لا شك أن اغتنام أحداث السيرة النبوية والتذكير بها في وقتها من أعظم ما يستعين به المرء في الصلاح والإصلاح؛ لما تحدثه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من تزكية للنفوس ورِقة في القلوب، فبها نربط الحاضر بالماضي، ونصل الخلف بالسلف. وبها نزن حالنا ونبصر مآلنا؛ إذ هي التطبيق العملي للإسلام والمِبْصَار الشفاف لتدبر آي القرآن.. ولقد دأب الدعاة والوعاظ أن يغتنموا كل حادثة من أحداث السيرة في الشهر الذي وقعت فيه؛ فيذكرون الإسراء والمعراج في شهر رجب، وغزوة بدر في رمضان، وغزوة الأحزاب في شوال.. وهكذا. وهذا كله بطبيعة الحال حسب الراجح من الأخبار؛ إذ غالب أحداث السيرة النبوية من حيث الوقت والتاريخ ليس أمرا مقطوعا به. إلا أن الشهر الأكثر دلالة تاريخية على السيرة النبوية هو هذا الشهر؛ شهر ربيع الأول، وخاصة اليوم الثاني عشر منه، ولقد ارتبط هذا اليوم عند عامة المسلمين بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكادون يعرفون لهذا اليوم حدثا من السيرة النبوية غيره، والأمر ليس كذلك، بل وقعت فيه أحداث عظام من سيرة المصطفى لا تقل أهمية عن ميلاده صلى الله عليه وسلم. غير أن ما يقع في هذا اليوم من محدثات، وما يرتكب فيه من منكرات، التي قد تصل في بعض الأماكن إلى الشرك الصُّراح جعل أهل العلم ينشغلون ببيان هذه البدع المضلات، وما يجوز وما لا يجوز.. وبين هذا وذاك تمضي هذه الأيام دون الاستفادة مما تذكرنا به من وقائع وأحداث، وما تحمل معها من عبر وعظات..! ففي مثل هذا اليوم وصل النبي صلى الله عليه وسلم من هجرته إلى المدينةالمنورة. أرَّخَ لذلك ابن عبد البر الأندلسي بقوله: "وذلك يوم الإثنين (..) لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول" [الدرر في اختصار المغازي والسير ص91] ونفس التاريخ ذكره ابن سيد الناس بقوله: "وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَوَكَّفُونَ قُدُومَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُمْ تَوَجُّهَهُ إِلَيْهِمْ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ لِذَلِكَ أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رَبِيعٍ الأَوَّلِ خَرَجُوا لِذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَرَجَعُوا وَلَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءِ ، فَنَزَلَ بِقُبَاءٍ" [عيون الأثر ج1ص221] فهذا اليوم يذكرنا بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها؛ يذكرنا بذات النطاقين، وبغار ثور، وبقوله تعالى: { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[ التوبة:40] يذكرنا بفرح أهل المدينة وغناء الجواري فرحا على مسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقلن: نحن جَوَارٍ مِن بني النجار.. يا حَبَّذَا محمد من جار فَيُجِيبُهُن الحبيب بقوله: "الله يعلم إني لأحبكن" [ سنن ابن ماجه 1895] يُذَكرنا بقول عبد الله بن سلام رضي الله عنه وقد كان حينئذ حبرا وسيدا من سادات اليهود قال: " لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ"[ سنن ابن ماجه 1334] ورضي الله عن أنس بن مالك الصحابي الجليل يخبر في كلمات عن حال المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء.." [ سنن الترمذي 3636] ومن أجواء الفرح والسرور، والانشراح والحبور، ننتقل إلى حدث آخر من أحداث السيرة النبوية حدث في مثل هذا اليوم؛ أظلم من المدينة كل شيء، إنه اليوم الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم يُدخل يديْه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: " لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات" [ صحيح البخاري 4193] إنه اليوم الذي اختار فيه النبي صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى. أرَّخ لهذا اليوم ابن حزم الأندلسي فقال :" ثم إن الله تعالى توفى نبيه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، حين اشتد الضحى، في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، عند تمام عشر سنين من الهجرة." [جوامع السيرة ص211] فيا لله..! ما أشده يوم مر على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أن أظلم من المدينة كل شيء.! ونحن نرى من أنفسنا كيف يكون حالنا عندما يُنْعى إلينا عالم جلسنا إليه وأحببناه، فكيف بحالهم وهم يُنعى إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلذلك نجد عمر رضي الله عنه لم تحمله رجلاه فجثا على ركبتيه من هول الصدمة وشدة الموقف، لَمَّا سمع أبا بكر الصديق يُثَبِّت الناس ويتلو هذه الآية: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران:144] وفي ذلك يقول أنس بن مالك : " لما كان اليوم الذي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه المدينة أضاء منها كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء" [ صحيح ابن حبان6744] إي والله، إن وفاته صلى الله عليه وسلم مصيبة على المسلمين وأي مصيبة.! فما أتى بعدها من المصائب فهو هين.. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ فليذكر مصيبتَه بي فإنها من أعظم المصائب "[ صحيح الجامع347] فهذا اليوم إذن؛ جمع المحطات الكبرى من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ميلاداً، وهجرةً، ووفاةً، بل هناك رواية عن ابن عباس أنه بعث في مثل هذا اليوم ولكنها لا تصح، والصحيح أن ذلك كله كان يوم الإثنين. ويحق لنا هنا أن نتساءل: أسئلة مشروعة: ما الذي جعل عامة المسلمين يذكرون في هذا اليوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون وفاته؟ فهل هناك دافع وراء تغييب حادث الهجرة وحادث الوفاة في هذا اليوم؟ وكيف استجاز لنفسه أول من احتفل بالميلاد أن يحتفل في يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون وتابعو التابعين لم يخصصوا هذا اليوم بذكرى ميلاد ولا وفاة؟ ولماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصه بصيام في كل أسبوع ولم يخصه بشيء على رأس السنة؟ ولماذا لم يوجد في القرآن ذكر لميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لا بصريح العبارة ولا بالإشارة بينما ذكر فيه ميلاد عيسى ويحيى عليهما السلام؟ وأخيراً لماذا الصحابة رضوان الله عليهم لما أرادوا أن يضعوا تاريخا للمسلمين اختاروا الهجرة ولم يختاروا الميلاد ولا الوفاة؟ ألأنهم فقهوا عن القرآن فقدموا ما قدم وأخروا ما أخر، أم أن هناك عوامل أخرى؟ مولود الخطاط. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.