لا أقصد باليسار الأخضر ذلك الحزب الذي أسسه عمر الزايدي بعدما اختلف مع رفاقه في اليسار الاشتراكي الموحد، وانتحر على عتبة أحزاب الإدارة في «G8»، بل أقصد جزءا من اليسار الحامل رؤية ومشروعا، والمعول عليه في النضال الديمقراطي على قاعدة الملكية البرلمانية، بعدما بهتت كل التجارب السياسية القائمة، وضمنها تجربة العدالة والتنمية التي تعيش ارتباكا كبيرا من فرط التنازلات التي قدمها الحزب، والأخطاء التي وقعت فيها الحكومة التي يقودها. هذا اليسار هو الذي يجب أن يتحلى –وبالخصوص قيادته- بالنضج المطلوب لتجنب سقوط تجربته في ردود أفعال انفعالية «خضرا». لقد ظهر ذلك في قضية الصحافي علي المرابط، حين امتنعت قيادات يسارية بارزة عن التضامن مع صحافي خرج من حكم غير مسبوق عالميا، مُنع بمقتضاه من الكتابة مدة 10 سنوات، ليجد نفسه بعدها ممنوعا من شهادة السكنى، حيث سوغت تلك الأسماء القيادية موقفها (رفض التضامن مع المرابط) بتبريرات أقل ما يقال عنها أنها لا تشرف العمق الحقوقي لليسار. هذا الأمر يتكرر الآن مع عبد العلي حامي الدين في موضوع متابعته التي تنطوي على استعمال غير سليم للقانون، بتعبير الحقوقي اليساري عبد العزيز النويضي، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه يساريون من قامة عبد الرحمان بنعمرو وخديجة رياضي، وتبناه أيضا المحامي والقيادي في الأصالة والمعاصرة، عبد اللطيف وهبي. فهؤلاء الأربعة، ومثلهم كثيرون، فطنوا إلى خطة مهندسي هذا الملف التي سعت إلى خلق جبهة هجينة (اليسار المناضل + يسار البام والاتحاد الاشتراكي + إعلام السلطة) في مواجهة العدالة والتنمية، كما انتبهوا أيضا إلى التدليس القانوني الذي تستعمله هذه الجبهة في قضية عبد العلي حامي الدين، وهو تدليس يتضمن ثلاث حيل قانونية. أولا، المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية تنص على عدم جواز محاكمة شخص على الأفعال نفسها، حتى ولو وصفت بأوصاف قانونية جديدة لا تهم إلا الأشخاص الذين حكم ببراءتهم، وهو ما لا ينطبق على حامي الدين، بما أنه صدر حكم بإدانته وقضى عقوبته. الذين يتبنون هذا الكلام صنفان؛ مدلسون أو متحمسون جهلة، لأن القواعد القانونية التي سنتها الإنسانية تنص على أنه لا يمكن محاكمة شخص مرتين على الأفعال نفسها متى صدر بشأن تلك الأفعال حكم قضائي حائز قوة الشيء المقضي به، بصرف النظر عن فحوى هذا الحكم، سواء قضى بالإدانة أو البراءة. وهو ما نصت علية المادة 4 من المسطرة الجنائية، عندما أعلنت أن الدعوى العمومية تسقط بصدور حكم حائز قوة الشيء المقضي به بشأن الأفعال التي عرضت على القضاء، بصرف النظر عن توصيفها. أما ما جاءت به المادة 369 من المسطرة الجنائية، فليس سوى تأكيد لهذه القاعدة القانونية بالنسبة إلى حالة البراءة، التي قد تبرر إعادة المحاكمة بالنسبة إلى من لا يدركون المغزى من القاعدة الكونية التي تمنع محاكمة شخص على الأفعال نفسها مرتين، وهو ما أكده البند السابع من المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي لا تخضع لأي استثناء: «لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو للعقاب على جريمة سبق أن أدين بها أو برئ منها بحكم نهائي وفقا للقانون وللإجراءات الجنائية في كل بلد». ثانيا، المادتان 228 و229 من المسطرة الجنائية، اللتان تنصان على أنه لا يمكن استدعاء شخص للتحقيق مرة ثانية في حال صدور أمر بعدم المتابعة إلا إذا ظهرت أدلة جديدة، مع تعريف ما هي الأدلة الجديدة. هاتان المادتان لا تهمان سوى التحقيق فقط، وليس المحاكمة. وهو ما لا ينطبق على حالة حامي الدين، بما أنه جرت محاكمته. أما بخصوص الأدلة الجديدة، فالمادة 229 من المسطرة الجنائية تعرفها بأنها المحاضر وشهادة الشهود والمستندات التي لم يتسنّ لقاضي التحقيق الاطلاع عليها عند إصداره الأمر بعدم المتابعة. المدلسون، وخلفهم المتحمسون، خصوصا من الصف اليساري، يحاولون الخلط بين التحقيق والمحاكمة، وتقديم شهادة الحديوي الخمار، الذي غير أقواله بعد 25 سنة من أقواله الأولى عند قاضي التحقيق، على أنها أدلة جديدة، في حين أنها ليست كذلك، بما أنه شاهد قديم استُمع إليه في القضية سابقا، وليس شاهدا جديدا. ثالثا، هناك قضايا أعيد فتحها في العديد من الدول، بعد مرور عشرات السنين على محاكمة أصحابها، بناء على اكتشاف أدلة جديدة، من قبيل أن نكتشف بعد سنوات أن «الضحية» في جريمة القتل العمد مازال حيا يرزق. هذه المسطرة تسمى المراجعة، وهي اختصاص حصري لمحكمة النقض، وليس لقضاء أدنى درجة مثل قضاء التحقيق، وقد قررها القانون لفائدة الأشخاص المدانين فقط الذين وقعوا ضحية خطأ قضائي. وبالتالي، فبالنسبة إلى حامي الدين، فهو الوحيد الذي يملك أن يطلب مراجعة حكمه لدى الغرفة الجنائية بمحكمة النقض من أجل تبرئته، بعد صدور المقرر التحكيمي عن هيئة الإنصاف والمصالحة، والذي قضى بتعرضه للاعتقال التعسفي، وأقر بأن محاكمته كانت غير عادلة. قد نتفق على أن قيادة العدالة والتنمية، وفي مقدمتها الوزير مصطفى الرميد، صمتت عن تجاوزات حقوقية كبيرة طالت ملفات علي أنوزلا وعلي المرابط والمعطي منجب وحميد المهدوي وتوفيق بوعشرين والعدل والإحسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وخرجت الآن تناصر حامي الدين… لكن، أن نقف في صف واحد مع من يريدون رأس حامي الدين، ليس لأنه قاتل، بل لأنه يفضح من يقتلون السياسة ويذبحون الديمقراطية في هذا البلد، فذلك يدل على أن بعض اليسار في بلادنا يسار «أخضر»، مشدود إلى تاريخ الصراعات الدموية للحركة الطلابية، والتي لم يستفد منها سوى خصوم الديمقراطية والعدالة. لقد كانت لليسار دائما مرجعياته وبوصلاته التي يهتدي بها، وأبرز هذه المرجعيات في المجال الحقوقي؛ الفقيه عبد الرحمان بنعمرو (حزب الطليعة)، والخبير القانوني عبد العزيز النويضي (الاشتراكي الموحد)، والحائزة الوحيدة جائزةَ الأممالمتحدة لحقوق الإنسان، عربيا، والثانية بعد نيلسون مانديلا، إفريقيا، خديجة رياضي (النهج الديمقراطي)، ولم يكن اليسار أبدا يهتدي بتدليسات صحافة السلطة وبعض المحامين المشبوهين.