قضت سنة الله وإرادته القدرية القهرية أن يبعث على رأس كل جيل عدولا مجددين ينفون عن هذا الدين تحريف أهل الغلو وتأويل أهل الجهل، ويتصدرون للعابثين بمقدرات الأمة ومقوماتها الحضارية والمتربصين بها طمسا وتشويها لذاكرتها وتدميرا لعقلها وفطرتها.وإن وظيفة هذه البعثة التجديدية هي تحرير الإنسان المسلم فردا وجماعة من أغلال الاستعباد العولمي عقيدة وثقافة وأخلاقا واجتماعا وتحصينه من الارتماء في منظومة الآخر الحضارية لأن أخوف ما يخشى عليه استلابه ثقافيا وطمس ذاكرته. وإنك لتجد في كل قطر إسلامي من هو خليق فطرة بهذه الوظيفة مجسد لبعثة تجديدية شمولية تقاطرت – على قدر – من تخصصات مختلفة ومشارب متعددة وبيئات مختلفة تحسبها شتى ولكن قلوبها تنبض بنبض واحد. ولقد اكشفت-ومن خلال مطالعاتي الخاصة-أحد عمالقة الفعل الحضاري المنتمين إلى المشروع التجديدي للأمة. شيدت كتبه صرح الفعل الحضاري الشامخ تأصيلا وبناء وتشييدا. وقد ألقى بعدة سهام في الموضوع وهو يطوف في عالم المفاهيم والتصورات وعالم الأفكار والممارسة. وهذه بعض إسهاماته في الموضوع. - صقل وتهذيب التاريخ الإسلامي، سيما عصر الخلافة الراشدة من كل ما نسب إليه من الأخطاء مع تحجيمها وتضخيمها وإجابته عن كل الشبهات التي عكرت صفو هذه المرحلة المتألقة من تاريخ الإسلام التي حاولت أن تسيئ إليه تشويها للذاكرة وضربا في جزء من الثقافة المرجعية للعقل المسلم. ثم تصديه لأفكار المغرضين الذين حاولوا منهم إساءة للإسلام وضع القذى طمسا للذاكرة، والتقاط الثغرات والعيوب التي لا تكاد تسلم منها تجربة بشرية غير معصومة، والتي لا تقاس ولا تقارن بما قدموه من إنجازات حضارية ضخمة شهد بها المخالف قبل الموالف والعدو قبل الصديق. يكفي من ذلك ما كتبه روجي غارودي عملاق الفلسفة الغربية عن الإسلام بشكل عام. وآحاد كتبه في ذلك "وعود الإسلام". وما كتبه بول كلون بون في كتابه "الحضارة الإسلامية هي حضارة الوحدة والتنوع". ومايكل هارتس في كتابه "الأوائل المائة". والمستشرق ليوبولدفايس "محمد أسد" في كتابه "الطريق إلى مكة". ومارسيل بوزار في كتابه "إنسانية الإسلام". وعلي عزت بغوفتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب". ومحمد عبد الله عنان في كتابه "مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام". وكلها كتابات كتبت عن هذه المرحلة "الخلافة الراشدة" وعن تاريخ الإسلام بموضوعية وحياد وتجرد، واندهشوا جميعا بعطاءات المسلمين وإنجازاتهم ذا البعد العمراني البشري. وقد كانت عدة وسلاح الدكتور عماد الدين خليل وهو يستميت دفاعا عن الخلافة الراشدة وتاريخ الإسلام بشكل عام حشد بضع وعشرين آية قرآنية ترد فيها تقييمات مشعة لهذا الجيل من تاريخ الإسلام أذكر منها أربعة نصوص فقط. قال تعالى: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهارخالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم"التوبة الآية 100. وقوله: "إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم"البقرة218 وقوله: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه ساعة العسرة من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم ُم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم"التوبة117. وقوله أخيرا: "لقد رضي الله عن المومنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم وأثابهم فتحا قريبا"الفتح18. ثم ساق عشرات النصوص الحديثية الموجودة في شرايين السنة النبوية تكشف منها لمسات مترعة بالبعد الإنساني الأخوي والبعد الحضاري لهذا الجيل الفريد كما سماه سيد قطب-رحمه الله- في كتابه "معالم في الطريق". ولم يقف الرجل عند هذا الحد بل نقب في التاريخ الإسلامي عموما ليقف عند تقييمات جد ايجابية ومتميزة يمكنها أن تعتبر اليوم نموذجا للتأسي والاقداء، لدى قادة الدول والمتهافتين على السلطة. سواء في علاقة قيادات جيل الخلافة الراشدة بالسلطة، أو على مستوى الموقف من العدل والحريات، أو على مستوى الإحساس بالمسؤولية، أو على مستوى الموقف من المال العام، أو على مستوى طبيعة اللحمة بينهم نسبا وصحبة... يكفي أن نذكر من كتابات هذا الرجل في هذا الجانب كتابه "ملامح الانقلاب في شخصية عمر بن عبد العزيز". - تقديم رؤية إسلامية متكاملة للفعل الحضاري: وقد استطاع أن يؤصل لهذا انطلاقا من القرآن الكريم الذي أرشد العقل في أكثر من ثلث آياته إلى أن المعرفة لها مصدران: الوحي والكون، كتاب الله المسطور والكتاب المنظور. ولذلك فالمعرفة المستنبطة من الأدلة الشرعية مصدرها الوحي، والمعرفة المستنبطة من مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية تتعلق بعالم الكتاب المنظور ربطا بين التقوى والتقنية. والقرآن الكريم أمرنا بالتدبر في هذين المصدرين في غير ما آية ونبهنا إلى أن تحقيق العبودية –لا بمعناها الطقوسي ولكن- بمعناها الحضاري الشامل لا يتحقق إلا بتكامل هذا المثلث الثلاثي الأضلاع: الاستخلاف "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"البقرة من الآية30(الإحساس بالمسؤولية). والتسخير "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا"البقرة29. والإعمار "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"هود61. وكيف نعمر الأرض إذا لم تكن لنا صلة بعلوم الكون والحياة. والحضارة ليست إلا ثمرة تفاعل الإنسان مع النص والكون. كما أن التنامي بالقوة العسكرية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"الأنفال60 لا يتحقق إلا بمقومات ثلاثة جاءت تسمياتها توقيفية في القرآن الكريم في ثلاث سور: "الحديد" إشارة إلى القوة والتنقيب في الطبيعة عن السنن والنواميس، وفي التربة لاستخراج خامات الأرض. "والشورى" أي الحرية لأنه لايمكن للشعوب أن تبدع وتنتج تحت القهر والاستبداد. "والقلم" إشارة إلى العلم الذي يفتح الأمة على اكتشاف كنوز وأسرار الكون والطبيعة. إن هذه المقومات جميعها هي التي تنقل الأمة من دائرة الوجود إلى دائرة الشهود، ومن دائرة الإمكان الحضاري إلى الفعل الحضاري. ولقد انطلق الدكتور عماد الدين خليل بعد هذا التأصيل إلي تشخيص وأجرأة الفعل الحضاري في محطات متعددة من تاريخ الإسلام بدءا بالعهد النبوي. مبينا مدى إحداث النبي صلى الله عليه وسلم ثورة في الحياة، وكانت سيرته ملمحا شاخصا لتشييد الفعل الحضاري وتجسيدا للعبودية بمفهومها الشامل. جمعا بين الإعداد الفكري والميداني، بين التخطيط والتدبير، بين التوكل وإتقان الأسباب، بين مقومات الإمكان وفعل التميز، بين القيادة والهدف المنشود، بين الانغلاق والانفتاح، بين الثقافي والحضاري، بين المرونة والصرامة بين سؤال التدبير وسؤال الهوية، بين الحوار التكتيكي والحوار الاستراتيجي، بين حسن استثمار المورد البشري والمورد الطبيعي، بين التقوى والتقنية، بين القيادة العامة والقيادة التخصصية بين الدين والدنيا... ثم إلى المحطة الثانية تاريخ الخلافة الراشدة التي كانت استمرارا في العطاء والإبداع والنجاحات الباهرة داخليا وخارجيا. يكفي أن أشير إلى عملاق الحضارة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وعن الصحابة جميعا الذين لا يقلون فاعلية منه- وإلى فاعليته المدهشة "فهو أول من جلب الدواوين ومصر الأمصار (تقسيم الدولة إلى ولايات)، وهو أول من فرض الأعطيات ووضع رواتب ...وعقد مؤتمرات سنوية للولاة ومحاسبتهم، وأول من أوقف الأوقاف، وكشف حسابات أهل المناصب (من أين لك هذا) واتخاذ دار للضيافة".أسرار القيادة النبوية د طارق السويدان. فإلى محطات أخرى من تاريخ الإسلام نموذج الدولة الأموية والعباسية والعثمانية...والإنسان المسلم اليوم بقدر ما يجد من اعتزاز وانتشاء وتطاوس...في هذه الذاكرة من تاريخ الأجداد وما يتولد عنها من اعتزاز بالذات الإسلامية، مدعو اليوم إلى عدم الاستسلام ارتماء في أحضان الآخر. وكذا حشد هذه الإرادة على الفعل الحضاري. يكفي الرجوع إلى كتابه "مدخل إلى الحضارة الإسلامية" الذي يؤصل فيه لاهتمام القرآن بالنظرة الشمولية للفعل الحضاري. ومنه نأخذ هذا النص "ومن ثم فلا يتصورن أحد أن الإسلام ما جاء إلا لكي يؤكد في موقفه من العمل الحضاري على الجوانب الأخلاقية والروحية فحسب..إننا بإزاء آيات عديدة تضع الجماعة البشرية المؤمنة في قلب العالم والطبيعة، وتدفعها إلى أن تبذل جهدها من أجل التنقيب عن السنن والنواميس في أعماق التربة، وفي صميم العلاقات المادية بين الجزئيات والذرات..إننا بإزاء حركة حضارية شاملة تربط بين مسألة الإيمان ومسألة الإبداع والكشف، بين التلقي عن الله والتوغل قدما في مسالك الطبيعة ومنحنياتها وغوامضها...بين تحقيق مستوى روحي عال للإنسان على الأرض، وبين تسخير طاقات العالم لتحقيق الدرجة نفسها من التقدم على المستوى المادي..ولم يفصل الإسلام –يوما- بين هذا وذاك.."ص35. -اهتمامه بالتاريخ الحضاري والفكري والعقدي: من أهم إنجازات وعطاءات الرجل –مما يعد قيمة إضافية لفلسفة التاريخ- اهتمامه بالتاريخ الحضاري والفكري والعقدي الذي يجب –في حقيقة الأمر-أن يعطى له تسعة أعشار من حجم الاهتمام كما وكيفا، عوض الاشتغال بالتاريخ السياسي والعسكري من تاريخ الإسلام وهو ما جعل الأجيال تفقد ثقتها في قدرة هذه الأمة على الانبعاث من جديد حتى إنك لا تكاد تجد في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي من تحدث عن السيرة الحضارية للنبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين إلا السيرة العسكرية. وكأن القرآن نزل فقط ليحث على الملاحم العسكرية آمرا النبي عليه السلام بالدخول في غزوة لتعقبها أخرى، معلنا النفير في الصحابة إلى حد عشق الدماء وإزهاق الأرواح في ما يسميه البعض الغزو الإسلامي. مما شوه التاريخ الإسلامي عموما. مع أن هذا الأمر كانت له أسباب وهو لا يمثل عشرا واحدا من تاريخ الإسلام-وأصبح التاريخ الحضاري حلقة مفقودة إلا كتابات قليلة جدا كان من بينها ما كتبه ابن القيم الجوزية في كتابه "زاد المعاد" وهو يكتب "هدي النبي في كذا.." وأعقبتها كتابات أخرى لكنها لم توف الأمر حقه. ومع كفاح الرجل المتواصل بقلم سيال وفكر متسلح بعمق المعنى وجودة الفكرة ولطف الأدب وجميل العبارة، في اتجاه تعزيز المرجعية وتقوية الثقافة وترسيخ الهوية، يعضد مرجعية الثقافة بشهادات الآخر-سواء من أسلم منهم ومن لم يسلم-عن عبقرية الإسلام وعظمة أتباعه وفي ذلك تحقيق لعدة أهداف: الأول: تعزيز ثقة المسلمين وغير المسلين في هذا الدين سيما ما يصرح به عمالقة الفكر الغربي من شهادات تعبر عن إعجاب ودهشة منقطعة النظير بجماليته وانسجامه وتكامله. وبذلك يقصد عماد الدين خليل رفع ثقة المسلمين المهزوزة بدينهم. والثاني: إثبات قوة هذا الدين على صنع المعجزات واعتباره البديل الوحيد الذي يخلص البشرية من مشكلاتها الكونية. والثالث: التأثير الكبير على عمالقة الفكر الغربي وقدرته على تحويلهم من أشد الخصوم إلى أشد المدافعين عنه. يذكر مايكل هارتس في كتابه "الأوائل المائة" على أنه رجل لايعرف شيئا عن الإسلام ولكنه حاول أن يبحث عن أعظم مائة شخصية في التاريخ، ثم أراد أن يبحث عن أعظمهم على الإطلاق فما كان منه إلا أن يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم.(أنظر مقدمة كتابه الأوائل المائة). ويسوق أيضا كلام روجي غارودي في كتابه "وعود الإسلام": "إن العالم الغربي يعاني من مشكلة ذات بعد كوني، ولا يمكن للجواب إلا أن يكون كونيا والإسلام هو الجواب". ثم يبسط الكثير من كلام الفلاسفة الغربيين التي فحواها أن الحقائق الدينية ليست أقل علمية من الحقائق التي يكشفها العلم اليوم. يقول سوليفان: "إن دوافعنا الدينية لا يمكن أن يقنعها أي شيء أقل من الاعتقاد بأن للحياة مغزى خارقا. وهذا الاعتقاد هو بالضبط ما جعلته الفلسفة القديمة أمرا مستحيلا وهكذا يمكننا أن نستنتج أن الأهمية الحقيقية للتغيرات التي حصلت في العلوم الحديثة ليست في قدرتها المتزايدة على دفع عجلة تقدم الإنسان، بل في تغير الأسس الميتافيزيقية التي تقوم عليها"حدود العلم ص52-54 . هذا غيض من فيض فكر هذا الرجل العملاق ومدى إسهاماته في بناء الفعل الحضاري. يتبع عبد العالي عباسي