جاءت الشريعة الإسلامية السمحة لتقيم مجموعة من الحقوق على أساس متين وهو الإيمان بالله تعالى، وقد جعل الإيمان بالله ضمانة لكل التزام بالحق، سواء كان التزاماً فردياً، أو التزاماً اجتماعياً، أو التزاماً جماعياً، أما الالتزام الفردي فيقوم على العلاقة الصادقة والمخلصة بين الإنسان المسلم المؤمن بالله تعالى، في الجانب العلمي العقدي أولاً، وفي الجانب الشعائري التعبدي ثانياً، وفي تقوى الله بأداء الواجبات الشرعية الفردية ثالثاً، والانتهاء عن المحرمات التي يرتكبها الإنسان بمفرده رابعاً. وأما الالتزام الاجتماعي فهو التزام الإنسان المسلم بكل الواجبات والحقوق التي طلب الشرع أدائها بالصفة المجتمعية[1]، سواء كانت أفعالاً تعبدية جماعية، مثل الصلاة الجماعية في المساجد، أو تعاون اجتماعي بأداء الحقوق إلى أهلها من السائلين عنها أو المحرومين منها، مصداقا لقوله تعالى: "وَالَذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" [المعارج، 25]. وقوله: "وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ" [الاَنعام، 142]. والالتزام الجماعي هو الالتزام الذي تقوم به الدولة مباشرة، ومن خلال أجهزتها الرسمية، والفرق بين الالتزام الاجتماعي والالتزام الجماعي، أن الأول هو التزام تضمنه القوى الاجتماعية في المجتمع المسلم، مثل دور الوالدين وأولياء الأمور في المدارس والأسواق، وشيخ الكبار في بعض البلدان الإسلامية، وهذه تمثل مرحلة اجتماعية للحسبة غير المرحلة الجماعية، فالالتزام الجماعي هو التزام الدولة الإسلامية، وهي المرحلة العليا من الالتزام في الدنيا. الإيمان الفردي يشمل الإيمان الفكري العقدي بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر، يقوم على الحرية الفكرية والقناعة العقلية أولاً، والالتزام بالتكاليف الشرعية في الدائرة الشخصية الخاصة ثانياً، والالتزام بالأخلاق الحميدة ثالثاً، وقيام الإنسان المسلم المؤمن بها يعبر عن مصداق إيمانه وقناعته، فإذا كانت نحو الله تعالى فهي حقوق لله تعالى، في حمده وشكره والصلاة له ودعائه والاستعانة به، فحقوق الله يؤديها المسلم المؤمن طواعية بإرادته واختياره، بحكم إيمانه بها، وبحكم محبته لله تعالى، وبحكم سعيه لإرضائه، فينعكس ذلك على الإنسان راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، وقناعة عقلية، وسعادة دنيوية[2]. والإيمان الاجتماعي يتكون من تكاتف الأفراد وإيمانهم، فيشكلون مجتمع المسلمين المؤمنين، من كل مشارك في مجتمع الأفراد المؤمنين، والقيم الإسلامية الاجتماعية تهدي المجتمع المسلم للتي هي أقوم، فتبين لهم الحقوق الاجتماعية وهي نفسها حقوق الناس، وهذه الحقوق ليست منافسة ولا ملغية لحقوق الأفراد، وإنما منظمة لها ومساندة وداعمة ومشجعة في كل المجالات، مثل أداء حقوق الله من الأفراد عن طرق العبادة الجماعية، فيكون من وظائف الحقوق الاجتماعية تحفيز الأفراد على أداء واجباتهم الفردية، مثل إقامة الصلاة في عبادة جماعية يومياً في الصلوات الخمس، أو أسبوعياً في صلاة الجمعة، أو شهرياً في شهر رمضان، أو سنوياً في مناسك الحج، ومثل الزكاة الاجتماعية[3]، فحقوق الناس تتلاقى على الأعمال المشتركة النافعة للأفراد والمجتمع معاً، دون تعارض ولا تناقض ولا تنافس، وكذلك باقي الحقوق في المعاملات التي تجتمع فيها حقوق الناس وتؤدى إليهم، بوازع الإيمان الفردي الذي يرجو رضاء ربه ومصلحة عبده معاً، وذلك لأن "تعيين أصول الاستحقاق أعظم أساس وأثبته للتشريع في معاملات الأمة بعضها مع بعض؛ فإنه يحصل غرضين عظيمين هما أساس إيصال الحقوق إلى أربابها، لأن تعيينها ينورها في نفوس الحكام ويقررها في قلوب المتحاكمين، فلا يجدوا عند القضاء عليهم بحسبها حرجاً.. وقد قضت الشريعة في تعيين أصحاب الحقوق وبيان أولوية بعض الناس ببعض الأشياء، أو بيان تشاركهم في الانتفاع بما يقبل التشارك، على طريق فطري عادل لا تجد النفوس فيه نفرة، ولا تحس في حكمه بهضيمة"[4]. إن الإيمان الجماعي هو عقل الدولة في الإسلام، وهو يفوق في مكانته الإيمان الاجتماعي، لأن الإيمان الاجتماعي يقوم على التعاون الاختياري بين المؤمنين، رجاء الثواب من الله تعالى، فأساسه العمل التطوعي، بينما الإيمان الجماعي يقوم على اختيار سياسي لأفراد المؤمنين بانتخاب من يمثلهم سياسياً، ويجمع قواهم في كيان واحد، ينظم إيمانهم واجتهاداتهم، ويجمع قواهم لما فيه مصالحهم الدنيوية والأخروية معاً، الإيمان الجماعي يوجده الانتخاب السياسي لأولي الأمر بحرية أولاً، ومشاركة واسعة من جموع أفراد المؤمنين ثانياً. إن الانتخاب هو من حقوق أفراد المؤمنين في تمثيل أنفسهم، ومن حقوق الناس أن ترفع مستوى حقوقها من حقوق اجتماعية إلى حقوق سياسية، وفي ترقية الوجود الاجتماعي إلى وجود دولي وسياسي، فإذا أوجدوا باستعمالهم لحقوقهم دولتهم، فقد اوجدوا كيانهم السياسي الذي يؤمن لهم حقوقهم الإنسانية الفردية ويحميها ويدافع عنها، ويؤمن للناس حقوقهم الاجتماعية ويحميها لهم ويدافع عنه، بكل مؤسساتهم الاجتماعية المهنية والتجارية والرياضية والنقابية وغيرها، وأخيراً يؤمن لهم حقوقهم السياسية بصورة قانونية ودستورية. إن الحقوق السياسية للمسلمين مبنية على الحقوق الاجتماعية لهم، والحقوق الاجتماعية مبنية على الحقوق الفردية لهم[5]، والحقوق الفردية والاجتماعية والسياسية تشترك في حقوق الله تعالى وحقوق الناس وحقوق الإنسان معاً، وإن تمييز بعض الفقهاء لحقوق الله على أنها الحقوق التعبدية من صلاة وصوم وغيرها، وحقوق الناس على أنها الحقوق التعاملية من بيوع أو عقود أو حدود وغيرها، لا يقصد منه الفصل بينها وإنما تفصيلها، أي بيان تفاصيلها الفرعية، وما يترتب على الإخلال بها، فالمجتمع الإسلامي منوط بالحفاظ على المصالح الاجتماعية والصلح بين الناس بالحسنى، بينما الدولة المسلمة منوط بها إقامة حقوق الله التعبدية، بإقامة المساجد والحفاظ عليها وإقامة الصلوات فيها على أوقاتها، وأن تمنع كل صاد عن سبيل الله، ولو أدى إلى استعمال القوة المادية، أو إيقاع العقوبة على المضيعين لها، وكذلك باقي الحقوق الفردية والاجتماعية والسياسية. لقد تجاهلت مواثيق حقوق الإنسان غير الإسلامية الحديث عن "حقوق الله"[6]، وكأنها لا علاقة لها بحقوق الإنسان، مما جعلها حقوقاً غير وافية ولا كاملة في تحقيق مقاصد الحقوق نفسها في حماية الإنسان وإسعاده، بل كانت سبباً في إضاعة المكانة الوجودية الصحيحة للإنسان[7]، وربما كان السبب أن البعض يرى أن الحقوق لا وجود لها إلا في مواجهة الغير، أي عندما يعيش الإنسان في مجتمع، والحقوق هي حقوق لطرف والتزامات على طرف آخر، وأن الحقوق إنما تنظم "طبيعة الإنسان المزدوجة وكونه كائناً فردياً وكائناً اجتماعياً في آن واحد[8]. إن عدم وجود نصوص حول حقوق الله في الحضارة الغربية وفي مواثيق الحقوق يمكن أن يفسر بأن هذه المواثيق هي مواثيق حقوق الإنسان، وليس حقوق الله، ولكن القراءة التاريخية لمفهوم الحقوق في الغرب تظهر أن التصور الذي انطلقت منه حقوق الإنسان كانت في نظرهم مرحلة ما بعد الأديان، ففي نظرهم أن المرجعية الدينية لم تعد تكفي، بل ولا تصح وغير عقلانية[9]، بعد أن اكتشف الإنسان أسرار الطبيعة، واستطاع بعقله أن يفسر ما كان يجهله عن الطبيعة، أي إنها لحظة القطيعة مع الدين، وما دامت لحظة القطيعة مع الدين فلا بد من إبعاد كل تصور ديني عن هذه الحقوق، وربما عذرهم في ذلك أن كل الحقوق التي تتدعى إلى الله كانت ستؤول حتماً إلى الكهنة، ورجال الدين والحكام المتألهين، أي لن يكون لهذه الحقوق أي دور إيجابي في حياة الناس، بينما حقوق الله في الإسلام عقيدة عقلية، بما لله من حقوق على الناس بالشكر والحمد والعبادة، وهو الخالق والرازق والمنعم، وهي اكبر ضمانه للالتزام بحقوق الإنسان والناس جميعاً. يتبع في العدد المقبل ------------------------------- 1. القانون الإسلامي وطرق تطبيقه، أبو الأعلى المودودي، ص: 24. 2. فلسفة الحق في المنظورين الإسلامي والوضعي ودور حقوق الإنسان فيها، الدكتور علي أحمد صالح المهداوي، بحث في كتاب: مؤتمر كلية الحقوق في الشريعة والقانون (التحديات والحلول)، جامعة الزرقاء الأهلية، الزرقاء، الطبعة الأولى، 1423ه/2002م، ص: 83. 3. فقه الزكاة، الدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السادسة عشرة، 1406ه /1986م، 1/61. 4. مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص: 150. 5. دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر، الدكتور فتحي الدريني، مصدر سابق98م، 3/217. 6. حقوق الإنسان ووحدة الأسرة البشرية في الإسلام، ندوة المجلس الأوروبي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 19 شوال 1394ه/ 4 نوفمبر 1974، ص: 178. 7. حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة، الريسوني وآخرون، مصدر سابق، ص: 15. 8. بحث مصادر حقوق الإنسان، الدكتورة سعاد الشرقاوي، مصدر سابق، ص: 23. 9. الديمقراطية وحقوق الإنسان، الدكتورة محمد عابد الجابري، ص: 148.