ليس هناك فرق بين الآليات العسكرية والآليات الثقافية في الغزو والفتك فالأولى تدمر الحضارة مادة والثانية تدمرها هوية لم يخطئ الدكتور الشاهد البوشيخي لما ربط في أحد بحوثه بين المصطلحات والمسألة الحضارية، ولم تخطئ حرارة كلماته التي كانت قوتها تنم عن وعي عميق بخطورة الحرب المصطلحية التي تخوضها المجتمعات الإسلامية، كان على بصيرة حقا مما يقول وهو ينطق باسم الوفود في مؤتمر النقد الأدبي الخامس بالأردن سنة 1994. يومها لم يكن مصطلح الإرهاب بهذا المعنى الذي أدخل المقاومة المشروعة في حقله الدلالي، ولم يكن مصطلح الجندر متداولا بعد بالشكل الذي صار إليه، وهو الذي أريد منه تقويض مصطلح الجنس في تمييز الذكر والأنثى ليحتمل الشواذ أيضا، وكذلك مصطلح الشريك الجنسي المراد منه شرعنة الزواج المثلي والتدليس على الزواج الفطري الطبيعي، بل لم تكن المثلية نفسها- يوم اجتمع أهل الأدب واللغة والمصطلح- قد أخذت مكانها في القاموس العربي لا وضعا ولا استعمالا، ومصطلحات أخرى يستحيل أن نجد مسوغا ثقافيا في المجتمع المغربي يستوعبها، وجدناها تتغلغل في المسموع والمقروء، وتكتسب المشروعية والتمكين. وليس هناك تفسير يبرر انتشارها إلا ما وصفه البوشيخي بحرب المصطلحات. شخصيا لا أجد فرقا بين الآليات العسكرية والآليات الثقافية في الغزو والفتك، الأولى تدمر الحضارة مادة، والثانية تدمرها هوية، الأولى لها فنونها وطكتيكاتها، والثانية لها مصطلحات تخدم أغراضها وطكتيكات تمكَّنها من مسخ هوية الآخرين، وكلاهما يعمل بمنطق الغلبة وتنحية المغلوب، ومع ذلك فليس ظنا أن المقاومة في ساحة الوغى من أجل استرجاع الأوطان وحفظها ليست أعلى شأنا من المقاومة المستميتة من أجل حفظ الهوية وصيانتها من الاختراق في معركة الفكر والثقافة، وليس للأمم من وسيلة تحفظ بها الذات أقوى وأجدى من بناء مجنات مصطلحية تدرأ عن الأمة مخاطر الفناء، ولا سبيل إلى هذه المنعة غير تفعيل المؤسسات التي حملت على عاتقها عبء البناء المعجمي والتوليد المصطلحي، وكذا استنفار الجهود من أجل مجابهة الغزو الإلكتروني والموسوعي الذي استقوى على الذات بوسائل المصطلحية الحاسوبية، فمخاطر الفناء تتعرض لها كل الأمم المتخلفة، والمغرب ضمن الرقعة العربية والإسلامية أكثر عرضة للاستلاب، كونه اختار الانفتاح والحداثة، وإن كنت لا أنكر بعض فضائل هذه الحداثة إلا أني أجد من الصعب تجاهل بوادر الأزمة الفكرية التي حملها الفهم الخاطئ لها وغض الطرف عن أدوات الحرب المصطلحية التي أشهرتها بعض الفئات من دعاة التحرر والتي بفعلها أصبح الواقع الفكري والثقافي للمغرب، يرفل في الاضطراب ويعاني من وطأة الفوضى، وليس لهذه الفوضى من ناظم غير إعادة الاعتبار إلى الدلالات الاصطلاحية الأصيلة، التي بفضلها سيتمكن المتلقي من وضع المفاهيم الدخيلة في نسيجها الفكري الذي ربَت فيه، فلا تنطلي عليه حيل التغليف المشوه لمعاني الحداثة والتي من مقاصدها نخر قواعد البناء الاجتماعي. إن المتلقي يحتاج إلى أن يستقي المفاهيم من مظانها الفكرية، كما يحتاج إلى جانب ذلك إلى التوعية بمقومات الخصوصية، التي ينتج عن غيابها تناقص تدريجي بالاعتزاز بالذات، وهذا لن يتأتى إلا إذا قامت المؤسسات ذوات الاختصاص بمسؤولياتها، وأنا هنا أؤكد على دور أهل الحل والعقد المصطلحي وأتساءل كيف تاهوا بين تسميات الدراسات المصطلحية والمصطلحاتية منذ ربع قرن من الزمن، وأتساءل كيف أعرضوا خلال هذه المدة عن ثغور طالما ادعوا مرابطتهم عليها، وكيف سكتوا عن عمليات التنميط التي لازمت كل هذا الزخم من المفاهيم الغريبة التي تداعت على قيمنا والتي توحي بغرابة الانتماء. إذا كان المصطلح السياسي والعلمي الصرف وغيره مما يمكن تقبله وملاءمته مع منظوماتنا التنظيمية والمعرفية لا يثير الفاعلين، فإن المصطلحات التي تحمل ثقافة الآخرين وطرائق عيشهم وتفكيرهم وترد علينا بانتظام مثير وترتيب محكم، لا شك أنها أدوات نسف مجتمعي موقوتة، تكاد تأتي على منظومة حضارية كاملة، ولست أرى خرجات هذا الفتى الذي ملأ علينا أياما من المتابعة الإعلامية، ولا أرى الخلخلة المفاهيمية التي أراد إذاعتها إلا حلقة من حلقات التطعيم الثقافي الموقوت الذي يتعرض له المغرب منذ مدة، أتحدث عن صاحب الجمعية أو المجموعة «الشاذة» التي تحمل اسم» كيف كيف» الذي نبهنا إلى كون المثلية اليوم في المغرب غدت أكثر قبولا في الأوساط الاجتماعية والثقافية، وأخبرنا أن القضاء على الكثير من المصطلحات المزعجة والمستفزة كمصطلح الشذوذ مسألة وقت ليس إلا، وبعدها ستُستبدل وبشكل آلي بمصطلحات منصفة «كالمثلية». لقد وجدت الفتى في مجمل تصريحاته يعي تماما ما يقول، حيث سوّق لجمعيته «كيف كيف» ومرر ضمن تسميتها دلالة الاسم وثقافة المسمى، وقد بدا ذلك على ظاهر خطابه، أما ما أبطنه فيه فذلك السعي إلى خلط المفاهيم حين سمى الإسلام أعرافا وتقاليد، وقصد الخلط بين مفهوم اللواط والخناث، ليتسنى له تمرير بعض الأحكام الشرعية، وقد فعل ذلك تدليسا على الناس لاكتساب شرعية مفقودة لأهل اللواط والانحراف الجنسي، ولو كان لذوي العزيمة تدخل في تقويم المفاهيم تذكيرا ومذاكرة في الإعلام وغيره، لكان لفعلهم أثر في حفظ كرامة الأمة وصون انتمائها وتاريخها بتكميل الأطياف الثقافية تهذيبا وتقويما، والانخراط في هموم المجتمع الفكرية وإشكالاته العلمية الكبرى، وليس فقط بالخرجات المحتشمة أو الإجابة عن الأسئلة المباشرة. أهل الاختصاص مطالبون اليوم قبل الغد بصد هذا الغزو المسعور وردع عملية الإحلال اللغوي المغالطة، وإعادة النظر في مناهج العمل، واستبدال الانتكاس بالممانعة الفكرية، وإحياء الرصيد الغني للمصطلح العربي، وتكوين مصطلحات جديدة قادرة على مسايرة المستجدات إذا استدعى الأمر التوليد، وتنقية الوارد منها الذي يستدعي التقييس وتوحيده وتوثيق مظانه، واعتبار اللغة من فصيلة القيم المعيارية للمجتمع، لا تدرس لذاتها ومن أجل ذاتها حسب ما ذهب إليه سوسير، هذه مهام من له علاقة بالموضوع من أهل الفكر والنظر أسمى وأجل من عمل أهل الجمع والتكشيف، وقفت عليها من واجب الإشارة، ولكنها لا تثني عن بيان بعض الحقائق المرتبطة بموضوع «الشذوذ الجنسي» تناساها البعض أو أنسوها أو لنقل تناستها بعض وسائل الإعلام والإذاعات الخاصة أو وارتها، وقد كنا نحسبها إلى وقت قريب من معارف العوام، وأعني بعض جوانب دلالة المصطلح اللغوية وما يتعلق بها من أحكام شرعية وقانونية، وبعض النظرات في أصول المصطلح التاريخية وسياقاته الثقافية. وأود هنا أن ألفت النظر إلى أن مصطلح الشذوذ الجنسي هو أوسع دلالة في ثقافتنا مما هي عليه دلالة المستورد، حيث تندرج ضمنه مسميات مختلفة أذكر منها: الخناث: وهو تشوه خِلقي يرتبط بالأعضاء التناسلية للإنسان يكون جنس الموصوف به جامعا بين الذكر والأُنثى. اللواط : وهو حالة جنسية تجمع الذكور بالذكور.اللويطة: وهي إتيان الرجل المرأة من الدبر. التخنث: التكسر والتلوي، وميل الذكور كاملي الذكورة إلى التشبه بالنساء. السحاق: ملامسة المرأة للمرأة. المأبون: وهو الرجل السلبي في عملية اللواط الذي لم يعد مرغوبا فيه. المآجر: وهو الرجل المومس. إتيان البهيمة: وهي أيضا من الشذوذ وما تأباه الفطرة السليمة. وكل ما ذكر عرف في التاريخ العربي وتعاملت معه الشريعة بما تستوجبه الاختلافات الحاصلة بين أنواعه، وراعت أحكامُها ما أصله خِلقي وما كان منه غير ذلك، فالخناث مثلا لا يستوجب العقاب في الشريعة على اعتبار أنه من منبت خِلقي وليس فعلا مكتسبا، والشريعة تحاسب المكلفين على الأعمال، يقول تعالى:(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ). أما اللواط فهو فاحشة نسبها القرآن إلى عمل قوم لوط الذين لم يسبقوا إلى فعلهم، يقول تعالى: (أتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) ووضح القرآن مضمون هذه الفاحشة في قوله تعالى (إنكم لتاتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون) ووصفهم بالمجرمين في قوله : (وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) وأقرت لها السنة حدودا اختلف الفقهاء في إعمالها، وأقل ما جعلوه حدا لها ما جعل عقوبة للزنا، ومنهم من جعل فيها التعزير. واعتبرت الشريعة اللويطة حالة جنسية محرمة بدلالة قوله تعالى (وآتوهن من حيث أمركم الله) وقوله (ص): (لا ينظر الله إلى رجل يأتي امرأته في دبرها). وأما التخنث فمنهي عنه لما روي عن ابن عباس أن النبي (ص) قال:( لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء). وأما السحاق فمحرم باتفاق العلماء لما روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد) وفي السحاق التعزير دون الحد لأنه مباشرة بغير إيلاج. وأما إتيان البهيمة ففيه نص يوجب الحد، ومن الفقهاء من رأى فيه التعزير. الشذوذ الجنسي إذا أردنا أن نجعله دالا على سلوك معين فسيكون دالا على كل ما سبق، إضافة إلى اغتصاب الأطفال والسادية وغير ذلك من أنواع المنازع غير السوية للسلوك البشري، والتي تعشش في النفوس المريضة خاوية الروح، ناقصة الذوق، ولا يمكن بحال تبريره بالتفسير المادي للسلوك البشري الذي يناسب أصحابه مخترعي النزعة الحيوانية في الإنسان، ومصطلح الشذوذ لم يظهر إلا بعد ظهور هذا المنزع من أصوله الفرويدية، وقد اعتبر القانون المغربي مسماه حالة غير سوية في المجتمع، يعاقب ممارسها من باب انتهاكه للآداب، وقد وضح حالة الشذوذ الجنسي بأنها «ممارسة الشخص للجنس مع شخص من جنسه»، ولذلك نصت المادة 489 من القانون الجنائي المغربي على أن «يعاقب بستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من 200 إلى 2500 درهم مغربي كل من ارتكب فعلا من أفعال الشذوذ الجنسي». ويهمني هنا قبل الختم أن أشير إلى أن اللواط ارتبط في التاريخ العربي والإسلامي بالفسق والعربدة، بل ذكره القرآن باسم الفاحشة معرفة زيادة في التقبيح (أتاتون الفاحشة). واشتهر به أبو نواس شاعر الخمرة والمجون. ولم نسمع ب»المثلية الجنسية» كمصطلح عربي إلا نهاية التسعينيات من القرن الماضي، وقبله بسنوات مصطلح «الشريك الجنسي»، ليكون مطية لتقبل مصطلح الزواج المثلي، وكذلك صار يطلق على الزواج المعروف اسم «الزواج التقليدي» وكأن هناك زواجا حديثا، والجناية المصطلحية هنا ذاك التلبيس للزواج الطبيعي بالزواج الشاذ، أما هذا الذي يسمى «العهر المثلي» فلم يرتبط في التاريخ الإسلامي بالخناث، وحتى الخناث عينه لم يرتبط بالممارسة المثلية في الغرب نفسه قبل القرن 9. وجدير بالذكر أن الشذوذ الجنسي انحراف في سلوك الإنسان مكتسب، وقد أخبر العالم كينزى أنه وجد نسبة %10 من الرجال الأمريكيين البيض كانت ممارساتهم الجنسية مقصورة على نفس الجنس لمدة ثلاث سنوات، مقابل %4 منهم كانت ممارستهم مقصورة على نفس الجنس مدى الحياة، و%19 من النساء مارسن الشذوذ لفترة و%3 مدى الحياة، مما يعني أنه سلوك مكتسب وقابل للعلاج، وليس قدرا مقدرا كما يروج دعاة هذه الآفة، وهناك مصطلحات أخرى أريد لها أن تخدم الميل إلى الشذوذ، أذكر منها «الجندر» وهو مصطلح أريد به تعويض مصطلح الجنس الذي يميز الذكر والأنثى، ولذلك سعت الموسوعة البريطانية إلى تعليل الهوية الجندرية بربطها بشعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى وليس بالمميزات العضوية لجنسه، وهذا يقود إلى شرعنة الشذوذ وتسمية الذكر أنثى كلما نزع إلى الشذوذ حتى يقلع. ومع الأسف أخذ مصطلح الجندر في الانتشار رغم حداثته، وأصبح ظاهره يوهم بأنه حالة ما نسميه تخنثا والحقيقة أنه ستار للممارسة الجنسية الشاذة، تؤكد ذلك الباحثة «أ.ويكان» في ما ذكرت: «أن الفعل الجنسي وليس الأعضاء» الجنسية هو الذي يكون بنية الجندر أصلا». فالمسألة إذن أكبر من تشبه الذكور بالإناث أو الإناث بالذكور، إنه نوع مقيت من الميولات الشاذة، والمثلية التي يرددها هؤلاء والتي يوارون بها منكراتهم تذكرنا بقول محمد عبده في المنارإن«المعهود في أهل الرذائل أن ينكروها ويسموها بغير اسمها ويألمون ممن يعيرهم بها». هذا يكفينا –بظني- لتحصيل معرفة عامة في الموضوع وفهم أعم لظروفه وحيثياته، والحكم النهائي على نفرته من أصالة النفس السوية، لن يحتاج إلى ديماغوجيا مدبجة بإيديولوجيات مغرضة، ومصطلحات ملطفة، نحن نحتاج إلى حداثة تؤدي إلى تقدم تكنولوجي وعلمي يحقق لنا العزة والكرامة وحتما لن ندركها بالشذوذ ولا بالتحرير الجنسي.