لا ينطق الرئيس الفرنسي بكلمة إلا إذا كتبها مستشاره الخاص، وفي الولاياتالمتحدة تحيط بجورج بوش مجموعة من المحافظين الجدد يطبقون نظريات أستاذ فلسفة يهودي يكره العلم والدهماء ويمدح الكذب والحروب. من قال إن الأفكار انتهت خاطئ بالضرورة، ومن يحاول التقليل من شأن الفكر واهم، لكن المؤكد أن الفلسفة والبلاغة والسوسيولوجيا انحرفت عن وظيفتها الأساس، وصارت تحيا لهدف واحد هو خدمة السلطة. هذه نماذج لنظريات وأفكار يستلهمها رؤساء ويطبقونها حرفيا، مع ما يمكن أن تتسبب فيه النظرية من مشاكل حين تطبق على أرض الواقع. إعداد: حميد زايد - لا يتكلم نيكولا ساركوزي إلا بلسان مستشاره الخاص هنري غيانو، وعندما يخاطب الرئيس الفرنسيين فإنه يردد لغة هذا الرجل الذي برز اسمه بقوة في الآونة الأخيرة، يتحمل عواقب أفكاره حينما يفشل، ويتبجح بها حينما يصيب، إنه لسان الرئيس الذي يثق فيه ثقة عمياء. كل الأفكار التي تحسب لصالح ساركوزي كان وراءها هنري غيينو، فإليه يعود مشروع «الاتحاد المتوسطي» الذي روج له الرئيس الفرنسي مع بداية فترته الرئاسية، لكنه هو أيضا من كتب خطاب ساركوزي في السنغال، والذي اعتبره العديد من المتتبعين والأفارقة خطابا عنصريا يحقر السود ويقلل من شأن حضارتهم. إن أشرس هجوم تعرض له المستشار الخاص للرئيس الفرنسي كان من الفيلسوف برنار هنري ليفي الذي وصف غيينو بالعنصري، وأنه من كتب خطاب دكار المنحط الذي قرأه ساركوزي ولم يكتشف محتواه إلا وهو في الطائرة. في حين كان رد هنري غيينو بدوره عنيفا مهاجما الفيلسوف بالقول: «إنه لا يهمني أمر هذا الوغد الصغير والمدعي. من يكون وماذا فعل في حياته ليسمح لنفسه بالحكم علي بهذا الشكل؟ لم ألتق يوما ببرنار هنري ليفي، إنه لا يحبني وأنا أيضا، هو لا يحب فرنسا، وأنا أحبها». يعرف هنري غيينو نفسه بأنه «صديق ومستشار وريشة ساركوزي»، في حين يقول هذا الأخير «سينتهي بي الأمر إلى إنجاب ولد من غيينو، إني أحبه، وعندما نكون معا تدمع عيوننا». حينما ذكر ساركوزي بعض رموز الأدب والفكر الفرنسيين أثار كلامه حنق اليسار، معتبرين أنه سطا على أسماء هي على نقيض تصوراته السياسية ولا تنتمي إلى الفكر اليميني الذي يدافع عنه، فارتفعت بذلك أصوات تنتقد ذكره لجوريس واستغلاله لأعلام ثقافية استغلالا سياسيا، لكنهم نسوا أن ساركوزي كان ينطق بلسان مستشاره الذي يعرف كيف يثير مشاعر الفرنسيين وكيف يقصد خلط المفاهيم والإيديولوجيات بهدف تحقيق صورة رئيس لكل الفرنسيين. نفس الأمر تقريبا حدث لما نادى ساركوزي بإحداث قطيعة مع روح الثورة الطلابية لماي 1968 وما تركته من أثر على أخلاق الفرنسيين وسلوكهم، حيث كان هنري غيينو مرة أخرى وراء هذه الفكرة التي أسالت كثيرا من المداد. يحاول هذا المستشار الذي أصبح اسمه يقترن بالرئيس الفرنسي وبخرجاته الإعلامية الدفاع عن نموذج فرنسي مستمد من التاريخ، وذلك بإحياء فرنسا الخالدة والمثيرة للحنين، فرنسا اليمينية، وفرنسا السلطة القاهرة والأنوار، إن «فرنسا هي الفكر الواضح والعقل وروح الأنوار، إنها أيضا 2000 سنة من الحضارة المسيحية، إنها الرب خارجا من غبش المعبد بعد أن سجنه الفن الروماني ليمنح نفسه لنور الكاتدرائيات... لقد حققت الجمهورية حلم الملوك القديم بأن صنعت لنا أمة موحدة وغير قابلة للانقسام». هذه البلاغة الوطنية التي جعلت من التقاليد التاريخية والوحدة الوطنية حصان طروادة للحملة الانتخابية لساركوزي، هي التي منحت الرئيس الفرنسي تلك الأوصاف البونابارتية التي سمحت له بالفوز بالانتخابات. ويفسر المستشار الخاص للرئيس الفرنسي الدوافع التي جعلته يعطي الأولوية لمفهوم الأمة أثناء الحملة الانتخابية بكون فرنسا تعيش أزمة هوية عميقة وأزمة أخلاقية تتعلق بقيم الجمهورية والهجرة غير المتحكم فيها وأزمة المدرسة والعولمة ثم التسطيح الثقافي، موضحا أن خلف هذه الفكرة الوطنية يكمن مفهوم التضامن والانتماء إلى أمة. ولد هنري غيينو من أم كانت تشتغل خادمة في البيوت وأب مجهول، إلا أن هذا الانتماء لم يؤثر كثيرا عليه، واعتبر أن الأمر لا يشكل بالنسبة إليه مجدا يفتخر به ولا عارا يحاول التخلص منه. سيكتشف الولد الفقير الذي لا يعرف والده أن له قدرات في التعلم جعلت منه تلميذا مجتهدا في المدرسة، «إن ما أتذكره من ماضي البعيد، أني كنت أمتلك رغبة في التعلم». لقد ربي في كنف أمه وجدته، وكانت المرأتان تحاولان تحقيق هدف واحد في حياتهما، هو أن يحققا للولد حياة أفضل من الحياة التي عاشتاها، هكذا قبلتا أن يلتحق بمعهد العلوم السياسية على أن يلج سوق الشغل. يقول دومنيك بايي أقرب أصدقائه ومستشار هو الآخر للرئيس: «لا تهمه السلطة بما تمثله كسلطة، لكنها تهمه أكثر كي يفعل فيها ويؤثر في مسار الأشياء». ورغم أنه كان تلميذا نجيبا فالنجاح لم يكن من نصيبه في كل الحالات، حيث فشل في مباراة القبول في المدرسة الوطنية للإدارة التي تتخرج منها النخبة الفرنسية. ليو ستراوس نبي المحافظين الجدد يجمع المهتمون بإيديولوجيا المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة، أن سياساتهم وأفكارهم مستمدة من كتابات ودروس الفيلسوف ليو ستراوس، وهو يهودي ألماني ولد عام 1899 وتوفي سنة 1973، فر من النظام النازي، ودرس بجامعة شيكاغو حيث شكل مدرسة فكرية خلقت أتباعا لها بين الأمريكيين. ومن بين أشهر تلامذته هناك بول وولفويتز وإرفينغ كريستول الذي يتخذه المحافظون الجدد إنجيلا لهم. يقول الكاتب جون والش في مقال له بعنوان «فلسفة التدليس» إن من طبيعة كل الحكومات الكذب، إلا أن هناك من تكذب أكثر من الأخرى، ذاكرا نموذج المحافظين الجدد بزعامة الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي يبني سياسته على أطنان من الأكاذيب كل يوم، مع تناول وجبة الإفطار، ويستند في ذلك إلى تلك النخبة الأمريكية من المفكرين والمستشارين التي تنتمي إلى مدرسة ليو ستراوس، والتي تعتبر ممارسة الكذب شيئا «نبيلا»، لأن القواعد والقطعان البشرية لا يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها دون اللجوء إلى حيلة الكذب. وفي سبيل ذلك تم تطوير هذه «النظرية» من طرف أتباع أهمهم سكوتر ليبي تحت اسم «الكذب النبيل»، لتتحول هذه الفلسفة السياسية الغريبة إلى برنامج ونواة لرؤية القادة الأمريكيين للعالم ومواقفهم وتدخلاتهم العسكرية. إنهم من استنفر الأمريكيين لخوض حرب العراق، ومن أسر للرئيس بوش بالفوضى البناءة، حتى أن من بينهم من أصبح يدعو إلى حرب مشتهاة ومختارة على الرئيس الأمريكي أن يبحث عنها، وأن يختلق مبررات خوضها تشبه «بيرل هاربور». وكمثال على تطبيقات «الكذب النبيل» يتذكر الجميع المهمة التي كلف بها شخص يسمى شولسكي، المعروف عنه تمثله لأفكار ليو ستراوس، حينما كلف بصناعة كذبة تتحدث عن الأسلحة الكيماوية التي توصلت الاستخبارات الأمريكية إلى وجودها، والتي جرت الولاياتالمتحدة إلى خوض الحرب. هناك كتاب «ليو ستراوس وسياسات الإمبراطورية الأمريكية» لأستاذة العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا الأمريكية آن نورتون تشرح فيه أفكار نبي المحافظين الجدد الفلسفية، وعملان آخران لشاديا دروري أستاذة العلوم السياسية في جامعة كالغاري، هذه الأخيرة حددت المحاور الكبرى لأيديولوجيته، فلكي تحكم وتسود حسب ليو ستراوس يجب أن تفوض هذه المهمة إلى نخبة الأغنياء القادرين وحدهم على كبح جماح غيرهم الذين لا يصلحون إلا لشيء واحد هو الإذعان، ومن الضروري كي ينجح هذا النظام السياسي فعلى النخبة المفكرة، المتأثرة طبعا بأفكار ستراوس، أن تحرك خيوط الحاكمين دون أن تخرج أمام الملأ، وأن يبقى نشاطها في السر. يجب على هذه النخبة أيضا، حسب تعاليم الأستاذ، أن تحافظ على أسس الدين والعزة القومية وأن تعمل جاهدة على تقويتها، لأنها أسهل وأضمن طريقة لفرض القانون على القطيع والسيطرة عليه وسوقه إلى الحرب، كخرفان تساق إلى المسلخ. إن الدين بالنسبة إلى المحافظين الجدد هو عامل أساس في ممارسة سلطتهم، ويؤكد إرفينغ كريستول، أحد أتباع «فلسفة» ليو ستراوس هذا الأمر ويعتبر الدين أهم من مؤسسي الولاياتالمتحدة الأوائل، إلا أنهم يستثنون الإسلام الذي قرروا جميعا أن يكون عدوهم الأوحد. وكما هو الحال بالنسبة إلى نبيهم ليو ستراوس يهتم المحافظون الجدد أساسا بالسياسة الخارجية، في حين يصطفون في ما يخص السياسة الداخلية إلى جانب برنامج الأصوليين مقابل الدعم الذي يتلقونه من اليمين الديني في سياستهم الخارجية. يلح لي ستراوس على ضرورة التوفر على مواهب بلاغية وخطابية لا يشق لها غبار، بهدف إعلاء قيمة أشياء تافهة وغبية وجعلها قابلة للتصديق والإدهاش، ويفسر جون والش هذه الإيديولوجيا بلغة جديدة هي حشو الأدمغة أو غسيلها، لا فرق، باستعمال الكذب، لخداع الرعاع وسوقهم كقطيع من الأغبياء. ينشغل تلامذة ليو ستراوس بالطريقة التي تمكنهم من تجاوز تأثيرهم الضيق على العقول، وكيف يمكنهم تجاوز أسوار الجامعات والتواجد وسط حلبة السلطة، حيث وصلوا بفعل عامل الحظ والذكاء إلى الالتقاء بالمتنفذين في الإدارة الأمريكية ونسج علاقات صداقة مع المسؤولين الأكثر سذاجة وغباء واستعدادا للتأثر بأفكارهم. في هذا الإطار يقدم الكاتب جون والش نموذج ويليام كريستول الذي اشتغل مدير ديوان نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب دان كوايل، وليبي الذي أصبح الذراع اليمنى لديك تشيني، والأمثلة كثيرة. من جهة أخرى يكن ليو ستراوس عداء كبيرا للعلم، ويقول إنه لا يبغض العلم في حد ذاته، بل يكره «العلم المعمم» الذي يطاله الجميع، إذ يجب أن تبقى المعرفة والعلوم حسبه حظوة خاصة بأقلية صغيرة وسرا يحتفظ به في الخفاء بعيدا عن أعين البشر العاديين. بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، بدأت أغلب الأحزاب الشيوعية تعيد النظر في إيديولوجيتها، ومنها من غير اسمه، وتحول إلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية أو ديمقراطية اجتماعية، ورغم هذه المحاولة للتأقلم مع مستجدات فرضتها التغيرات التي عرفها العالم، فإن اليسار ظل رهين تصور قديم يعتمد على الماركسية في فهمه للمجتمع والاقتصاد، وإن أراد التجديد فإنه كان يتجه نحو الليبرالية واقتصاد السوق قاطعا بشكل نهائي مع الفكر الاشتراكي الذي أصبح يرتبط في أذهان الديمقراطيين بالشمولية والحزب المستبد والقائد الضرورة والاقتصاد الموجه والديمقراطية المركزية. في هذا الخضم كان لا بد لأفكار جديدة أن تظهر، وأن تمنح لليسار فرصة أخرى للحياة، ومن بينها مفهوم الطريق الثالث الذي أطلقه عالم اجتماع بريطاني يسمى أنتوني غيدنز. وجد أنتوني غيدنز في رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الشخص الذي سيطبق نظرية الطريق الثالث، التي جاء بها لتخرج أحزاب وسط اليسار والديمقراطيات الاجتماعية من مأزقها واللبس الإيديولوجي الذي تتخبط فيه. كان طموح غيدنز يتركز على مراجعة نظرية اجتماعية ومساءلة فهمنا لمسار وتطور الحداثة ونقد ما بعد الحداثة، أما طريقه الثالث فهي فلسفة سياسية واقتصادية تتموقع وسط الاشتراكية الديمقراطية والليبرالية، واستلهمتها بالإضافة إلى الحزب العمالي البريطاني قيادات يسارية في أوربا وأمريكا مثل المستشار شرودر في ألمانيا، وبيل كلنتون في الولاياتالمتحدةالأمريكية. استعمل مفهوم الطريق الثالث أول مرة، حسب غيدنز، في فرنسا نهاية القرن التاسع عشر، ليتردد بعد ذلك عند أجيال عديدة من يسار الوسط، وقد ظهر في الأصل كحل وسط بين الرأسمالية الأمريكية والشيوعية السوفياتية، كما اتخذ في السبعينات اسم «اشتراكية السوق». مع صعود نجم توني بلير وأثر التاتشرية السيئ على البريطانيين برز اسم أنتوني غيدنز كملهم لرئيس الوزراء الذي بعث الحياة في حزب يساري كان يعيش نوبة احتضار. كانت أفكاره بمثابة النظرية التي وجدت الشخص الذي سيطبقها على أرض الواقع، إلا أنها مع الوقت رضخت لإغراء الليبرالية، ولم تسعف تلك الخلطة السحرية في مقاومة إغراء السوق والعولمة. ويقول أنتوني غيدنز إنه مع الطريق الثالث تمكن توني بلير من إغراء اليمين الليبرالي الفرنسي وإثارة غضب الجناح اليساروي في الأحزاب اليسارية الأوربية، ولهذا السبب ربما لم تنجح نظريته في فرنسا التي لم يرضخ حزبها الاشتراكي لتيار التغيير العاصف، وظل رهينة إرث لا يريد التفريط فيه. حين انتهى البريطانيون من طريقهم الثالث، بدأت تتعالى أصوات في فرنسا للاستفادة منه، ورغم أنه أصبح مفهوما يعود إلى حقبة تاريخية انقضت، فإن اليسار الأوربي الممارس للسلطة يحاول أن يجد نفس الوصفة التي هيأها غيدنز بالتوفيق بين خلق اقتصاد متحرك وتنافسي وهم التقليص من معدلات البطالة، دون التعويل على دعم الدولة أو دولة الرعاية حسب التصور الاشتراكي القديم.