في هذه الحكمة المباركة يفتح الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه –بمقدار- روزنةً للتملّي بعظمة ودقة عالم الملكوت، فلا شيء البتة يتم عبثا، إذ وراء كل دقيق أو جليل، حِكمٌ ومقاصد أدركها من أدركها، وغفل عنها من غفل. لا يستثنى من ذلك ما يتبرعم في باطن الإنسان من مشاعر، وما يَرِد عليه من واردات، أو ما قد يعتريه من انفعالات، وكل ذلك مؤطر بقوله تعالى: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور" [سورة الملك، الآية: 2]. ففي هذه الحكمة دعوة جلية إلى اليقظة الشعورية في مجال التعامل مع الله ذي الجلال والإكرام، فاستيحاش المرء من الخلق وعدم وجدانه راحته بينهم، يبرز في هذه الحكمة باعتباره إشارة علوية، وموجة فضلية، وجب أن تمُْلحَ نحو رحاب القرب من الله جل وعز، إذ هذا الاستيحاش إيذان باجتبائه سبحانه، وإرادته تعالى أن يُدخِل العبدَ حضرة قُدْسِه وجنّة أُنسِه. ومن فُتح له باب الفضل، فعليه إِتْباع سبب الصَّقل، حتى يكون لدخوله أهلا، ويَغنَم في كِنّه وَصْلا. وقد كان أول اجتباء سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم لمقام ختم النبوة، بأن أوحشه تعالى من خلقه فأَتبع عليه الصلاة والسلام انفتاح باب الفضل، لزوم المثابرة على الصقل حتى أتى أمر الله، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ" [أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، ح3، 1/3]. وهو قول سيدنا موسى عليه السلام: "إني ذاهب اِلى ربي سيهدين" [سورة الصافات، الآية: 99]. وقد كان الاستيحاش من الخلق موضوع دعاء العارفين، ففي صلاة مولاي عبد السلام بن مشيش -رضي الله عنه- على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدعوة بالصلاة المشيشيية، يقول أجزل الله مثوبته: "وانصرني بك لك، وأيّدني بك لك، وصِلْ بيني وبينَك، وحُلْ بيني وبين غيرك". ومن شعر المربِّية رابعة العدوية قولها: ويا ليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب وذلك لما جرّبه هؤلاء العارفون من لذّة الأنس بالله سبحانه. قول الشيخ رضي الله عنه: "ومتى أطلق لسانك بالطلب، فاعلم أنه يريد أن يعطيك"، من باب الدعوة إلى اليقظة الشعورية نفسه، فإطلاق اللسان بالدعاء أمارة على أزوف العطاء، فعن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ؟، قَالَ: اللَّهُ أَكْثَر" [مسند أحمد بن حنبل، ح 10922]، فالعطاء مقارن في كل الحالات للإذن بالدعاء، فلولا فيض الإحسان، لما هدي الإنسان، ولا انطلق منه بالدعاء اللسان. قول الشيخ رحمه الله "والعارف لا يزول اضطراره" يريد به أجزل مثوبة، أن من عرف الله عز وجل وخالقيته، لا يعزب عنه ضعفه ومخلوقيته. ومن حصلت عنده اليقظة الشعورية في التعامل مع خالقه، علم أنه له وأنه إليه راجع "إنا لله وإنا إليه راجعون" [سورة البقرة، الآية: 156]، فوضع خَدَّّه على عتبة الاستمداد، ليستديم باطّراحه الإمداد، "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" [سورة البقرة، الآية: 157]. ومن عرف هذا وشهد من مولاه تجليات الإنعام، وفيوضات الإكرام، كيف يكون مع غيره قراره؟ والله المستعان الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء