من الأسلحة الفتاكة غير المرئية التي جُربت ضد أمة الإسلام الكذب والافتراء وتشويه الحقائق بُغية تشكيك المسلمين في مصادر قوتهم الإيمانية، كتشكيكهم في قرآنهم ورسولهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه الكرام، ومن ذلك قولهم إن القرآن لا يتضمن التشريع دائما، وأنه مجرد تلفيق وتجميع من الكتب السابقة، وأن القرآن تضمن أحكاما غير منصفة وخصوصا الأحكام المتعلقة بالمرأة كمسألة الميراث، كما ادعوا أن رسول هذه الأمة قد أكثر من الزواج شهوة، ولم يصدقوا أنه بعث أميا في قوم هم أهل بلاغة وفصاحة، إلى غير ذلك من الترهات والتشكيكات، فما هي يا ترى دوافع هؤلاء وأهدافهم؟ وهل لآرائهم تأثير على أبناء هذه الأمة؟ التجديد حاورت الدكتور الحسن العلمي أستاذ الحديث والفكر الإسلامي بجامعة ابن طفيل القنيطرة الذي قدم لنا إجابات علمية دقيقة جمعت بين تحقيق المحدثين وفهم المفكرين. وهذا نص الحوار: منذ أن ظهرت الدعوة الإسلامية والشبهات تثار ضدها ولازالت إلى اليوم تحبك ادعاءات أخرى دون ملل من تكرارها وتردادها، فما هي إذن أهداف هؤلاء ودوافعهم التي تجعلهم يشككون المسلمين في معتقداتهم ومقدسا تهم؟ التدافع بين الحق والباطل سنة من سنن الله منذ بدء الخلق، وتاريخ دعوات الأنبياء والمصلحين حافل بذلك، فما من نبي من أنبياء الله عليهم السلام أو مصلح اجتماعي صاحب دعوة إلا ابتلي بأهل الباطل المكذبين، والمنافقين المرجفين، والكائدين المغرضين و ما تزال الدعوة الإسلامية إلى اليوم تتعرض لحبك المؤامرات ضد مكوناتها ورموزها، والتشكيك في أهدافها وغاياتها، من لدن مؤسسات المكر العالمي التي تخصصت في ذلك، فمن خطة تجفيف المنابع واستئصال التيار الإسلامي التي ظهرت في مصر، إلى خطة التضليل الإعلامي التي تبنتها كثير من وسائل الإعلام لصرف الناس عن صوت الحق، إلى مسالك التمييع الأخلاقي للمجتمع ونشر الفساد في أوساط الشرائح القابلة للتدين والصلاح، حتى ينصرف الناس عن الحق إلى الهزل، ويشتغلوا بالاستغراق في الملذات والشهوات عن إصلاح الأنفس والمجتمعات، وهكذا كما قال سبحانه (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذاريات 52) فقد كتب كثير من المستشرقين والمغرضين عن هذه الدعوة ومدارسها، وحللوا تاريخها ومواقفها، برصيد من عبارات الفكر التآمري الذي يضخم الأورام، ويشيد بمذاهب الغلو ويلمِّعُها، ويقدمها نماذج أصولية لتمثل الإسلام في دوائر الإعلام، ويُخفي مظاهر الرشد والاعتدال ويحجِّمها، ويهمش صوتها لئلا يشيع بين الناس، طمعا في طمس معالم العمل الإسلامي الراشد. لكن مع كل ذلك فإن تباشير وعد الله للأمة بظهور الإسلام وعلوه في الأرض ماضية وسارية إلى تحقيق ذلك الأمل المنشود كما في حديث تميم الداري عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: + ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر؛ . كثيرة هي الادعاءات التي وجهت ضد نبي هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم منذ القدم إلا أن القضية الأساس التي زلت فيها أقدام كثير من الناس هي مسألة إكثار الرسول صلى الله عليه وسلم من الزواج شهوة، فكيف تردون على هذه المسألة؟ إن زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع مراحل سيرته إنما كان لحكم بالغة، ومقاصد سامية شريفة تنأى عما ادعاه هؤلاء المغرضون، ودليل بطلان دعواهم أن أول امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ريعان شبابه كانت هي السيدة خديجة وكانت امرأة مسنة تكبره بخمس وعشرين سنة، وسائر من تزوج من النساء كن نساء نساء أرامل أو سبايا ثيبات، ولم يتزوج بكرا غير عائشة رضي الله عنها. أما مقاصد زواجه صلى الله عليه وسلم من غيرها من النساء، فمنها تقوية صلات المودة مع خاصة الصحابة الذين كانوا أعمدة الإسلام، كما هو الشأن في زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب التي كانت زوجة للصحابي خنيس بن حذافة السهمي من أصحاب الهجرتين، شهد بدرا وأحدا، فأصابته جراحة توفي على أثرها، وترك من ورائه حفصة في ريعان العمر، ترملت ولها عشرون سنة، فتزوجها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إكراما لها ولأبيها. كما كان كذلك لتوطيد العلاقات مع بعض القبائل المناوئة، وتأليف قلوب بعض ساداتها ومن ذلك زواجه من جويرية، وهي برة بنت الحارث سيد بني المصطلق، وكان أبوها وقومها قد ساعدوا المشركين على المؤمنين في غزوة أحد سنة أربع، ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يجمعون الجموع لقتاله فخرج إليهم، فالتقى الجمعان في المريسيع فأحاط بهم المسلمون، وأخذوهم أسرى بعد قتل عشرة منهم، وكانت برة بنت سيدهم في الأسرى، فكاتب عليها من وقعت في سهمه، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فتعرفت إليه بأنها بنت سيد قومها، وذكرت بلاياها، واستعانته على تحرير نفسها فقال: ( أو خير من ذلك ؟ أؤدي عنك كتابتك، وأتزوجك )، قالت: نعم . ففعل، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأعتقوا جميع الأسرى والسبايا فأسلموا كلهم، فكانت أعظم امرأة بركة على قومها. كما تزوج بعض النساء إكراما لهن وإنقاذا لهن من الفتنة، كسودة بنت زمعة القرشية العامرية، وهي من المؤمنات السابقات المهاجرات، هجرت أهلها خوف الفتنة في دينها، وتوفي زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، ولو رجعت إلى أهلها لعذبوها ليفتنوها عن الإسلام، فاختار صلى الله عليه وسلم كفالتها، وتزوج بها في مكة عام الهجرة. القرآن الكريم يعد المصدر الأساسي للتشريع عند المسلمين، لكن البعض يشكك في هذه المسلمة لذلك ادعوا أن القرآن لا يكون متضمنا لنصوص تشريعية دائما؟ هذه دعوى عريضة دندن حولها كثير من العلمانيين من دعاة فصل الدين عن الدولة، وممن ادعى ذلك ودافع عليه بحرارة علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، حيث ادعى أن الإسلام مجرد طقوس تعبدية محضة، وأن النظام السياسي دخيل على الدين، ولا شأن له به، فعلى الفقهاء أن يسلموا القوس لباريها، ويستجدوا نظم السياسة من أربابها. يقول علي عبد الرزاق: الخلافة خطط دينية صرفة لا شأن للدين بها..وليس لنا حاجة إليها في أمور ديننا ولا دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكبر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد . ثم محمد أحمد خلف الله، في كتابه العدل الإسلامي حيث دعا إلى التحرر من الدين وأحكام النبوة لأن البشرية كما يزعم: >لم تعد في حاجة إلى من يتولى قيادتها في الأرض باسم السماء، فلقد بلغت سن الرشد، وآن لها أن تباشر شؤونها بنفسها<. ويرى أن النبوة من قيود السماء التي كبلت العقول وحجرت على الأفكار، فلم تتحرر البشرية إلا حين انتهى عهد النبوات، حيث قال :>فلقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان النبوة، من حيث إعلانه إنهاءها كلية، وتخليص البشرية منها<. وكذلك جمال البنا من المعاصرين. ومن عجيب ما نشره مقال في صحيفة القاهرة تحت عنوان >الإسلام دين وأمة وليس دينا ودولة<، زعم فيه أن >شعار الحاكمية ليس شعارا جديدا على الفكر الإسلامي، وهو شعار مشؤوم أدى إلى اغتيال علي بن أبي طالب، وأن دعوة الحركات الإسلامية اليوم إلى إحياء الخلافة إنما هو خيال ووهْم، فالخلافة الحقيقية لم تدم سوى ثلاثين عاما، وهي اليوم قد ماتت والله وحده هو الذي يحيي الرميم<. فالإسلام في نظر هؤلاء إنما هو شعائر تعبدية ينبغي أن تنحصر بين جدران المساجد ولا شأن للدين بالشأن العام، وقضايا الحكم والتشريع، وهي نقطة التقاء بين دعاة العلمانية ورهبان الكنيسة القائلين >دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر<. ومعلوم أن دينا حكم به المسلمون قرونا من الزمان من بلاد ما وراء النهر إلى المحيط الأطلسي وبلغ سلطانهم إلى حدود جبال البرانس، وأقاموا به للأمة مجدا وحضارة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مجرد طقوس منحسرة بين جدران المساجد، بل قد تضمن من التشريعات والقوانين ما كفل حفظ النظام السياسي والاجتماعي لهذه الأمة عبر التاريخ. ما هو الدور الذي ينبغي أن يقوم به العلماء للتصدي لهذه الافتراءات وتصحيح المفاهيم؟ وما مدى مساهمتهم في الدفاع عن معتقدات المسلمين؟ دور علماء المسلمين في هذا الصدد دور محوري، لأنهم ملح البلد، والصفوة المقتدى بها في الأمة، وهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه >إنما مثل العلماء كمثل النجوم يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطفأت النجوم أوشك أن يضل الهداة<. وهناك علماء والحمد لله واقفون على ثغور الإسلام ينفون عن هذه الملة تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهيلن، ولم يخل عصر من العصور من وجود هذه الفئة التي تمثل جهاز المناعة في الأمة. لكن ما تزال الأمة بحاجة إلى مزيد من الجهد والعمل من لدن العلماء الذين يجب أن ينهضوا لصد مثل هذه الشبهات التي تشكك المسلمين في دينهم، وهذا قد وجد في كل عصر وفق سنة تدافع الحق والباطل، كما قال تعالى (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين).