عن سن يناهز 99 عاما، توفي الأربعاء الماضي في العاصمة الفرنسية باريس، الفيلسوف العالمي المسلم روجي غارودي، بعد حياة فكرية ونضالية حافلة، وبذلك يكون رحل أحد أكثر المفكرين المعاصرين إثارة للجدل، والذي اشتهر بمواقفه التي رفضها الغرب ونصرت قضايا المسلمين، فقد كرس المفكر الراحل ثلاثين سنة من عمره في الدفاع عن الإسلام في زمن تعيش فيه الأمة الضعف والوهن.. وعانى بمواقفه من مضايقات في فرنسا وأوروبا. وخلال حياته المديدة، استلهم عدو «إسرائيل» مبادئه من مدارس فكرية مختلفة، وجرب أديانا متباينة قبل أن يلقى ربه مسلما، إذ تنقل غارودي من مدرسة الإلحاد إثر تشبعه بالقيم الماركسية، إلى اعتناق الإسلام، مرورا بالبروتستانتية.. رحلة بحث عن دين.. في مدينة مرسيليا الفرنسية وخلال شهر يوليوز من سنة 1913، ولد غارودي من أب ملحد وأم كاثوليكية، ولعل ذلك له الأثر البارز في صياغة شخصيته، إذ بحث منذ بداية شبابه عن دين أو فكرة تؤطر حياته، إلى أن اعتنق البروتستانتية عن عمر لم يتجاوز أربعة عشر عاما، وانضم إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي في عمر مبكر أيضا، قبل أن يطرد سنة 1970 لانتقاداته الدائمة للاتحاد السوفياتي، ليؤسس بعدها مركز الدراسات والبحوث الماركسية الذي عمل مديرا له لمدة عشر سنوات. كان غارودي عضوا في الحوار المسيحي- الشيوعي في ستينات القرن الماضي، وسعى إلى جمع الكاثوليكية مع الشيوعية في حقبة السبعينات، وبدأ يستطلع الإسلام الذي خبر وسمع عنه، إلى أن فاجئ العالم الغربي في الثاني من يوليوز من سنة 1982، حينما أشهر إسلامه في المركز الإسلامي في جنيف، متخذا اسم «رجاء»، ليضع حدا لمشواره الطويل بحثا عن الراحة الروحية التي لم يجدها سواء في الإلحاد أو المسيحية، وكما صرح في عدد من كتبه «وجدت أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ينسجم مع قيم العدالة الاجتماعية التي أومن بها»، مضيفا أن «دينه وجد الحضارة الغربية بنيت على فهم خاطئ للإنسان، وهو الذي قضى حياته بحثا عن معنى لم يجده إلا في دين محمد صلى الله عليه وسلم». ويؤكد الراحل في كتابه «الإسلام دين المستقبل» أن اختياره الإسلام يأتي لما أظهره من «شمولية كبرى، من خلال استيعابه لكافة الشعوب ذات الديانات المختلفة، وقبوله لأتباع هذه الديانات في داره منفتحا على ثقافاتهم وحضارتهم، وأعتقد أن هذا الانفتاح هو الذي جعل الإسلام قويا ومنيعا». قصة إسلامه أحدث إسلام غارودي ضجة كبيرة في صفوف المفكرين وأطياف المجتمع الغربي، خاصة أن الرجل كان بارزا في دفاعه عن الماركسية والشيوعية. وكان لإسلامه قصة سردها بنفسه لإحدى الصحف الجزائرية. يقول الراحل «إن الرصيد الأبرز في حياتي والذي صاغ وجداني وهيأني لاعتناق الإسلام بدأ يتشكل في الجزائر، وبالضبط في معسكر عين أسرار بالجلفة، ويضيف «عشت في بداية الحرب العالمية الثانية تجربة فريدة من نوعها، لأن القوات الألمانية قبضت على المجموعة الأولى للمقاومة الفرنسية حين سقطت في باريس، وصدر الأمر بنقلها إلى معسكر الجلفة. كان غارودي أحد أفراد تلك المجموعة، وحث رفاقه على القيام بتمرد في السجن، إلى أن تم ذلك في مارس من سنة 1941، حيث قاد رفقه 500 من زملائه تظاهرات تندد بالسياسة النازية.. وبعد ثلاث إنذارات من قائد المعسكر، أصدر أوامره إلى الجنود بإطلاق النار عليهم، فرفض الجنود تنفيذ الأوامر. «فوجئت برفض الجنود رغم تهديدهم بالسياط، ولم أفهم للوهلة الأولى سبب رفضهم.. ثم عرفت أن هؤلاء الجنود كانوا من الجزائريين المسلمين، الذي يرون أن شرف المحارب المسلم وأخلاقه تقتضي ألا يطلق النار على إنسان أعزل»، ويتابع «كانت الصدمة الأولى التي زلزلت حياتي، يومها عرفت أن الإسلام هو الذي أنقذ حياتي، ومنذ ذلك الوقت عندما كان عمري لا يتعدى 28 عاما ظل بداخلي حتى اعتنقت الإسلام في 1982». مواقف «زلزال» للغرب بفعل خلفيته الشيوعية واعتناقه الدين الإسلامي، ظل غارودي على عدائية تامة للإمبريالية والرأسمالية وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقضى عمره -خاصة بعد إسلامه- في مناهضة الصهيونية.. أصدر الراحل بعد مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان سنة 1982، بيانا مطولا في صحيفة «لوموند» الفرنسية مع عدد من المفكرين الفرنسيين بعنوان «عن العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان»، وعد هذا البيان بداية الصدام بين غارودي والحركة الصهيونية. كما نشر «رجاء» سنة 1996 كتابا بعنوان «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» شكك من خلاله في «الهولوكوست» المزعوم ومكذبا بالحجة والدليل المغالطات اليهودية، ليلاحقه الجانب الإسرائيلي قضائيا ويصدر ضده سنة 1998 حكم بالسجن سنة مع إيقاف التنفيذ من إحدى المحاكم الفرنسية، ورغم ذلك، لم ترهبه هجمات الإعلام الغربي وانتقاداته، ولم تثنه الإجراءات المتخذة في حقه عن إصراره في تحطيم الأساطير التي يحتمي بها الصهاينة. وأصدر الراحل عددا كبيرا من المؤلفات، من أبرزها «لماذا أسلمت.. نصف قرن من البحث عن الحقيقة» و»الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها» و»محاكمة الصهيونية الإسرائيلية» و»حفار القبور.. الحضارة التي تحفر الإنسانية قبرها» و»الولاياتالمتحدة طليعة الانحطاط».. ونال جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1985 عن خدمة الإسلام وذلك عن كتابيه «ما يعد به الإسلام»و»الإسلام يسكن مستقبلنا»، وكذلك لدفاعه عن القضية الفلسطينية. انبهاره بالإسلام شكل اعتناق غارودي للإسلام انتصارا للدين الحق، فالرجل كان من بين عمالقة الفكر العالمي، ومن ملهمي الفكر الإلحادي الذي بدأ يتغلغل في المجتمعات الإسلامية في الستينات والسبعينات، لذلك حظيت أفكاره وكتابته بعد الإسلام متابعة كبيرة لمعرفة سبب تخليه عن مبادئه التي دافع عنها. وفي هذا الصدد يقول في إحدى كتبه «صوروا لنا المسلم على أنه متوحش همجي، فإذا بي أمام منظومة قيم متكاملة لها اعتبارها»، وفي إحدى مؤلفاته يقول أيضا «إن اعتناقي الإسلام لم يكن شيئاً من قبيل التجربة، ولكنه كان شيئاً كالإنجازات الكبرى في حياة الإنسان».وفي حديث آخر يقول « نعم لقد وجدت في الإسلام مبتغاي ومقصدي، ففي الإسلام تجد العلاقة بين الله الخالق وبين المخلوق الإنسان علاقة مباشرة بلا وسيط بينهما». وفي كتابه «الإسلام دين المستقبل»، يقول غارودي عن شمولية الإسلام: «أظهر الإسلام شمولية كبرى عن استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، فقد كان أكثر الأديان شمولية في استقباله للناس الذين يؤمنون بالتوحيد وكان في قبوله لاتباع هذه الديانات في داره منفتحا على ثقافاتهم وحضاراتهم والمثير للدهشة انه في اطار توجهات الإسلام استطاع العرب آنذاك ليس فقط إعطاء إمكانية تعايش نماذج لهذه الحضارات. بل أيضا إعطاء زخم قوي للايمان الجديد: الإسلام. فقد تمكن المسلمون في ذلك الوقت من تقبل معظم الحضارات والثقافات الكبرى في الشرق وأفريقيا والغرب وكانت هذه قوة كبيرة وعظيمة له، وأعتقد أن هذا الانفتاح هو الذي جعل الإسلام قويا ومنيعاً». ملهم الشيوعية.. شكل انضمام محمد رجا غارودي إلى الحزب الشيوعي البداية السياسية الأولى للرجل، لكنه جمع بين التناقض إذ في العام نفسه كان انتخب رئيسا لمنظمة الشبيبة البروتستانتية، مما يطرح الاستفسار حول علاقة الشيوعية بالبروتستانتية، غير أنه كثيرين مما عاصروه يؤكدون أن لم يكن يوما ملحدا وأنه انضم إلى الشيوعية محافظا على إيمانه. وسرعان ما لبث أن غدا الفيلسوف الرسمي للحزب الشيوعي وأحد قادته، وأطروحته «النظرية المادية في المعرفة» التي ترجمت إلى اللغة العربية غدت واحدا من أناجيل الشيوعية الرسمية.. ولم يعلم أحد أنه سيتنكر لما كتبه فيما بعد. صمت روجيه غارودي على غزو الاتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا وعلى تدخله في هنغاريا، إلا أنه بدأ منذ سنة 1968 خلافاته مع الحزب الشيوعي وإدانته لدغمائية الماركسية السوفياتية، وانتهت خلافاته بطرده سنة 1970 من الحزب. وقبل ذلك كان أصدر «واقعية بلا ضفاف» الذي تمرد فيه على الواقعية الاشتراكية. تمرد الراحل على الشيوعية كان مفاجئا، خاصة أنه لم يصل إلى القيادة إلا بنضاليته الكبيرة، فقد تعرض للاعتقال من حكومة فيشي في الجزائر وأمضى في سجنه أكثر من عامين. هكذا يرحل محمد رجا جارودي، وهذا هو الاسم الذي اتخذه بعد إسلامه بعد أن عارك تقريباً على كل جبهات قرن كامل. فالرجل الذي ظل ماركسيا دغمائيا حتى المؤتمر العشرين الذي تمرد على الستالينية، لم يجدد في الماركسية ولم يضف إليها سوى أنه امتنع عن إعادة طبع أطروحته فيها. وعن تلك الحقبة يقول في سيرته الذاتية «لا أنكر أن الماركسية شكلت فكري وصاغت وجداني في المرحلة الأولى من حياتي، في وقت كنت أؤمن بالمسيح الذي يمثل عندي قمة الطهر، وإيماني بالمسيح كان دافعاً قوياً لإقبالي على الإسلام بعد 40 عاماً من تديني المسيحي وفكري الماركسي. وذلك، لأن الإسلام احترم المسيح، وهو الدين الأكثر تفتحاً، بينما رفضته الديانة اليهودية، كما رفض المسيحيون الاعتراف بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم». مؤلفات المفكر الراحل بعد إسلامه رغم حداثة إسلام جارودي وكثرة المصاعب التي واجهته سواء من حيث اللغة أوالثقافة استطاع أن يؤلف العديد من الكتب أهمها: وعود الإسلام الإسلام دين المستقبل المسجد مرآة الإسلام الإسلام وأزمة الغرب حوار الحضارات كيف أصبح الإنسان إنسانيا فلسطين مهد الرسالات السماوية مستقبل المرأة وغيرها المسجد مرآة الإسلام جولتي وحيدا حول هذا القرن فلسطين مهد الرسالات السماوية «الولاياتالمتحدة طليعة التدهور» الإرهاب الغربي السيرة الذاتية في سنوات ❍ سنة 1913: ولد الفيلسوف الفرنسي في مرسيليا لأب يعمل في مجال المحاسبة. ❍ سنة 1933: انضم إلى الحزب الشيوعي ❍ سنة 1940: سجن ثلاثين شهراً، بعدما أخذ كأسير حرب لفرنسا الفيشية في معسكر بالجزائر ❍ سنة 1946: صدرت أولى مؤلفاته ❍ سنة 1953: حصل على الدكتوراه الأولى من جامعة السوربون عن النظرية المادية في المعرفة ❍ سنة 1954: حصل على الدكتوراة الثانية عن الحرية من موسكو ❍ سنة 1954: انتخب نائبا في الجمعية الوطنية الفرنسية بعدما خسر سنة 1951، وأعيد انتخابه في الولاية بين (1956 1958) ثم في مجلس الشيوخ (1959 1962) ❍ سنة 1958: تولى تدريس الفلسفة في مدرسة الليسيه، في ألبي والجزائر العاصمة وباريس، ثم أصبح محاضراً فأستاذاً اصيلاً في الجامعة. ❍ سنة 1985: نال جائزة الملك فيصل العالمية عن خدمة الإسلام وذلك عن كتابيه «وعود الإسلام»، و«الإسلام يسكن مستقبلنا»، ولدفاعه عن القضية الفلسطينية. ❍ سنة 1995: حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة قونيا في تركيا