إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أجارنا الله جميعا من عذاب النار. أما بعد أيها المؤمنون .. أيتها المؤمنات.. فالحمد لله رب العالمين على بعثة البشير النذير، والسراج المنير، الذي بعث فينا معلما للصغير والكبير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول ربنا عز وجل : (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب، ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )المائدة :16 وقال عز من قائل: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ،ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) البقرة وقال سبحانه أيضا في سياق المن على عباده المومنين :(لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) آل عمران :164 إن هذه الآيات البينات ترسم لنا الصورة المشرقة لنبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا النبي الذي بعثه الله نورا يهدي به العالمين، ويمحو به ضلالات الجاهلية ،ويزيح به ظلام الجهل ، إنه نور الإيمان الحق، والمعرفة الصحيحة :( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) فقد قال المفسرون بأن النور هنا في الآية هو محمدصلى الله عليه وسلم ، والكتاب المبين هو القرآن الكريم الذي (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ) ومعنى من اتبع رضوانه: أي ما رضيه الله لعباده، وسبل السلام :أي طرق السلامة من العذاب الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل عيب ونقص. وسبيل السلام الأوحد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ودعا إليه القرآن الكريم ،هو طريق الإسلام الذي رضيه الله لعباده دينا :( ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه ) ، كما تبين هذه الآيات أيضا دور النبي صلى الله عليه وسلم ووظيفته في حياتنا إنه المعلم أولا ثم المربي والقدوة ثانيا ، وهكذا جمع الإسلام، منذ أول يوم خرج فيه إلى الناس ، بين التعليم والتزكية (يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) ، والتزكية في القرآن الكريم هي التربية بمصطلحنا اليوم ،ومن ثم ففي نظر الإسلام لا قيمة لعلم لايثمر تربية وتزكية تصلح بها النفوس وتستقيم بها الحياة : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ) ، ولا قيمة لتربية لاتقوم على العلم لأنها حينئذ تكون جهدا ضائعا وسرابا لايروي عطشان :( والذين كفروا أعمالهم كسراب يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا). لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ويهدي ويربي في وسط أمة أمية كانت تغط في نوم عميق ، وتغرق في جهل سحيق ، فجاءصلى الله عليه وسلم وجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم وجعل خير الدنيا والآخرة في التفقه حيث قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وغيره :( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين )، وحث صلى الله عليه وسلم على أن يكون التعلم خالصا لوجه الله الكريم فقال صلى الله عليه وسلم :( لاتعلموا العلم لتماروا به السفهاء ، ولا لتباهوا به العلماء ، ولا لتحتازوا به المجالس ، فمن فعل ذلك فالنار النار ) رواه ابن ماجة ، وقال أيضا كما أخرج ذلك أبو داوود وابن ماجة وابن حبان والحاكم :( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لايتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا ، لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة ) أي لم يشم رائحة الجنة لأن طلب العلم عبادة ومن شرط قبول العبادة أن تكون خالصة لوجه الله الكريم. كما حذر من التهاون في العلم وتضييعه وإهماله ، واعتبر ذلك سببا من أسباب الفناء وزوال الدنيا وخرابها ، فقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه : لأحدثنكم حديثا لا يحدثكم أحد بعدي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل ، ويظهر الزنى) وفي رواية :(إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل، ويشرب الخمر ، ويظهر الزنى). أما كيفية ارتفاع العلم وذهابه فقد بينها الرسول الله صلى الله عليه وسلم بموت العلماء وذهاب حملة العلم الذين لا يجدون من يخلفهم في الأمة، حيث قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :(خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع) فقال أعرابي : كيف يرفع ؟ فقال: ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته ثلاث مرات. لذلك قال بعض العلماء: محو العلم من الصدور جائز في القدرة ، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه. ومن هنا تكون آفة ارتفاع العلم من مسؤولية الإنسان وليس أمرا قسريا وقدرا خارجا عن إرادة الإنسان كما قد يتصور البعض. وبين صلى الله عليه وسلم أن خير ما يكون فيه التنافس هو طلب العلم وإنفاقه في سبيل ، ففي الحديث المتفق على صحته :(لاحسد إلا في اثنتين :رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها و يعلمها ). ومعنى ذلك أن خير ما ينبغي أن يتنافس فيه الناس ويتسابقوا إليه هو: - إنفاق المال في سبيل الله في وجوه الخير التي يرضاها الله عز وجل (الجود والكرم) ، وفي ذلك محاربة لشح النفس (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) سورة الحشر:.9 - ثم تعلم الحكمة وتعليمها للناس ، والحكمة هنا هي القرآن الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم :(خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقال الله عز وجل (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) سورة النساء:.112 وأخيرا لابد من توضيح أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلم بالدين أشرف العلوم على الإطلاق ، لكن ذلك لا يعني أن باقي العلوم الأخرى مما يحتاج إليها الإنسان في حياته عديمة الفائدة، بل الصواب ما بينه علماء الإسلام حينما قسموا العلوم إلى قسمين: - قسم فرض عين: وهو ما به يعرف المسلم كيف يعبد ربه وهو واجب في حق الجميع، ويدخل فيه أحكام العقيدة والعبادات والآداب والأخلاق، أي ما يسمى المعلوم من الدين بالضرورة، وهذا القدر من أنكره فقد جحد الملة والدين ، ومن قصر فيه عصى الله ، ومن اجتهد فيه فهو طائع مجاهد في سبيل الله . - قسم فرض كفاية : وهي باقي العلوم الأخرى من طب وهندسة وفيزياء وفلك وجغرافيا وتاريخ وآداب بالخ ، وهذه إذا قام بها البعض سقطت عن الآخرين ، لكن إذا قصرت الأمة في واحد منها تعتبر كلها آثمة. اللهم اجعلنا على هدي سيدنا محمدصلى الله عليه وسلم في طلب العلم واحشرنا في زمرة سيد العلماء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وأحاديث سيد المرسلين والحمد لله رب العالمين. الخطبة الثانية: الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.. لقد كان من عناية السنة بالعلم أن قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى ثلاث طبقات بحسب طلبهم وتلقيهم للعلم أو إعراضهم عنه: فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) أخرجاه في الصحيحين. وقد فسر العلماء هذا الحديث بما يلي: فالطبقة الأولى: هم العلماء الربانيون ورثة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله عزوجل، وقد شبههم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأرض الطيبة التي زكت فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير فزكت في نفسها وزكا الناس بها، وهؤلاء جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة في الدعوة وفي مثلهم يقول الله عزو جل (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار) سورة ص: .54 وهذه الطبقة أيضا جمعت بين قوة الرواية والحفظ وقوة الدراية والفهم، حيث حفظت النصوص واستنبطت منها الأحكام بواسطة الفهم والتأويل كما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، ومن هذه الطبقة كان كبار علماء الإسلام كالأئمة الأربعة وغيرهم. أما الطبقة الثانية: فإنها جمعت النصوص وكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها منهم فاستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها ،وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبيصلى الله عليه وسلم (نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، ومن هذه الطبقة كان أغلب المحدثين الذين أكثروا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعرفوا بكثرة الآراء الفقهية والاجتهاد في أحكام الدين. وكلا الطبقتين المذكورتين مدحهما رسولالله صلى الله عليه وسلم واعتبرهما ممن انتفع بالهدي النبوي الذي جاء به صلى الله عليه وسلم حيث تفقهوا وعلموا وعلموا. والطبقة الثالثة: هذه هي طبقة الأشقياء الذين حرموا نعمة العلم والهداية فلم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأسا فلا هم في العير ولا في النفير. وقد روي عن علي رضي الله عنه قوله: إنما الناس ثلاثة نفر: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمل رعاع أتباع كل ناعق. اللهم اجعلنا من طبقة السعداء الذين شربوا من نعمة العلم وارتووا بها فصاروا عندك من أهل الحظوة والقربى ، ولا تجعلنا من الهمل الرعاع الذين لا يَفقهون ولا يُفَقِّهون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. إعداد الأستاذ: محمد بنينير