لا شك في أن من أهمّ الطرق الموصلة إلى العلم "معرفة اصطلاحات أهله"[1]، وأن المصطلح هو"اللبنة الأولى من كل علم، بما هو مدار كل علم به يبدأ وإليه ينتهي"[2]، بل إذا شئنا الحقيقة؛ فإن "المصطلح هو العلم، ذلك قول يجري مجرى القاعدة في جميع العلوم، وللعلم الشرعي منها خصوص أيُّ خصوص، من حيث ينفرد فيه المصطلح بِمَيِّزَاتٍ تجعله أكثر اكتنازا بما هو تصورات وقضايا وإشكالات"[3]. وإذا أردنا أن نحدّد للمقاصد مصطلحات ومفاهيم نجعل له بها حدا نستوعب من خلاله المنظومة التي قام عليها هذا الفن، فلا يمكننا أن نبتعد عن المصطلحات التالية، وهي: الفكر والعقل والنظر والاجتهاد والاستنباط والفقه... وما ينتمي إليها من مفاهيم أخرى، تخدم نفس المعنى. 1- مفهومي الفكر والنظر الفكر لغة: إعمال الخاطر في الشيء، قال سيبويه: ولا يجمع الفكر ولا العلم ولا النظر، وقد حكى ابن دريد في جمعه أفكارا. وقال الجوهري: التفكر التأمل، قال يعقوب: يقال ليس لي في هذا الأمر فكر؛ أي ليس لي فيه حاجة، قال: والفتح فيه أفصح من الكسر. واصطلاحا: هو ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول وهو النظر[4]. قال إمام الحرمين (ت 478ه) في الشامل: "الفكر هو انتقال النفس من المعاني انتقالا بالقصد، وذلك قد يكون بطلب علم أو ظن، فيسمى نظرا، وقد لا يكون كأكثر حديث النفس، فلا يسمى نظرا بل تخيلا وفكرا[5]. أما حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (ت 505ه) فقد عرفه بأنه "إحضار معرفتين في القلب يستثمر منهما معرفة ثالثة"[6]. من خلال هذه التعريفات يظهر لنا أن مجال الفكر مجال واسع لا يسعه مجال في الآفاق والأعماق، يشير إلى ذلك توالي المعارف النظرية، وشروح الظواهر الكونية، وتفاسير النصوص النقلية، في تزاحمها وتجددها وتطورها عبر الزمان والمكان والإنسان، وليس أحد كما قيل بحق بقادر على أن يحصي أو يقف عند حدود معينة في إعمال الفكر، ولا أن يعيقه عن السير في أي أمر توجه إليه العقل بالتدبر والتأمل يضفي به إلى فهم المعاني، والحكم والملحوظات الشرعية المرتبطة بروحها، وما يؤول إليها في جانب من الجوانب، دون إغراق أو تحيز، وَفْقَ ضوابط وشروط يجب لَحْظُهَا في المفكر وفي المفكر فيه، حيث يكون الأول أهلا للنظر وإعمال العقل، مؤهلا لإدراك المعنى القصدي من النصوص، ويكون الثاني واضح المعنى من غير غموض ولا إبهام. أما النظر فتدور مادته "نظر" في اللغة كما جاء في تهذيب اللغة للأزهري على نظر العين لقول الله عز وجل: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ اِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" [سورة القيامة، الآيتين: 22-23]. الأولى بالضاد والأخيرة بالظاء، وقال أبو إسحاق: نَضِرتْ بنعيم الجنة والنَّظر إلى ربها. ونظر التفضل، يقول القائل للمؤمَّل يرجوه: إنما أنظر إلى الله ثم إليك؛ أي إنما أتوقع فضل الله ثم فضلك. ونظر الانتظار ومنه قول عمرو بن كلثوم: أبا هنْد فَلا تَعْجَلْ علينا وأَنْظرنا نُخَبِّرْكَ اليقينا ونظرة الهيبة[7]. وفي الاصطلاح العلمي، قال فيه بكر الباقلاني(ت403ه) فيما نقل عنه: "النظر هو الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو ظنا، وهو مطرد في القاطع والظني"[8]. وعرفه الأستاذ أبو منصور البغدادي (ت 429ه) بأنه: "الفكر في الشيء المنظور فيه طلبا، لمعرفة حقيقة ذاته أو صفة"[9]. فالنظر بهذا المعنى هو الفكر المترتب في النفس على طريق يفضي إلى العلم، كما قد يكون رأيا، أو تأملا أو تدبرا أو تحريا أو قياسا أو استنباطا أو اجتهادا، وقد أشار الإمام الشاطبي (ت 790ه) إلى عدد من القضايا التي تؤكد قيام مصطلح النظر على الفكر بالقلب والعقل، منه قوله: "وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد والله أعلم"[10]. وقوله: "صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد، فلم يكن فيها مخالفة، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة تحدث في الزمان المتقدم بدعة، وهو باطل باتفاق، لكن شكل هذا النظر في باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة، وإن لم يشهد له أصل معين، وهو الذي يسمى بالمصالح المرسلة"[11]. وقال: "حيث قيل بالتخيير بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة، فالترجيح بينهما مجال رحب وهو محل نظر"[12]. وقال أيضا: " فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع"[13]. وقال رحمه الله تعالى: "اتباع من لا نظر له، واجتهاد من لا اجتهاد له، رمي في عماية"[14]. ومن الفقهاء الأندلسيين الذين استعملوا المصطلح دالاّ على قوّة إعمال الفكر، حافظ المغرب والأندلس ابن عبد البر النمري (ت 463ه)، حيث يقول في ضم الدنانير إلى الدراهم في الزكاة: "والدينار عند مالك ها هنا وفي الجزية بعشرة دراهم، وفي الديات والنكاح اثني عشر درهما، ومن أهل العلم جماعة بالمدينة وغيرها، لا يرون ضم الدنانير إلى الدراهم، ولا الدراهم إلى الدنانير، ويعتبرون النصاب في كل واحد منهما، وهو قول صحيح في النظر؛ لأنهما جنسان لا يجزي فيهما إلا الربا، ويجوز فيهما التفاضل"[15]. وزبدة القول: كلما توفرت للفكر مؤهلاته كان أفضل، وكلما دعت دواعي جديدة كانت له جدة، ومن هذا إعادة الشافعي رسالته عندما انتقل إلى مصر، وإعادة كل كاتب النظر في ما كتب بالزيادة أو النقصان. ------------------------- 1. الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي: 1/97، تحقيق وتعليق: الشيخ محمد عبد الله دراز، مكتبة الرياض الحديثة. 2. المصطلح الأصولي عند الشاطبي، د. فريد الأنصاري، معهد الدراسات المصطلحية، والمعهد العلمي للفكر الإسلامي، ط: 1، 1424ه/2004م، ص:11. 3. المصطلح الأصولي عند الشاطبي، د. فريد الأنصاري، (م. س)، ص:11، بتصرف. 4. لسان العرب، ابن منظور الإفريقي المصري: 11/211- 210، ط: 1، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت لبنان، مادة / فكر. 5. البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين الزركشي، ص: 61، دار الكتبي، ط: 1، 1414ه/ 1994م. 6. إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، تعليق، طه عبد الرؤوف سعد: 4/354، ط: 1، مكتبة الصفا القاهرة، 1423ه/2003م. 7. تهذيب اللغة، الأزهري: ج: 5/39- 40، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكاتب العربي، القاهرة: 1967م 8. البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين الزركشي، ص: 62، (م. س). 9. البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين الزركشي، ص: 62، (م. س). 10. الموافقات، الشاطبي: 2/124، (م. س). 11. الموافقات، الشاطبي: 2/259، (م. س). 12. الموافقات، الشاطبي: 1/241، (م. س). 13. الموافقات، الشاطبي: 4/179، (م. س). 14. الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي: 2/453، ط: 2، دار الكتب العلمية، بيروت: 1411ه/1991م. 15. الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، تحقيق محمد أحيد ولد ماديك: 1/288، ط: 1، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض: 1398ه/1978م.