علال الفاسي وحركة الشبيبة الإسلامية حصل حينئذ تفاعل إيجابي مع هذا المشروع من قبل قيادات في العمل الوطني، لا سيما الزعيم التّاريخي لحزب الاستقلال : الأستاذ علال الفاسي. وإذا كانت قيادة الجماعة الإسلامية فيما بعد وقبل اندماجها في حزب عبد الكريم الخطيب قد طرقت باب حزب الاستقلال بدعوى أنّه حزب قريب من حيث مبادءُه من توجهات الجماعة، فهذا لا ينبغي أخذه على بساطته، بل له خلفية يدركها عبد الكريم مطيع أكثر من أبناء الجماعة الإسلامية الذين عرضوا انتماءهم الأوّل على حزب الاستقلال دون أن يعلموا آثار هذا التوجيه الذي رتّب ترتيبا حسب الأهمّ والمهم. سنتحدّث فيما بعد عن أنّ اختيارات الجماعة الإسلامية حتى في الاندماج الحزبي لم تكن بعيدة عن إيحاءات عبد الكريم مطيع. ولكن هناك تساؤل مشروع لكنه لم يتأكّد لي بعد حول ما إذا كان الأخير يرى أنّ الاندماج في حزب الخطيب هو أسوأ من اندماجهم في حزب علال الفاسي؛ ذلك لأنّ مطيع يدرك مدى نفوذ الخطيب وقدرته على احتواء الجماعة لصالح أجندة قد تكرّس عزلة مطيع في منفاه الملتبس. وأعني بذلك أن الخطيب هو نفسه كان يدرك أن احتواءه للجماعة ممكن لكن شريطة أن يبعدها قليلا عن تأثير مطيع. لعلّ هذا ما يفسر عمق الخلاف والانزعاج الذي ما فتئ يبديه مطيع من الخطيب. مما يجعلنا نتساءل : إذا ما كان اندماج الجماعة في حزب الخطيب هو الهدف غير المعلن لمطيع نفسه أم أنّ الخطيب كان قد سارع لإحباط خطّة مطيع بقبول اندماج الجماعة في حزبه، فكان ذلك هو سبب نقمة مطيع على خيار الجماعة وعلى الخطيب نفسه؟ سؤال وجب طرحه وبحثه، حيث يشكّل مدخلا مهمّا لفهم جدل التصعيد واللّوم المطيعي لقيادة الحركة الإسلامية البديلة . لمعرفة ذلك لا بدّ من الرّجوع قليلا إلى الوراء. مثلا، كان علال الفاسي بعد أن تعرّض للقذف بالطماطم في الجامعة ، قد بدأ يميل ميلا شديدا للحركة الإسلامية. فلقد عقدت جلسات خاصّة لا يعلم بها حتى قادة حزب الاستقلال بين إبراهيم كمال وعبد الكريم مطيع وعلال الفاسي، حيث استحسن آراءهما، وقد أخبرهما علال الفاسي بأنّه لولا وجود بعض الظروف لكان انظمّ إلى الشبيبة الإسلامية. وكان علال الفاسي قد وعد قيادة الشبيبة بأنه لمّا يعود من مؤتمر الألفية عن ابن سينا في إيران، سيدعمهم بطريقة غير مباشرة وأن يصدر مجلة باسم معين على أن لا يعرف أحد بذلك. لكنه لم يرجع حيث مرض بالتشيك وتوفيّ رحمه الله. وكان عليّ يعتة أوّل من أصدر بيانا ضدّ الإسلاميين حينئذ تحت عنوان : "من يحرك هؤلاء الظلاميين؟". فكان أن ردّ عليه علال الفاسي بمقالة تحت عنوان : "هؤلاء الذين تحرروا من الخوف". النشأة أصيلة والنهاية تقليد إن ميزة أخرى للحركة الإسلامية يومئذ أنّها لم تأت تقليدا. فلقد سمعت من الشيخ إبراهيم كمال أنّ تجربتهم لم تكن تقليدا للإخوان المسلمين في مصر، ولا كان لهم علاقة بها. بل ولقد حدث أن تعرّض إبراهيم كمال للتعذيب في السجن وسئل عمّا إذا كانت لهم علاقة بالإخوان المسلمين، فأجاب بالنفي؛ وكانت تلك هي الحقيقة بالفعل. أفهم أنّ قضية تأثير تيّار الإخوان المسلمين جاء متأخّرا. بل لا أستبعد أن ذلك هو ما كان يمثّل البصمة الخطيبية على جسم الحركة الإسلامية منذ استقدم عبد الكريم الخطيب أثناء توليه رئاسة أول برلمان مغربي في الخمسينيات من القرن الماضي، القيادي الإخواني ، توفيق الشّاوي، وتعيينه مستشارا قانونيا له. بالإضافة إلى عدد من رموز الإخوان المسلمين كانوا ضمن أصدقاء وحاشية الخطيب ومن خلاله تمّ التّعرف عليهم من قبل الجماعة الإسلامية، من أمثال عمر بهاء الدين الأميري وصالح أبو رقيق. إن التقليد طرأ على الحركة الإسلامية في مرحلة التّشتّت والالتباس حيث أعيد توزيع وإعادة إنتاج ثقافتها وأدبياتها على أرضية التّصور العام للإخوان المسلمين. بل يبدو لي أنّ بداية تأثير خطاب الإخوان المسلمين في الحركة الإسلامية المغربية تكرّس أثناء تواجد مطيع في منفاه بالسعودية وفي مرحلة أخرى بالكويت، واتصاله بمؤسسات (مثل منظمة الندوة العالمية الإسلامية) و مشايخ وزعماء الحركة الإسلامية الذين شاركوه المنفى من أمثال صديقه المقرّب زين العابدين سرور مؤسس التّيار السلفي السروري والقيادي السّابق لتنظيم الإخوان المسلمين بسوريا. وهو نفسه من كان مبعوثا لعبد الكريم مطيع من الكويت بهويّة مزورة إلى المغرب في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي لمحاولة تحريض شباب الحركة الإسلامية ضدّ قيادة السّداسيين . لقد انتقلت الحركة الإسلامية المغربية من طور السلفية الوطنية التي تستمدّ أصول تفكيرها من أمثال أبي شعيب الدّكالي والمختار السوسي وبوشتى الجامعي وابن العربي العلوي، الموسومة بالأصالة والعقلانية والانفتاح، والتي كانت تصل الحركة الإسلامية من خلال الشيخ إبراهيم كمال، إلى سلفيات مستوردة بحمولتها الفكرية ورهاناتها السياسية من الخارج. كان رموز السلفية الوطنية أساتذة ومعلمّين وفقهاء ومفتين في الحرم المكّي،كما كان من شأن أبي شعيب الدّكالي، ورموزا للحركة الوطنية حتى كان الفرنسيون يعتبرون كل سلفي مغربي وكانوا يخلطون بين السلفية عموما والوهابية خصوصا هو بالضرورة مناهض للاستعمار. وليس كشأن السلفية المستحدثة في المشرق والتي انفضح شأنها كما في مذكرات مستر هانفر، صنيعة للاستعمار البريطاني. لقد كانت السلفية الوطنية في أساسها حركة حضرية استهدفت رفع الوعي ودخلت في صراع مبكّر مع الخرافة ومع مظاهر البداوة. وكان يكفي أن ينعت السلفي الوطني بالبداوة لكي يفقد بعضا من جاذبيته عند أهل الترجمة والرجاليين. فعلى ما كان من قدر عبد الرحمن النتيفي الجعفري عند أهل التراجم، قال فيه الشيخ محمد الباقر الكتاني : كان فيه بدوية، إذ علمه لم يتحضّر. بينما كان أساس السلفية المستحدثة في المشرق حركة بدوية استهدفت الرجوع بالوعي إلى الماضي وحاربت المعقول بالمنقول والمدنية بالبداوة. فتراث السلفية الوطنية المغربية كان شاهدا على هذا الميز الذي لم تحافظ عليه الحركة الإسلامية التي سرعان ما أصبحت أكثر ميلا للخطاب السّروري نسبة لزين العابدين سرور زعيم التيار السلفي السروري منها إلى السلفية الوطنية، بعد أن بعثه مطيع في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم لتغيير منحى الحركة الإسلامية من السلفية الوطنية إلى السلفية الوهابية. وكان هذا الارتداد عن السلفية الوطنية إلى السلفيات المشرقية، هي أولى خطوة قام بها مطيع في غياب إبراهيم كمال، لربط القيادة الشابة البديلة بمصادر تفكير وخطاب يغني عن الإرث الدّاخلي وعن وصاية إبراهيم كمال على الخطاب التّربوي للحركة الإسلامية. وقد ظهرت آثار ذلك واضحة؛ إذ بمجرد أن غادر الشيخ إبراهيم كمال السجن، حتى بات غريبا عن الحركة الإسلامية التي لم تهتمّ به بما يناسب موقعه التّأسيسي والتربوي؛ هذا في حين استغنت الحركة الإسلامية البديلة بخطاب سلفي خارجي، تؤمّنه منشورات مراكز الدّعوة السلفية في المشرق بتحريض من عبد الكريم مطيع. هذا يعني أنّ الجماعة الإسلامية حتى في مرحلة ما بعد الشبيبة كانت تخضع لإعادة إنتاج خطابها الحركي والدّعوي كما خطّط له الأستاذ عبد الكريم مطيع وتمثّلته القيادة البديلة. وهو الذي شكّل تحوّلا في خطاب الحركة الإسلامية، وذلك في غياب الشيخ إبراهيم كمال، الذي كان حتى ذلك الوقت مغيّبا في السجن. لقد حدث تحوّل في تجربة عبد الكريم مطيع على المستوى الإقليمي والدّولي، كان سببا في إحداث تحوّل في خطاب وثقافة الحركة الإسلامية كما صارت عليه الجماعة الإسلامية كوريث وبديل عن الحركة الإسلامية الشبيبية. وهي المرحلة التي استبدل فيها عبد الإله بن كيران بالشيخ إبراهيم كمال، كقائد للحركة الإسلامية البديلة. سنشير فيما بعد وعلى سبيل الاختصار إلى ما نقصده بمفهوم الحركة الإسلامية البديلة وملابساتها. لكنه من المهمّ أن يشار إلى أنّ هذه اللحظة التي شكّلت إعادة ترتيب وضع الحركة الإسلامية بتنسيق بين قيادة الشبيبة وقيادة ما سيعرف بتنظيم(حاتم) بعد زيارتها لمطيع في منفاه، هي ليست قطيعة بين رجلين، بل هي لحظة قطيعة بين منهجين وخطابين ومرحلتين من العمل الإسلامي تمّ التوافق عليها من قبل الرّجلين. هذا لا يعني أن الأستاذ عبد الكريم مطيع كان متأثّرا بالسلفية الوهّابية بالمعنى التقليدي لمفهوم التّأثر والتأثير، بل كان ذلك في سياق رهانه السياسي، حيث لم يلبث قليلا في منفاه بالسعودية حتى فرّ منها على إثر أحداث مكة التي تزعمتها حركة الإخوان بقيادة جهيمان العتيبي في 1980م ، في اتجاه الكويت. لم يكن استقراره في الكويت سوى محطّة كان الأستاذ مطيع يبحث فيها عن مخرج إلى جهة أخرى ضمن البدائل المطروحة يومها أمام كل زعيم إسلامي؛ ذلك لأنّ الاستقرار في ليبيا القذّافي كان خيارا مريبا، ولم يكن خيارا أثيرا للشخصيات الإسلامية أنذاك. لكن كانت هناك خيارات أخرى أمام مطيع تغنيه عن التّوجّه لليبيا، لاسيما في اتجاه السودان حيث قدّم له عرض من السودان بوساطات مع حسن الترابي مستشار النميري أنذاك، بالإقامة في السودان وشغل منصب مفتش عام للمدارس الدينية. لكنه فضل السفر إلى إيطاليا ومن ثمّ إلى فرنسا حيث سيقدم طلب اللجوء إلى ليبيا القذّافي، في خطوة غامضة، ليرتبط مصيره منذ ذلك الحين بهذا البلد وما يحيط به من أنشطة ورهانات، بعد أن تعززت علاقته بالقذّافي وغدا واحدا من مستشاريه السياسيين في الظّل، إلى أن سقط النظام الليبي بأيدي الثوار من الحركة الإسلامية، ويغادر مطيع طرابلس باتجاه لندن. قد يكون من قبيل المفارقة أن يكون وهو الإسلامي الذي لا يؤمن بالنظرية الثالثة للقذافي صديقا لنظام أطاح به الإسلاميون. وفي كل هذا، ظلّ إبراهيم كمال على فكره الإسلامي المغربي ، حتى عدّه بعضهم ممن تجاوزتهم التجربة الإسلامية وهم في هذا يخطئون الحقيقة لأنّ الشيخ إبراهيم كمال لم يكن جزء من لعبة التّحول الذهني والتغيير في خطاب الحركة الإسلامية البديلة. فدفع ثمن أصالة فهمه الدّيني ووطنيته غاليا.هذا جانب كبير من حياة هذا الرجل لا يعلمه المغاربة. مع أنها وحدها تعطينا صورة عن حقيقة ما جرى من حوادث وتصدّعات وتضعنا أمام فهم حقيقي لأهم المنعطفات في مسار الحركة الإسلامية التي ما فتئنا ننعتها بالالتباس في طورها الجديد. سوف أتناول فيما يلي بعض الحقائق عن تجارب الشيخ إبراهيم كمال وكذا عن الحركة الإسلامية في أطوارها الأولى مع إشارة لجانب من تجاربها الإقليمية والدّولية وهو ما لم يسلّط عليه الضوء حتى الآن. ولا شكّ أنّ المنهجية تقتضي أن نقف مليّا عند حادث مقتل القيادي والنقابي الشهير عمر بنجلون، لأنني أعتقد أنّ مقتل بنجلون في التأثير على مصير ومسار الحركة الإسلامية المغربية كتأثير مقتل سيد قطب على الحركة الإسلامية في مصر. كلاهما شكّل منعطفا في مسار الحركة الإسلامية في كل من مصر والمغرب. فالحركة الإسلامية المصرية بعد حادث إعدام سيد قطب ليست هي نفسها قبل إعدامه. كذلك الحركة الإسلامية المغربية بعد حادث اغتيال بن جلون ليست هي نفسها قبل اغتياله. إنها العقدة التي شكّلت مبتدأ الغموض والالتباس فيما تبقى من عمر الحركة الإسلامية المغربية. وهو الوضع نفسه بالنسبة لمسار اليسار المغربي. فبالنّسبة لمحمد عابد الجابري، كانت تلك بمثابة الإرهاصات الأولى للإرهاب الذي استهدف عمر بن جلون بعد المؤتمر الاستثنائي عام 1975م. أي ما يوحي بأنّها أيضا شكلت منعطفا في التجربة الاتحادية.ادريس هاني