يقول الفيلسوف الكندي “ألان دونو” في مقدمة كتابه القيّم: «Mediocratie» الصادر سنة2015: “لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً، فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، فتح مقلتيك، ارخ شفتيك، فكر بميوعة، وكن، كذلك، قابلاً للتعليب، لقد تغير الزمن، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة”! يعرف العالم منذ نهاية القرن الماضي تحولات عميقة على مختلف المستويات، همّت بالأساس الجوانب الاقتصادية التي كانت لها انعكاسات عميقة على مفهومي الديمقراطية والدولة ودورها، ومن خلالها دور مؤسسات الوساطة التقليدية المتمثلة في الأحزاب السياسية والنقابات العُمالية وغيرها، وما رافق هذه الوسائط من سرديات قدمت تصورها للدولة والمجتمع من زوايا مختلفة. الأكيد أن أغلب بلدان العالم تعيش هذه التحولات دون امتلاك القدرة على التحكم فيها أو الحد من تبعاتها، فإذا كان الأمر على المستوى الاقتصادي يتم وفق عملية الاحتواء والدمج من قبل الرأسمال العالمي، الذي بلغ درجة عُليا من التركيز في زمن تغوّل النيوليبرالية، فإن تبعات ذلك على المستوى الاجتماعي والسياسي يحتاج إلى بحث أعمق وإلى مساءلة نقدية، إذ يرى البعض أننا نعيش زمن الأفق “مابعد السياسي”، في ظل تراجع الفكرة الديمقراطية بتراجع أسسها الاقتصادية. إن هيمنة الشركات المتعددة الجنسية وعولمة نمط الإنتاج والاستهلاك والتحكم المباشر في عوامل الإنتاج وعلاقاته، وما أفضى إليه من فرض للاختيارات الاقتصادية على الدول، في إطار ما سمي بالعولمة، قد حدّ بشكل كبير من دور الدولة، وبالنتيجة غير مفهوم السيادة، الذي لا يتطابق اليوم تعريفه في السرديات القانونية الكلاسيكية، مع ما يجري في الواقع. إن هذا التحول له انعكاس مباشر على المؤسسات التي تشكل النظام الديمقراطي، من أحزاب وبرلمان وحكومة ومجتمع مدني، فالرأسمالية اليوم، في أقصى درجات تطورها، تهدد القيم الليبرالية التي شكلت لقرون تعبيرا سياسيا رئيسا، وأساسا من الأسس التي قامت عليها، فتراجع دور الدولة أو شيوع الحد الأدنى من الدولة، بتعبير آخر، له تأثير مباشر على الديمقراطية وعلى شرعية ومشروعية المؤسسات التي تفرزها. إن أحد أسباب هذا التراجع يعود إلى الصعوبات الموضوعية التي تواجه الالتزام بمضمون التعاقدات الانتخابية التي تشكل أحد الأسس التقليدية لبناء الشرعية وحيازة السلطة في أي نظام ديمقراطي، والتي تشكل عقدا بين الناخبين والحائزين على السلطة في دورة انتخابية منتظمة، وهذه الصعوبات ترتبط بالتراجع التدريجي عن امتلاك القدرة الكاملة على التحكم في العرض الاقتصادي والاجتماعي الذي يمكن أن تقدمه أي حكومة منتخبة، وذلك نتيجة ضيق هامش التحرك على هذا المستوى بسبب تأثير المؤسسات المالية الدولية والشركات المتعددة الجنسية، التي أضحت – فعليا، وبنسب متفاوتة حول العالم- هي من يتحكم في الاختيارات الاقتصادية دون أن تكون منتخبة، ودون إمكانية محاسبتها من قبل جمهور الناخبين. هذا الأمر يطرح اليوم ويفسر أزمة الديمقراطية التمثيلية وتصاعد مقاطعة العمليات الانتخابية والأحزاب السياسية في العديد من دول العالم.. فالعديد من الشعوب تشعر بخيبة الأمل في النظام الديمقراطي الحالي، والذي أثبت محدوديته، فالناخبون يعتقدون بشكل متزايد أنهم لا يؤثرون في الاختيارات الاقتصادية والسياسات العمومية لبلدانهم، كما أن هذه الخيبة تتحول بشكل متزايد إلى رهان على الخطابات المطلقة التي، إما أنها تعكس وجهة نظر صاعدة من أقصى اليمين، وإما أنها تمثل تيارات اليسار الجديد، والتي ترى أن الحل يكمن في التمرد على شكل الدولة الليبرالية القائمة على الاقتصاد الرأسمالي، وبين هذه “البدائل” يظهر تيار يركز على الخطاب الديني، وفقا لتفسيرات معينة بوصفها بدائل ممكنة، خاصة في العالم الإسلامي، وقد أثبتت هي أيضا محدوديتها، خاصة بعد “الربيع العربي”. وقبل ذلك، كان “أونتوني غيدنز” قدم أطروحة حول “الطريق الثالث”، والتي استهوت جزءا معتبرا من الاشتراكيين الديمقراطيين، وخاصة تجربة رئيس الوزراء البريطاني السابق “توني بلير” في حزب العمال، غير أن هذا التوجه سرعان ما تحول من خطاب بديل للعولمة السائدة، إلى مجرد صيغة توفيقية تسعى إلى حد أدنى من أنسنة النيوليبرالية المتوحشة، كما يقول “شانتال موف” في نوع من الاستسلام الذي يقوض أي طموح لقيام بديل حقيقي. المؤسف اليوم، في المنطقة التي ننتمي إليها، أننا نسعى وراء الديمقراطية كمن يسعى وراء قط أسود في غرفة مظلمة، في الوقت الذي تعيش فيه الديمقراطية أسوأ مراحل تطورها بالشكل الذي أصبح فيه الحديث ع “مابعد الديمقراطية” أمرا راهنا ويفرض نفسه بإلحاح، وأحد ملامح الزمن “مابعد الديمقراطي” نجد تراجع الفاعل السياسي وتقدم أدوار التقنوقراط أو ما يُسمى الخبراء، وقد كان “إمانويل تود” قد أكد على أن جذور بداية حكم التافهين انطلقت مع “مارغريت تاتشر”، التي في عهدها انقلبت كثير من المفاهيم، إذ تحولت السياسة وأزمتها إلى مشكل يتعلق فقط، ب”الحكامة”، وصار المواطن مجرد “شريك”، بينما قضايا الشأن العام وبكل عمقها وأبعادها السوسيولوجية العميقة، غدت موضوعا “إداريا” محضا، وفي النهاية تحولت الدولة إلى مجرد شركة من شركات القطاع الخاص تهيمن عليها فئة قليلة من الأثرياء اختزلت المصلحة العامة بشكل تلفيقي، في كونها مجرد مجموع المصالح الفردية، وتم بذلك تكريس الحد الأدنى من الدولة. يبقى السؤال إذن هو، هل تستطيع بلداننا ومجتمعاتنا المتخلفة أن تواكب التحولات العميقة التي تعرفها الدولة في المجتمعات الغربية، أم إنها لا تستطيع أن تفعل سوى نقل تشوهاتها في سياق غير السياق، ولمجتمع غير المجتمع؟.