في كلّ مناسبة يثار فيها موضوع التّأريخ للحركة الإسلامية في المغرب، يطرح تحدّي آخر غير تحدّي المنهجية المزمن في تقاليد تدبيرنا لمجاهيل الموضوعات، ألا وهو ما يتعلّق بقاعدة المعطيات الضرورية التي لا يستغنى عنها في بناء تّصور كامل عن تجربة، لا زلت أعتبرها ملتبسة نتيجة تداخلات ذاتية/موضوعية لم يفرج عن حقائقها حتّى اليوم. وهذه المقالة ترمي إلى توضيح ما كنّا سمّيناه النّشأة الملتبسة للحركة الإسلامية المغربية، قبل أن تصبح حديث الغادي والبادي بعد أن لم يعد يعرف من مسارها سوى مظاهرها الملوّنة الجديدة وتمثّلاتها الفكروية المستحدثة. وإذا كان فعل التّأريخ والتوثيق هو من أصعب الفنون والمهام وأمحنها حتّى في حقير الشّؤون بله خطيرها، فإنّ توثيق ذاكرة الحركة الإسلامية والتّأريخ لأهم مراحل وفصول مسارها المتعرّج يكاد يكون في عداد المتعذّر حتى لا نقول المستحيل. فالحقائق هنا تقتلع اقتلاع الضرس من فم المضروس. وتنتزع انتزاع البوح من صدور منطوية على حزن تراجيديّ عميق. وهي تأتي نثارات كالّرذاذ بلا رواء. وتبدو كالسّراب يحسبها الضمآن إلى الحقائق، ماء. كما أنّ الحقائق هنا تتضارب بما يجعل تحقيقها وتشخيصها وتمييز صحيحها من عليلها، حقيقها من حشيّها، فضلا عن تحليلها أمرا في غاية الصّعوبة. كما أنّ مزاعم وادعاءات كثيرة قد تواجه الباحث وهو يتيه بين الصحيح والمغشوش من مرجعياتها. فقد باتت حركة الشبيبة الإسلامية بفعل هذا الواقع أشبه ما تكون بشبيبات إسلامية. ليس بسبب أنّ ثمة خطوطا اخترقت الشبيبة نفسها وتغذّت على رصيدها الدّعوي فيما كانت تدبّر ما لا عهد به لمنتميها وبعض قادتها، فحسب، بل أيضا بسبب كثرة المتحدّثين عن الشبيبة ممن لم يقفوا على المطبخ الدّاخلي الذي كانت تحبك فيه أشياء أخرى غير ما كان من شأن الدّعوة . الكلّ يعطيك قدر عقلك من وهم الكلام. والبعض يفاخرك بموقع في الشبيبة لم يكن فيه فاعلا ولا مفعولا به. وقد يفاخرك بموقع كان فيه مفعولا به لا فاعلا. مع أنّ العارفين بخبايا شؤونها عبر مسارها المتعرّج هم بنذرة الكبريت الأحمر. فمن ظلّ وفيّا لانتمائه على نقاء فطرته لهذا المكوّن مهما بلغ في قدم الانتماء، ستغيب عنه فصول مهمّة منها، لأنّه لم ينتم لمطبخها الدّاخلي وخطوطها المعنية باللّعبة السياسية، فما بالك بمن ليس له عهد إلاّ بجلساتها البعيدة كما كان يقضي انقسامها الخلوي. وربما كان في عداد الكومبّارس الذي كان يشكّل غطاء طيّبا لألعاب قذرة تدبّر في أخفى الخفاء. لكنّنا لا نعتبره تأريخا مستحيلا إلاّ بالقدر الذي يتمنّع صنّاعه عن البوح الصّريح ويمتنع الواقع عن سماع ما لم يعتد على سماعه من شؤون تجربة ظلم أهلها الحقيقيون وكرّم دخلاؤها العابثون. وما نقدّمه هنا ليس سوى فاتحة لما ينبغي المضيّ فيه توسّعا وتفصيلا. وهي مقبّلات ليس إلاّ تفتح شهية الباحث للوقوف على ما خفي من حقائق لا زالت تنوء بها صفحات مجهولة من تاريخ الحركة الإسلامية المغربية، التي كادت تصاب بالخرس من شدّة الصّمت والبعد عن توثيق ذاكرتها الحقيقية. وعموميات تنطوي على تفاصيل غاية في الأهمية. ولقد وجدت في مناسبة تكريم الأستاذ إبراهيم كمال الذي احتضنه المركب الثقافي(كمال الزبدي) بسيدي عثمان بالدار البيضاء ، يوم الجمعة من شهر أبريل 2012م، فرصة مناسبة لتحرير بعض من الحقائق عن هذه التجربة سيتعرّف عليها الرّأي العام للمرّة الأولى؛ لم أتحدّث عنها إلاّ بعد أن تأكّدت من صحّتها بالتحليل والمقارنة بين الحقائق والمعلومات التي تعددت مصادرها وأحيانا اختلفت وتناقضت. هذا في سياق تعزيز الموقف من براءة الشيخ إبراهيم كمال من كثير من تلك المغامرات التي لا زلت أصادف من لا يراه منها براء، وفي طليعتها حدث اغتيال المناضل المغربي عمر بن جلون في 18 دجنبر 1975م. وأيضا لتوضيح ما نعنيه بالتباس نشأة وتاريخ الحركة الإسلامية المغربية . من شأن هذا أن يشكّل دفعة أو إطارا لتحقيق القول في تجربة لازالت ضحية جهل عريض؛ ليس فقط من طرف من اشتغل عليها من الدارسين الأباعد، بل باتت على الغموض والالتباس نفسه حتى عند أبنائها والمشتغلين عليها من الأقارب. فلا يخفى أنّ جزء من تلك الحقائق لا يزال يتمنّع عن الصّدور. وقسم كبير من تلك المعطيات دفنت في صدور قادتها القدامى أو ماتت مع بعض من الواقفين على منعطفاتها، على يأس مرير أو رهاب مزمن لم تشف منه بعد؛ مع أنّها تدفع أثمان هذا الرهاب غاليا من كيس سمعتها ومصداقيتها . ماذا يعني تكريم الشيخ إبراهيم كمال أقيم حفل مهيب لتكريم أحد رجالات الدعوة والحركة الوطنية وكبير مؤسسي الحركة الإسلامية المغربية المعاصرة قل الأب الروحي للحركة الإسلامية : الشيخ إبراهيم كمال بمبادرة من بعض محبّيه في التأريخ والمكان المذكورين أعلاه. حضر الحفل رموز الحركة الإسلامية القدامى من أبناء حركة الشبيبة الإسلامية؛ حركة لا تزال تحتفظ بذاكرة شباب بريء نقيّ ، وإن كان بعض قادتها لاعبا شقيّا مريبا. كانت المناسبة فرصة لتجديد العهد بذاكرة الحركة الإسلامية التي لا زالت لم توثّق بعد ويكتنفها الكثير من سوء الفهم الكبير. وإذا كان الالتباس هو المظهر الطاغي على تاريخ الحركة الإسلامية المغربية، فإنّ هذا الالتباس يتراجع كلّما عدنا إلى منبعها النّقي، وتحديدا إلى أبرز رجالاتها نقاء وبعدا عن الالتباس، ألا وهو الشيخ كمال إبراهيم. أعني أن الالتباس طرأ على الحركة الإسلامية المغربية مع غياب إبراهيم كمال؛ وكأنّ غيابه كان شرطا ضروريا لولوجها عهد الالتباس. هذا يعني أن تغييب إبراهيم كمال كان عملا ممنهجا وليس محض مصادفة. في هذه المناسبة أشكر أصدقائي من أبناء الشبيبة الذين قدّموا لي دعوة للحضور وأيضا لإلقاء كلمة في حق الأستاذ إبراهيم كمال، حيث نقلوني إلى أجواء البراءة والصفاء وتجارب الالتزام الأولى بصوابها وأخطائها.. بنبل الصّادقين من أبنائها وبشقاوة بعض رموزها..بكل هذه المتناقضات التي وسمت التجارب التّيّارية والحزبية في مغرب تصلّبت فيه السلطة و تشاقت فيه التيارات الأيديولوجية في سنوات الرصاص. يوم تحوّلت الحركة الإسلامية إلى حالة أفقية أصبح فيها كلّ إسلامي هو بالضرورة منحدر بالأصالة أو بالواسطة من حركة الشبيبة الإسلامية. لأنّها كانت النبتة الأولى لتجارب ما سيعرف بعد ذلك بالإسلام السياسي في المغرب المعاصر. لم يكن حضوري ولا كلمتي في مناسبة تكريم الأستاذ إبراهيم كمال، مجرد مجاملة في حقّ رائد الحركة الإسلامية المغربية المعاصرة وأبيها الرّوحي، ولكنها لحظة اعتراف بجهاد واجتهاد هذا الرّجل. ولحظة إيضاح وكشف عن حقيقة لا بدّ من ذكرها، ألا وهي أنّ تجربة الحركة الإسلامية المغربية كانت منذ نشأتها الأولى ذات شقين : الشّق المبدئي والأصيل بمدلوله الدّعوي والتربوي والرّوحي والذي يمثّله الأستاذ إبراهيم كمال؛ وربما لهذا السبب كان ضحية للعبة سياسية لم يكن في واردها. وهناك الشّق السياسي المتعلّق برهانات اللعبة السياسية بكلّ ملابساتها وتمثّلاتها الأيديولوجية السياسية، ويمثّله الأستاذ عبد الكريم مطيع. إنّ هذا لا يعني أنّ عبد الكريم مطيع ليس له تأثير وحضور خاص في مشهد الحركة الإسلامية المغربية ولا بصمة في خطابها الأيديولوجي، بل لقد كان مطيع رجلا سياسيّا بالدّرجة الأولى وله خبرة ومعرفة بلعبتها كاتحادي معتّق أكثر مما كان قائدا دينيا. ولحظة التّأسيس للحركة الإسلامية في ظروفها الصّعبة كانت تقتضي حضور شخصية سياسية ذات حنكة براغماتية وإحاطة بدهاليز السياسة. لكن السياسة بقدر ما تنفع تقتل. وبقدر ما تمارسها تمارس عليك مهما بلغ المرء من دهاء. ولقد كان مقتل الشبيبة في قدر أبنائها السياسي. أي حينما جهل أبناؤها السياسة في مبتدئهم، مورست عليهم بأشكال أخرى في خبرهم. وربما دفعت الحركة الإسلامية المغربية ولا زالت الثّمن غاليا بسبب دروشتها السّياسية. وهو المقتل الذي عزّز كون حركة الشبيبة الإسلامية لم تكن تخضع لوحدة القيادة بل تعدّدت قيادتها النافذة واستغل بعض قادتها قيادات أخرى ضمن مخطط طبخ من خارج الشبيبة الإسلامية. كان دور إبراهيم كمال تربويا توجيهيا أكثر مما كان دورا سياسيّا. فبفضل إبراهيم كمال وجهوده والإرث التربوي الذي خلّفه من ورائه كان جميع الإسلاميين قد انتقلوا إلى مستوى آخر من الفهم الدّيني الحركي. مع هذا الإرث التربوي أصبح للدين حمولة جديدة تختلف في شدّة الالتزام وسعة دائرته.حصل هذا قبل أن ينفرط عقد الحركة الإسلامية وتصبح القاعدة بلا قيادة، ودخل الجميع (كومة) الالتباس وأصبح أبناء الحركة الإسلامية في وضعية اليتامى، فشرقوا وغرّبوا. ففي سابقة من نوعها تصدّى شباب عديم العلم والخبرة لقيادتها، على جهل بمقاصد الشّرع وقلّة خبرة في التّدبير وخوف عارم يقلق البال ويخنق الصّدور. هذا هو الاستثناء الذي بات قدرنا في المغرب. استثناء بسلبه وإيجابه.. بحلوه ومرّه. ولا شكّ أنّ للحركة الإسلامية المغربية نصيب من هذا الاستثناء، حيث تتأكّد معالمه في ثلاث نقاط رئيسية : أوّلها أنّ الحركة الإسلامية لم تكن نبتة غريبة في مجال استبدّ به نظام انقلابي عسكري كما هو ديدن عديد من النظم العربية التي احتدم الصراع بينها وبين الإسلاميين. وثانيها أنها لم تكن نبتة في مجال استبدت به العلمانية المطلقة تقصي الدين من السياسة والمجتمع. وثالثها أنّها نبتت في محيط جعلت فيه مكمّلا لا بدعا، مما جعلها أشبه ما تكون بالماء في الماء. هنا لا يعني الاستثناء استقالة عن تجارب العالم، بل يعد ذلك ميزة ومكسبا. وقد يغدو الاستثناء أحيانا معرّة وأسرا وعائقا أمام التجارب.إنّ للتاريخ مكرا هو في النتيجة مكر الله. فهناك من أنصفهم التاريخ ، وهناك من كانوا هم من أنصفوا التاريخ حينما صدقوا ما وعدوا الله عليه. وهناك من أنصفوه ولم ينصفهم النّاس. وكلّنا نتساءل بعد ذلك : لماذا لم نستطع أن نكتب تاريخا حقيقيا للحركة الإسلامية المغربية؟ ولم لا زلنا نواجه استحقاقات عطب الذّاكرة؟ في الواقع إذا لم يتكلّم أمثال الشيخ إبراهيم كمال، فلن نعرف كيف نكتب تاريخا لهذه الحركة، على الأقل قبل طروء الالتباس عليها. وإذا لم ينطق الأستاذ مطيع فلن نعرف كيف نكتب تاريخا لهذه الحركة قبل وبعد وفي ذروة التباسها. أمّا تاريخ التباسها فله شأن قد يجهله الشيخ إبراهيم كمال، لأنه لم يهتم ببعدها اللّعبي بقدر ما كان ولا زال همّه التربية على الاستقامة وتهذيب السلوك والدّعوة. لو كان إبراهيم كمال في أي بلد عربي آخر لكان له شأن آخر ومكانة لا يضارعه فيها نظير. فلقد ساهم في تأسيس الحركة الإسلامية في زمن مبكّر، في جيل الكبار الذين عاصرهم. نشأ الشيخ إبراهيم كمال داخل الحركة الوطنية وكان يمثّل داخلها موقع الفدائي والأستاذ والفقيه. لم تكن الحركة الإسلامية في نظر هذا الفتى يومئذ مجرد لعبة سياسية أو محطّة في تنويع أيديولوجي، بل كانت اختيارا رافق إبراهيم كمال منذ نعومة أطفاله منذ كان ملازما لدروس أعلام وفقهاء الحركة الوطنية من أمثال العلامة بوشتى الجامعي، ومنذ كان يقرأ المتون التعليمية الأولى في درس المرحوم الشيخ عبد الرحمن النتيفي، حيث حفظ الشيخ إبراهيم القرآن مرورا بأيّام المقاومة والحركة الوطنية وانتهاء بانخراطه في العمل السياسي والنقابي. يختلف إبراهيم كمال عن سائر قادة الحركة الإسلامية المغربية في كونه نشأ على التّديّن منذ الطفولة وليس فقط في فترة متأخرّة من عمره. فلمّا كانت قيادات الحركة الإسلامية المغربية غارقة في تيه معرفي وأسئلة وجودية ، حيث كاد بعضها أن يتبودد والآخر أن يتسرتر، كان إبراهيم كمال على تدينه المغربي الأصيل. كان خيار الحركة الإسلامية نابعا من إحساس إبراهيم كمال واجتهاده بأن مغرب الاستقلال كان لا بدّ أن يحسم في سؤال الهويّة الوطنية. بين إبراهيم كمال وعبد الرحيم بوعبيد لقد كان سؤال تحديد هوية الاتحاد الوطني الأيديولوجية هو الخلاف الأوّل والأخير بين الأستاذ إبراهيم كمال والقيادي عبد الرحيم بوعبيد يومئذ. وللتّذكير ، فإن إبراهيم كمال كان هو المسؤول عن مكتب الاتحاد الوطني في منطقته. وهناك كان إبراهيم كمال هو نفسه من قام بتدريب زوجة عمر بن جلون في مكتبه. وقد كان عمر بنجلون يستقوي بإبراهيم كمال ومجموعته داخل الاتحاد الوطني في الانتخابات النقابية. وكان هو قد طلب منهم ذلك ووافق إبراهيم كمال بالفعل. وكان في فترة العمل النقابي داخل الاتحاد الوطني هو من قام باستقطاب بعض القيادات النقابية المعروفة اليوم ، مثل نوبير أموي، الكاتب العام للكونفيدرالية الديمقراطية للشغل. فلقد كان هذا الأخير بمعية آخرين يأتيه أسبوعيا ، كان إبراهيم كمال يعطيهم دروسا في موضوعات مختلفة كما يدرسهم كتبا خاصة، مثل "لعبة الأمم" لماكيل كوبلاند، هو من كان ضحية لعبة سياسية محلّية. وكذا كتاب "الفكر الإسلامي المعاصر : دراسة وتقييم" لغازي التوبة. لقد حصل اختلاف بين إبراهيم كمال وعبد الرحيم بوعبيد سنة 1964م حول هذه المسألة، ما اضطره إلى الخروج من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ففي اجتماع حضره كل من بوعبيد وعمر بن جلون والفقيه البصري وغاب عنه المهدي بن بركة طرح إبراهيم كمال مسألة تحديد هوية الحزب، لا سيما بعد أن بدأت تبرز أفكار وتوجّهات أيديولوجية جديدة. كانت قناعة إبراهيم كمال هو أن الشعب المغربي مسلم ويريد الإسلام. بينما في لجة النقاش كان عبد الرحيم بوعبيد يؤشّر على الجانب الرجعي في هذه الأطروحة، مما أدى إلى الفراق. وفي سنة 1965م بدأ إبراهيم كمال نشاطه التربوي بمسجد الشّافعي بالدار البيضاء، حيث كان من بين أوائل من حضر جلساته التربوية الشيخ زحل. كان العمل في ظاهره دعوي تربوي، بينما كان هناك من يراقب ويقوم بتأطير واستقطاب واستيعاب الشباب ضمن مشروع تنظيم الشبيبة الإسلامية.ادريس هاني