيم إسلامي كانت مطلبا قديما للخطيب ومطيع. وحسب القراءة التي تربط اغتيال عمر بن جلون بالمؤامرة المذكورة، يكون التنظيم الإسلامي هو الجائزة التي سيتم الحصول عليها بعد تصفية بنجلون. إذا صحّت هذه القراءة ستكون قضية علاقة الخطيب بالشبيبة علاقة في غاية التعقيد، تجعل أهم فصول هذه اللعبة بيد كل من مطيع والخطيب. كان الخطيب يراهن على مطيع في تأسيس التنظيم الإسلامي، بينما راهن مطيع على إبراهيم كمال في تدبير الدعوة والتربية واستقطاب الشباب. هذا يؤكّد كون كلّ الشباب الذين دخلوا أفواجا إلى الشبيبة ، جاؤوا من طريق الشيخ إبراهيم كمال. لذا نقول بأنّ ما للحركة الإسلامية من تربية وخطاب وإرث ثقافي هو من إبراهيم كمال، وأما ما يكتنفها من لعبة سياسية ومخططات خفية ومعلنة فهو من مطيع والخطيب. كان الخطيب يستعين بمطيع في تحرير كلّ خطاباته السياسية. وفي نظر مطيع يومها، كان الخطيب يسعى إلى أن يستولي على إرث ومكتسبات الحركة الإسلامية. بينما سعى مطيع أن يستغل الخطيب لتحقيق خطط الشبيبة. إن كان أحد قهر الخطيب حقا، فهو مطيع. لأنّه ليس فقط خيّب أمله في الانصهار المبكّر في رغبته لتأسيس تنظيم إسلامي تكون السيطرة فيه للخطيب، بل لقد ساهم في فرض قيادة تنظيم التوحيد والإصلاح على حزب الحركة الشعبية؛ ذلك لأنّ الخطيب الذي كان رافضا لهذا الانضمام ، كانت له معرفة بقيادتها وصلتها بمطيع : لقد قبل بذلك على مضض. باختصار، ما كان خطّط له مطيع يوما هو الذي تحقّق. وهو ما يفسّر محتوى رسالته عشية فوز الحزب الإسلامي في الانتخابات التشريعية وامتنانه عليها بأنّه المعني بنجاحها. وهي الرسالة التي شكّلت استثناء في رسائل مطيع التصعيدية والاستهتارية بمن سمّاهم يوما غلمان الحركة الإسلامية.قد يبدو من الصعوبة أن نفهم سبب رفض الخطيب انضمام الجماعة الإسلامية التي ستأخذ بعد ذلك إسم "التوحيد والإصلاح" إلى حزبه السياسي، لأنّه كان يدرك خطورة اللعبة ومن وراءها. كان الخطيب على صلة بقادة الإخوان المسلمين من التنظيم الدولي. في خمسينيات القرن المنصرم استدعى الخطيب توفيق الشاوي ليكون مستشاره الخاص عند توليه رئاسة أول مجلس نواب مغربي بعد الاستقلال. يعزز هذا الكلام ما تحدّث عنه الشاوي في كتابه الموسوم ب : "نصف قرن من العمل الإسلامي"، حيث تحدّث عن هذه العلاقة القديمة بالخطيب. كما يعزز هذا كلام الشيخ عاكف مرشد الإخوان المسلمين بمصر بمناسبة نعي الدكتور الخطيب، حيث اعتبره عضوا في تنظيم الإخوان المسلمين. برزت علاقة الخطيب بالشبيبة الإسلامية في ذروة واقعة اغتيال عمر بن جلون. كان الخطيب يعبّر عن موقفه من اليسار بوضوح. فحينما حضر مطيع مؤتمرا نظّمته الحركة الشعبية وألقى خطابا، أخبر الخطيب على هامش المؤتمر بخبر اغتيال بنجلون. قال له الخطيب بما معناه : ولماذا أنت خائف، هل لك علاقة بقتله؟ قال له : لا. قال له الخطيب : فلماذا إذن كل هذا الانزعاج؟ بعدها حاول الخطيب أن يوكّل محامين للدفاع عن المجموعة التي اعتقلت على ذمة اغتيال عمر بن جلون. بعض المحامين أحسّ بعدم قدرته على مواجهة تحدي دفاع عمر بن جلون، وبأنّ أغلبية المحامين النافذين كانوا من اليسار. وكان الخطيب بعد أن علم من خلال الصحافة التي أبرزت صورة لشرحبيل الذي كان من المفترض أن يكون من بين دفاع الخلية المتهمة باغتيال بنجلون يصافح فيها عبد الرحيم بوعبيد بمناسبة حفل عزاء أقامه الاتحاديون يومئذ على عمر بن جلون، اتخذ (الخطيب) موقفا فوريا يقضي بطرد شرحبيل من الحزب. ثم سعى في مرحلة قادمة أن ينتدب محامين عن المجموعة من خارج المغرب، من مصر وتونس. لكن تم رفض الدفاع الأجنبي. سوف يمضي الخطيب إلى النهاية للدفاع عن المتورطين في اغتيال عمر بنجلون. لكن سوف يصدم الخطيب حينما فوجئ أثناء حضوره في جامع بباريس، بمنشور تحريضي نشره مطيع ضد الخطيب. ربما كان الأمر يتعلّق بوعود قطعها الخطيب لمطيع ثم لم يف بها. إنّ ما يفسّر هذا التّصعيد في اللّهجة والخطاب بين مطيع وقيادات الحركة الإسلامية اليوم، هو تصعيد لوم على شيء متّفق عليه تمّ التّخلّي عنه : تغيّر في الخطط والولاءات. هذه نثارات من تجربة الحركة الإسلامية العميقة، ووجها من لعبتها لا عهد لإبراهيم كمال به وليس طرفا فيه. لكنّه للأسف هو ما شكّل على مدار عقود من الزّمن ذلك الجانب الملتبس والصفحات المجهولة من تاريخ هذه اللّعبة.إذا كنا حقا أمام حقائق من هذا القبيل، فهذا يعني أنّ ثمة خطّة دخلت في صراع مع مكر التاريخ، جعل السيناريوهات تتجه وجهات متناقضة والخطط يأكل بعضها بعضا. ولا شيء يفسّر نزاع الإخوة الأعداء سوى إن كان للأمر صلة بمخططات كانوا فيها من حيث شعروا أو لا يشعرون أدوات للعبة اختلفت حولها السيناريوهات وتنوعت فيها البدائل، حتى لم يعد بعد ذلك في وسع أيّ أحد أن يفي للآخر بما عهد به. إنّ هذا هو ذلك الشطر من الالتباس الذي ما فتئنا ننعت به مسار الحركة الإسلامية المغربية، وبه يتحدّد استثناؤها ضمن جملة تجارب الحركات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي. فذاكرة الحركة الإسلامية لا تقف عند التّأملات التربوية للحركة، بل ذاكرتها الأقوى والأعنف هي ما تنطوي عليها لعبتها التي تمتنع عن التّأريخ ولا زال البوح عصيّا عن كثير من فصولها.