بعث الله عز وجل النبي سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والجور والشرك والغي إلى أنوار العلم والعدل والتوحيد والرشد. وكان العالم، قبل البعثة المحمدية وفي زمنها، غارقا في بحر تلك الظلمات، وفي مقدمتها ظلمة الجهل التي تستتبع باقي الظلمات. فكان من الطبيعي والمنطقي أن يكون شعار الدين الخاتم «إقرأ» وأن يكون إعلاء شأن العقل والتفكير والعلم وطلبه وتعليمه أوّل المبادئ لترقّي معراج الكمال الإنساني الذي جاء به الإسلام. فباستخدام العقل يفرّق الإنسان بين الصالح والفاسد، بين النافع والضار، بين الحق والباطل. وبتعطيله تلتبس عليه الأمور ويفقد هذا التمييز. وبطلب العلم يدرك حقائق الأشياء، ودلالاتها على عظمة وقدرة الله وصفات الكمال والجلال والجمال التي هي واجبة لمبدع الأكوان وخالق الموجودات، فإذا لم يطلب الإنسان العلم بقي في ظلمات الجهل لا يعرف الحقائق ولا الدلائل، ولا ما جاءت به الرسل ولا مقاصد الشرائع، فضلا عن جهله بالعلوم الأخرى التي تزيده نوراً، وتبين له طريق السعادة في الدنيا والآخرة. لذلك كان مبدأ العلم والتعلم والتعليم، على مدى الحياة، الفردية والجماعية، أوّل مبادئ بناء الحضارة الإسلامية الراقية، وأول لبنة في صرح الكمالات الفردية والاجتماعية. ومن هنا يجد قارئ القرآن الكريم عددا كبيراً من الآيات التي تحث على استخدام العقل، وطلب العلم، ونشره ، مبينة فضله وفضيلة العلماء الذين يتحلون ويعملون به، وينشرونه ويبتغون وجه الله الكريم بذلك. وإذا تدبرنا هذه الآيات وجدنا أنها تدعو إلى التفكر واستخدام العقل من عدة وجوه: أولا: إن الغاية المرجوة من بث الآيات أي العلامات الدالة على وحدانية الخالق وعظمته في الأنفس والآفاق، ومن تنزل الآيات المتلوة.. أي القرآن الكريم هي أن يعقل الإنسان هذه الحقيقة الكبرى وأن يعمل بمقتضاها في حياته. قال الله عز وجل: «فقلنا اضربوه ببعضها، كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون» «سورة البقرة. الآية 72). وقال: «كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون» [سورة البقرة الآية 242]. فحرف «لعل» يفيد الترجّي ويتضمن هنا معنى القصد، أي أن الغاية المرجوة والمقصودة من تبيين وإظهار الآيات هي حصول العقل، بمفهومه الشرعي. ثانيا: الإنكار والتشريع والذم. فالقرآن لم يكتف ببيان فضل العقل والتفكر إيجاباً، بل بين هذا الفضل من خلال ذم حال الذين يعطلون ملكاتهم العقلية. ولا يتدبرون ولا يتفكرون، وذلك كقوله عز وجل: «ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء. صم بكم عمي. فهم لا يعقلون» [سورة البقرة الآية 171]. شبه الله سبحانه وتعالى الذين كفروا بالبهائم التي لا تعقل، وزاد حالهم بيانا بوصفهم بالصمم والبكم والعمى، فكان هذا التعطيل لعقولهم مسببا لآفات تنحط بالإنسان الذي كرمه الله الى حضيض البهائم. مع أن لهذه مستواها الخاص من التسبيح ولكننا لا نفقهه، كما بيّن القرآن. ومثل الآية السابقة قول الله تعالى: «إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون« [سورة الأنفال، الآية 22] وكقوله سبحانه وتعالى: »وإذا ناديتم الى الصلاة اتخذوها هزؤا ولعبا. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون» [سورة الحشر، الآية 14]. إذ لو عقل هؤلاء الذين اتخذوا الصلاة هزؤا ولعبا لما فعلوا ذلك. بل لأدركوا فضلها وسارعوا إلى إقامتها. ولكنهم قوم لا يعقلون، وكفى به ذما وتوبيخا. وكذلك قول الله تعالى: «لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصّنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون» [سورة الحشر الآية 14]. وصف الله عز وجل حال اليهود الذين حاربوا الدعوة الإسلامية بالجبن، والقتال فيما بينهم، وتفرق قلوبهم لتعاديهم، وذلك بسبب أنهم غير عقلاء، إذ أن هذه الصفات المذمومة لا يتصف بها إلا الجاهلون، وهذه الأفعال القبيحة لا تصدر إلا عن الحمقى. ثالثا: أولو العقول وحدهم المؤهَّلون لإدراك الحق وللتذكر. وقد سماهم المولى عز جل بأولي الألباب، وخصّهم بأجل العلوم وأنفعها. فقال {ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. وما يذكر إلا أولو الألباب} [سورة البقرة الآية 269] فدلت الآية على عظم قدر الحكمة، وعلى أن الذين خصهم الله بنورها هم أصحاب العقول، أي القلوب التي عبر عنها بالألباب. وقال تعالى: «إن في خلق السماوات واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار» [سورة يوسف الآية 111]. وكذلك قوله عز وجل: «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يومنون» [سورة يوسف الآية 111]. ففي هذه الآية الكريمة، إعلام بأن في قصص الأنبياء التي ذكر الله في القرآن عبرة وموعظة ودروسا ينتفع بها أولو العقول النيرة، ويستدلون بها على صدق الرسول في ما بلغ عن ربه من رسالات. وأما قول الله تعالى: «أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى، إنما يتذكر أولو الألباب» [سورة الرعد الآية 10]. ففيه تنصيص على أن الذين يتذكرون ، إنما هم أولو الألباب، و «إنما» كما هو معلوم أداة حصر، فأصحاب العقل وحدهم يعلمون أن الذي يعلم هذا الحق ليس كمن هو أعمى لا يبصر ثم ذكر الله صفات أخرى لأولي الألباب الذين لا يعطلون عقولهم عن التفكر والتدبر، وهي الوفاء بالعهد، وعدم نقض الميثاق، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، والخشية والخوف، والصبر احتسابا وإخلاصا، وإقامة الصلاة، والإنفاق سرا وعلانية والدفع بالتي هي أحسن، ثم ذكر جزاءهم يوم القيامة: «أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم. فنعم عقبى الدار» [سورة الرعد الآيات 22 24). لقد أنزل الله هذا القرآن الكريم تذكرة لهذه الفئة المؤمنة التي تتدبره، وتنتفع بعلومه. وأما الذين أعرضوا ولم يوجهوا قلوبهم وعقولهم لتحصيل هذا التدبر والانتفاع، فلا يتذكرون. قال تعالى: «هذا بلاغ للناس ولينذروا وليعلموا أنما هو إله واحد، وليذكر أولو الألباب) [سورة إبراهيم الآية 52ّ] . فجعل الآيات السابقة بلاغا عاما، وإنذارا شاملا للناس، حتى يعلموا أن لا إله إلا الله، وبين أن أولي الألباب هم المؤهلون للتذكر النّافع ، وفي الآية عطف للخاص على العام، والله أعلم. وكذلك قوله سبحانه: »أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم. إن في ذلك لآيات لأولي النّهى« [سورة طه الآية 128]. وأولو النهى هم أولو العقول التي تنهاهم عن القبائح، وهم الذين يستفيدون من عبر التاريخ ودروس القصص القرآني. وقوله سبحانه: »كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب« [سورة ص الآية 28] ، بيان للغاية من تنزيل القرآن الكريم، وهي التدبر والتذكر، اللذان هما وظيفتا العقلاء المفكرين، إذ لهم آيات ودلائل وإشارات في الأنفس والآفات وتاريخ الأمم، كما في قصة سيدنا أيوب عليه السلام: »ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب} [سورة ص الآية 42]. فهذه القصة القرآنية تتضمن من الحكم والعظات والفوائد ما ينتفع به أولو الألباب أيضا. وهذه الفئة المؤمنة هي التي تذعن لسماع الحق، وتستقيم على نهج السنة، ولذلك كانت هي الطائفة المهدية. كما في قول الله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب« [سورة الزمر الآية 18]. إنهم الذين يعقلون ، فيوقنون، لأنهم يعملون عقولهم، ويستخدمون تفكيرهم في تأمل الآيات المشهودة، وتدبر الآيات المتلوة والمسموعة. إنهم الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى: »إنّ في السماوات والأرض لآيات للمومنين وفي خلقكم ومايبث من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ) [سورة الجاثية الآيات 3 5] وقال عنهم أيضا: «ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون» [سورة الروم الآية 24]، ذلك أن هذه الموجودات البديعة التي تملأ هذا الكون الرحب لم تخلق سدى، بل هي كتاب مفتوح مليء بالإشارات والأسرار والدلائل الموجّهة الى عقل الإنسان الواعي المفكر. هكذا حثّ القرآن الكريم الإنسان على التفكر الدائم، حتى يظل عقله أو قلبه حيا «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [سورة ق الآية 37]. فالقلب : هذه اللطيفة الربانية المدركة المميّزة العارفة، يصيبها العمى أحيانا إذا ضل صاحبها الطريق بالإعراض عن الحق أو بتعطيل الفكر السليم. وتستنير أحيانا بنور الحق فتبصر علائم الطريق ، وتلمح وعد الله الصادق من وراء حجاب الدنيا، لكن كيف تحيا هذه اللطيفة الربانية؟ سؤال نجد جوابه في هذا الإنكار القرآني لحال الكافرين الذين لم ينتفعوا بعقولهم كما ينبغي: «أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» [سورة الحج الآية 46]. فهم يبصرون بأعينهم الحسية آيات الله في الأنفس والآفاق، ولكن علتهم أنهم لا يبصرونها بقلوبهم لأنها عميت . كما دلت الآية على أن مكان القلب بهذا المعنى السامي هو الصدر. إن هذه الآيات يشهدها الشهود القلبي المتوسمون: «إن في ذلك لآيات للمتوسمين» [سورة الحجر الآية 75]. وهم المتذكرون المتأملون. رابعا: أسلوب التقريع والتبكيت والتوبيخ الذي يتضمن من ذم تعطيل النظر والعقل ما لا يخفى على من يحترم عقله. وذلك كقول الله تعالى في نهايات العديد من الآي: «أفلا تعقلون»، »أفلا تذكرون»، «أفلا تبصرون»، وكقوله تعالى: » أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟!) [سورة محمد الآية 24]. إن القرآن يخاطب كيان الإنسان كله: عقله ووجدانه، ويوجه ملكاته الفكرية إلى التأمل، ويقيم الحجة على الحقائق التي يبيّنها له، ويدعو الإنسان الى سلوك طرق البحث العلمي، ويحدد مبادئ المنهج الصحيح للوصول الى الحقيقة، ويحاور عقل الإنسان، مستعملا أساليب بلاغية متنوعة حسب المقامات الخطابية، وبما يراعي طبيعة النفس الإنسانية، ويأخذ بعين الاعتبار رواسب العادات والتقاليد الاجتماعية وما تقتضيه من طرائق مناسبة في سوق الخطاب القرآني حتى يكون مقنعا، ولا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل. وقد رأينا من الأساليب القرآنية في الحث على التفكير واستخدام العقل أربعة أنواع: التركيز على قصد التعقل، والإنكار والذم، ومدح أولي الألباب، والتقريع والتبكيت. وهذا كله يدل على مدى العناية الإلهية بتعليم الإنسان قيمة التفكير واستخدام العقل، حتى يدرك كبرى اليقينيات الكونية، فيسعد في الدنيا والآخرة. عبد الجليل محسن