التفكر في اللغة يرجع إلى معنى: تردُّدُ القَلْب في الشَّيء. قال ابن فارس في المقاييس: (يقال تفكّرَ إذا ردَّدَ قلبه معتبِرا)، وعرف الإمام الفراهي الفكر بأنه: النظر فيما وراء الشيء، وقد يسمى بهذا المعنى اعتبارا. في القرآن الكريم ورد لفظ التفكر وما يشتق منه ثمان عشرة مرة، أغلب هذه الموارد في سور مكية. عدد من هذه الموارد جاء في تعداد نعم الله -عز وجل- وما سخره للإنسان في هذه الأرض من وسائل الحياة: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الاَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اليْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ ءلايات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الرعد/ الآية: 3] (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْاَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ ءلاياتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الجاثية/ الآية: 12]. وغالبا ما يعقب ذكر هذه الآيات المسخرات الحث على التفكر، وكأن التفكر هو الوسيلة الموصلة إلى فهم طبيعة هذه الآيات الكونية التي تفضي هي نفسها إلى نتيجة واحدة هي أن وراء هذا الكون المسخر إله واحد يستحق من الإنسان الشكر على هذه الآيات المسخرات، وأول منازل هذا الشكر: العبادة، وتتلو هذه الحقيقية حقيقة أخرى هي أن هذا العالم الدنيوي لم يكن ليخلق عبثا، بل هو مطيتنا إلى العالم الحقيقي، وهذه حقيقة نطق بها القرآن الكريم على لسان المؤمنين المتفكرين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [سورة ال عمران/ الآية: 191]. كما جاءت هذه الحقيقة في سياق استنكار فعل الغافلين عن الآخرة: ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [سورة الروم/ الآية: 7]. ومن خصائص موارد لفظ التفكر أنه جاء في أكثر من موضع في سياق ضرب الأمثال نذكر منها المثل الذي ضرب للحياة الدنيا: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء اَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاَرْضِ مِمَّا يَاَكُلُ النَّاسُ وَالاَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الاَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً اَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة يونس/الآية : 24]، وضرب الأمثال كما هو معلوم من الوسائل الاستدلالية والبرهانية التي يستعملها القرآن الكريم لتقرير الحقائق الدينية، ولذلك غالبا ما يعقب ذكر المثل الدعوة إلى التفكر فيه:(وَتِلْكَ الْاََمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون) [سورة الحشر/ الآية: 21]. فالمثل هنا ليس مقصودا لذاته، وإنما هو مسوق لمقصد آخر لا نستطيع الوصول إليه إلا بإعمال الفكر والتدبر والتأمل، ولذلك ناسب التعقيب في آيات الأمثال باستعمال هذه المفردات. ومن خصائص موارد اللفظ أيضا وروده في سياق حوار الأنبياء مع أقوامهم، ودعوتهم إياهم لعبادة الله وحده، والتفكر في هذه المواطن مطلوب، ذلك أن دعوة الأنبياء بنيت على أساس من البرهان يروم لفت النظر إلى مجموعة من الحقائق، منها حقيقة النبوة وطبيعة النبي التي لا تفارق في شق منها الطبيعة البشرية: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ اِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الاَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) [سورة الأنعام/ الآية: 51]. ومنها وظيفة النبي المتمثلة في البيان الذي يستلزم من المتلقين له التفكر: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة النحل/ الآية: 44]. إن حقيقة النبوة من الحقائق العقدية الكبرى التي تستلزم التفكر، ولو أن الناس تفكروا قليلا في دعوات الأنبياء لما حادوا عن اتباعهم، وقد شدد الله -عز وجل- على هذا الأمر كثيرا في معرض عرض مواقف الناس من الأنبياء: (اَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ اِنْ هُوَ اِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [سورة الأعراف/ الآية: 184] (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [سبإ: 46]. إن الناظر في مفهوم التفكر من خلال هذه الآيات، يلحظ أن التفكر هو بحق طريق الإيمان والاعتقاد الصحيح بالله -عز وجل- وبآياته وبرسله..