(2/2) أكد الدكتور فريد الأنصاري، أستاذ أصول المقاصد بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس وأستاذ محاضر بدار الحديث الحسنية، في الجزء الأول من المحاضرة، التي ألقاها يوم الأربعاء 17 فبراير بدار الحديث الحسنية بالرباط، أن المصطلح ركن ركين في نشأة أي علم، مشددا على أن أغلب العلوم الإسلامية تمت حمايتها من أي اختراق نظرا لتوفرها على جهاز ونسيج مفاهيمي ضخم مبني على قواعد مضبوطة.ويشير الأنصاري، في الجزء الأخير من المحاضرة، إلى شروط وثمار الدراسة المصطلحية. قبض ناصية العلم متوقف على باب المصطلح ومن العلوم المحصنة من أي اختراق، علم الحديث، فعندما يأتي أحد من هنا أو هناك ويضعف حديثا نبويا من غير اختصاص يضحك منه الناس، لسبب بسيط، لأنه مثل من يفتي في الطب ولا علاقة له بالطب، والقاعدة تقول من تطبب وهو جاهل فعليه الضمان، وكل العلوم التي لها جهاز مصطلحي ضخم هي محمية بشكل طبيعي، بينما العلوم التي تعاني من عدم اكتمال اصطلاحي يدخلها من هب ودب، ومنها علم التفسير، لانعدام وجود أصول لهذا العلم، فعلوم القرآن موجودة، ولكنها لم تصل إلى مرحلة أصول الفقه بالنسبة للفقه وعلم نقد الحديث بالنسبة للحديث، إذ بقيت أعضاء علم التفسير مشتتة في علوم شتى بين علمي أصول الفقه والبلاغة وفقه اللغة وعلوم القرآن، ولذلك يدخل إليه من هب ودب، فسهل أن يأتي أركون على جلالة علمه، ويدخل في علم التفسير، أو أي شخص آخر مثل نصر حامد أبو زيد، ولكن ما سمعنا أن أحدا اشتغل بصناعة الفقه أو بتصحيح وتضعيف الأحاديث، حاولوا ولكن لم يصلوا إلى شيء، لأن لتلك العلوم سياج اصطلاحي يحميها، بينما العلوم غير المسيجة يسهل على الإنسان أن يقتحمها. وكلما متن الاصطلاح دل على أن هذا العلم نضج، وقد يحدث في فترة من الفترات نوع من الترف الاصطلاحي، كما وصف الدكتور أحمد أبو زيد علم البلاغة أنه حصل فيه ترف اصطلاحي بتسمية الأشياء الدقيقة بأسماء. وخلاصة الأمر بعدما ذكرنا أن المصطلح يشكل ركنا مركزيا وأساسيا في العلوم الإسلامية، ولا يمكن أن يدخل الإنسان أبدا إلى عمق العلوم الإسلامية وأن يجدد فيها إلا بعد استيعابها، ورحم الله الشيخ أمين الخولي له كلمة تشد إليها الرحال: أول التجديد قتل الماضي بحثا، وأول بحث يجب أن يكون لمن أراد أن يقبض بناصية العلم أن يقبضه من باب المصطلح، وليس من باب القاموس، وإنما من دراسة المصطلح بمناهج الدراسة المصطلحية، التي هي كفيلة فعلا بالتحكم في جميع مفاهيم العلوم بمعرفة أحوالها وتغيراتها وتطوراتها ومآلاتها، ومعرفة هذا ييسر حل كثير من قضايا الخلاف في الفقه القديم وإشكالات الفقه الحديث والمعاصر. لماذا تم اختراق الفكر الإسلامي ومن أزمات الفكر الإسلامي المعاصر أنه فقد هويته العلمية لعدم وجود جهاز اصطلاحي خاص، وأي شخص اليوم يمكن أن يكتب في الفكر الإسلامي ويتخصص فيه بين عشية وضحاها، بل تجد الإنسان لا دينيا في أصله، فإذا به يحصل له تحول وجداني، وقد كان كاتبا علمانيا، يصبح كاتبا في الفكر الإسلامي، وهناك ناس نحبهم ونجلهم، معروفون مثل منير شفيق الذي مر بمرحلة بعيدة عن الدين ثم بمجرد كتابته لكتاب في معترك الحضارات صار كاتبا إسلاميا، وهذا ليس عيبا في الشخص ولكن العيب في الفكر الإسلامي المعاصر نفسه من حيث إنه لم يبن البناء العلمي الرصين، فيكتب فيه الكاتب على شكل ثقافته، من كان متأثر بالدرس اللساني الحديث يكون كلامه أقرب إلى علم اللسانيات، وإن كان مؤرخا اصطبغت كتابته بالدراسات التاريخية أو الفكر التاريخي وإن كان أديبا أيضا. وفي ما يخص مناهج البحث في هذا المجال، هناك مناهج حددها المختصون، إذ لا يمكن أن ندرس المصطلح خارج النسق العلمي الخاص الذي وظف له. ولا يمكن في منهجية دراسة المصطلح، في نظري المتواضع، أن نفهم مصطلحات علم أصول الفقه، التي أنتجها الشافعي ومن كان في عصره كالإمام مالك رحمه الله في كتابه الموطإ وقبله أبوحنيفة، وكذلك الذين كانوا في تلك المرحلة مثل مراسلات الليث بن سعد والحوارات التي دارت بين الإمام الطبري والحنابلة وغيرها، لا يمكن أن نفهمها دون أن نفهم السياق التاريخي، الذي كان يطبع المرحلة. أسباب انتشار اللحن في المجتمع الإسلامي لا شك أن المصطلح الأصولي أنئذ كان متأثرا بظهور العامية لأول مرة في تاريخ الفصحى، فالعرب كانوا عربا وأول انحراف، كما سجله أهل اللغة حدث للغة العربية كاستعمال في المجتمع، كان بعد فتح فارس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والتحولات اللغوية لا تحدث بين عشية وضحاها، بل تحتاج إلى جيل آخر، لأن الفرس عندما دخلوا الإسلام سيبقون فرسا ويتكلمون الفارسية، ولن يؤثروا في اللغة العربية حتى ولو تعلموها، في المرحلة الأولى لعشرين سنة أو لثلاثين سنة. ولكن الجيل الجديد، ما يسمونه اليوم في أوروبا بالجيل الثالث، وهو الجيل الموالي هذا جاء بلغة أخرى، لا هي العربية ولا هي الفارسية هي العامية، ومعروف الآن في الدرس اللساني المعاصر أن لغتين إذا اصدمتا أكلت الأكثر استعمالا، التي أعدادها الناطقين بها كثر اللغة الأخرى، ولذلك أكلت اللغة الانجليزية أمريكا مع أن اللغة الأصلية هي لغة الهنود الحمر. وهذه القاعدة اللسانية تعطلت في تلك المرحلة، لأن عاملا آخر دخل لا يعتدون به اليوم في الدرس اللساني الحديثة وهو الدين. فكان الذين اهتموا باللغة هم الفرس، وإذا استقرأت علماء الإسلام نجدهم فرسا بدءا بالمحدثين كالنيسابوري والطوسي وعلماء اللغة مثل الفيروزآبادي وسيبويه وغيرهم، فهم الذين اشتغلوا باللغة صناعة وبناء وإنتاجا لعلومها وقواعدها، لأنهم كانوا أحوج من العرب إلى قواعدها. ورحم الله الدكتور عبد الله الطيب، كان من عباقرة اللغة في هذا الزمن، كان يقول كلمة عجيبة في فاس: وجود شعبة اللغة العربية دليل على هلاك اللغة العربية، لأن اللغة العربية وآدابها في الأصل القديم كانت شيئا فطريا وثقافة عامة، والشعر كان ترويه العامة. فحينما تقلص استعمال العربية احتيج إلى شعبة اللغة العربية، واحتيج إلى النحو وإلى البلاغة، ولذلك قلت إن نشوء علم النحو دليل على أن اللغة بدأت تنهار. وجيل الموالي كان مزيجا، فالإنسان الذي ولد في القرن الثاني والثالث أمه عربية أو فارسية، وأبوه عربي أو فارسي، فخليط بين هذا وذاك، يسمع لغتين فأنتج لغة ثالثة على سبيل المبالغة، وبدأ اللحن ينتشر ويروى عن أبي أسود الدؤلي، النحوي المشهور، أن أحد أبنائه جاءه بكلمة غريبة، فنطق بها بين يديه فاستشكلها أبو الأسود، فقال له ابنه على سبيل الافتخار: هذه لغة لم تبلغك؟ فقال له أبو الأسود: لا خير لك في ما لم يبلغني يا بني، لأنه أدرك أن هذه لكنة ولحن ليس فصيحا. إدراك مبكر للشافعي فالشاهد عندنا أن الجيل الجديد أنتج شيئا آخر غير اللغة العربية الفصحى، وطبعا سيقع نوع من العجز عن فهم السياق الأصيل في لغة القرآن، ليس معنى هذا أنهم لم يفهموا القرآن، بل يفهمونه فهما عاما، وكل إنسان أمي عامي لا بد أن يفهم فيه شيئا، لكن لا يفهمون السياق الأصيل في الكلام. بدأت إشكالات تحصل من عموم أريد به الخصوص، ومن مطلق يقيد ولا يقيد، فأدرك الشافعي سر المسألة وأدركها غيره من المحدثين، وعندما كتب عبد الرحمان المهدي الرسالة إلى الشافعي يطلب منه أن يبين ما البيان، وكيف البيان. مما يعني أن الإشكال صار متداولا ليس عند الشافعي لوحده، فوجود السائل الذي يعبر عن طائفة المحدثين، وأغلبهم من العجم، دل على أنها أصبحت تحدث إشكالات في الفهم عن الله ورسوله ليس في المعنى اللغوي العام؟، ولكن في ما يتعلق بالخطاب اللغوي الشرعي الخاص، فهناك يحدث الإشكال، فقد كتب الشافعي: البيان، فالبيان الذي تحدث عنه الشافعي لا علاقة له بالجماليات البلاغية، كما فهمها بعض المفكرين المعاصرين، وإنما هو بيان تكليفي، كأنه ضرب من قوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي وّخذوا عني مناسككم، كان يشتغل في هذه الوظيفة بالذات بيان كيفية التكليف وأشكاله وهيئاته ومفاهيمه، فهو بيان عملي. شروط دراسة المصطلح وتقوم دراسة الإصطلاح، أولا،على دراسته في سياقه التاريخي، وإلا سيقع اختلاط بالمعنى المنهجي، فيدرس القديم بالمصطلح الحديث أو العكس.فلا بد أن نعيش المرحلة التاريخية للجهاز الاصطلاحي الذي ندرسه، من يدرس اصطلاحات القرن الثامن الهجري عليه أن يدرس زمان وتاريخ القرن الثامن الهجري وهكذا، ولذلك نجد مثلا من المصطلحات المشكلة مصطلح الحكم، الذي تداخل بين مفهومين: مفهوم وافد غربي لا علاقة للغة العربية به، ومفهوم لغوي أصيل شرعي، إذا اجتهد الحكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، التحكيم المذكور في قوله تعالى: (فلا وربك لا يومنون حتى يحكومك) (ومن لم يحكم بما أنزل الله) الفاسقون، الظالمون، الكافرون هذا الاصطلاح باستعماله القديم له دلالة وسياق تاريخي لغوي مرتبط بالمرحلة القديمة، وفي سياقه الذي استعمل الآن في أوروبا المعاصرة، وكما ترجم له دلالات أخرى، أو على الأقل له سياق تاريخي حضاري مختلف. ووقع الخلط في الفكر الإسلامي المعاصر بين السياسة والحكم وبنيت عليه تجارب إسلامية كبيرة اليوم، ونقض الحكم المقصود به القاضي الذي يتلاعب بالأحكام، ولست بالحكم ترضى حكومته والحكومة كيفية القضاء في القضية والنازلة، بينما فسره آخرون بتحويل الخلافة من علي إلى معاوية. لا يمكن أبدا أن نسقط المعاني الوافدة على المصطلحات كما استعملت في التاريخ، لا بد من دراستها في سياقها التاريخي المعروف أولا، لتحرير المفهوم مما علق به في أذهاننا ومما نعيشه في ثقافتنا المعاصرة حتى نصل إلى المصطلح الصافي أو المفهوم الصافي كما كان، ويمكن حينها الحديث عن التجديد وتطوير الاستعمال. والثاني: يتعلق بدراسة النسيج اللغوي الذي استعمل فيه المصطلح والتمكن من اللغة بخبرة، فلا بد للباحث الذي يتصدى للدراسة من زاد اصطلاحي كبير، لأن الدراسة المصطلحية بين أمرين لا ثالث لهما: إما ممتاز أو هزيل لتعلقه بشروط لغوية خاصة ومتميزة، وقدرة الفهم للغة بكل مستوياتها بما فيها الشرعية واستعمالا، لأن الوحي لغة وإن كانت السنة لغة عملية، كنا في عهد رسول الله نفعل كذا، وسماه الشاطبي بقصد الإفهام، مقاصد فهم اللغة العادية، ثم الشرعية الاستعمالية أو المقام اللغوي، فغياب المقاصد الغوية الاستعمالية يأتي بالكوارث. والتجربة تدل على أن الدراسة المصطلحية لا بد أن ينهي إليها الإنسان وليس البدء منها. والشرط المنهجي الثالث والأخير: أن تكون له خبرة بمناهج الدراسات المصطلحية وهذه أمور وصنعة مكتسبة، وهي في المغرب تكاد تستوي على سوقها. ثمار الدراسة العلمية للمصطلح والجمع بين الشروط يمكن من الدراسة العلمية للمصطلحات، وأحسب هذا إذا تم سنجي ثمرته: الأولى الفهم الصحيح والسليم للتراث العلمي الإسلامي، وهذه أزمة عاني منها، ولو حصلنا هذه فقط فكفى بها فتحا للأمة الإسلامية. والثانية وهي مثل أختها وهي الاستئناف والتجديد الحقيقي للعلوم الإسلامية وتطوير أصول الفقه الإسلامي وهو في حاجة إلى تطوير وبشروطه، فلا يمكن تجديد أصول الفقه مثلا دون خبرة حقيقية بالتجديد، فكثير من الأشياء تقع في ذهنك تقول هذه لم تكن، وإنما كانت واستعملت وفشلت لأسباب حضارية. ولابد من بناء الاصطلاح وفهمه وتجديد إعماله وفق شروطه، وليس كما اتفق. إعداد: ع.لخلافة