ومع هذا فدولة البرازيل استحكمت فيها آليات الانتقال الديمقراطي على شاكلة دول أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن الماضي: البيرو (سنة 1980)، بوليفيا (سنة 1982)، الأرجنتين (سنة 1983)، الإكوادور (سنة 1984)، الأوروغواي (سنة 1984)، ثم البرازيل (سنة 1985)، وتشيلي (سنة 1989). وكل تجربة ديمقراطية في هذه البلدان لها خصائصها المميزة ولكنها متشابهة عموماً في المآلات السياسية؛ فهي كلها عرفت طريقها إلى الديمقراطية دون تدخل عسكري أجنبي، أو اقتتال داخلي مر، وهو المسلسل الذي يحيلنا إلى التجربة التي عرفتها أيضاً دول أوروبا الجنوبية بعد انهيار ديكتاتوريتي البرتغال واليونان (سنة 1974) وإسبانيا (سنة 1976). ومنذ عودة النظام البيروقراطي-السلطوي والانقلاب العسكري سنة 1965 في البرازيل، عرفت البلاد اختناقاً سياسياً إلى حدود سنة 1985 حيث بدأت مؤسسات الدولة في إحداث نقلة سياسية لا مثيل لها بلورها دستور البلاد سنة 1988 المطبق لحد الساعة (قارن معي هنا: الدستور لم يتوافق عليه في صيغته الأخيرة إلا بعد ثلاث سنوات من انهيار النظام السلطوي القديم)، وهو الدستور المؤسس لجمهورية فيدرالية مكونة من ست وعشرين ولاية، وبرلمان مكون من غرفتين؛ ومنذ ذلك الوقت والانتخابات الرئاسية وانتخابات الحاكمين تجرى باستمرار وعلى أسس ديمقراطية؛ ولكن هذا لا يعني أن الإرث السلطوي لم يترك أيضاً بصماته في دولة البرازيل الحديثة وخاصة فيما يتعلق بديمومة العوامل المورثة عن العبودية وعن تمركز المِلكية والمداخيل المرتفعة في أيدي أقلية من البرازيليين، والبون الشاسع بين الطبقات، والميكروسلطوية على حد تعبير الكاتب كييرمو أودونيل، بين تلك الطبقات، وداخل المجال السياسي وأجهزة البوليس المكلفة بمحاربة الجريمة والجريمة المنظمة. ويكفي الإشارة هنا إلى أنه بين سنتي 1985 و2003 ومن بين 1300 جريمة قتل، حوكم فقط 75 من أصحابها بما يوحي بوجود شبكة موازية غير ديمقراطية على رغم الديمقراطية البرازيلية الرسمية. ومع ذلك كله، فقد عرف اقتصاد البرازيل مع رياح الديمقراطية قفزة كبيرة، حيث أضحت دولة فلاحية بامتياز ودولة صناعية قوية جداً وذلك بالاستثمار في الموارد الطبيعية للبلاد وفي العامل البشري البرازيلي؛ ولكن ما لم تستطع الدولة البرازيلية القيام به على شاكلة التجارب الديمقراطية العتيدة كما هو الشأن في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية هو التوزيع الأمثل للثروات بين مختلف الشرائح المجتمعية، فنوعية النظام السياسي-الاقتصادي وتأثير الحقب السالفة لسنة 1985، جعلا البرازيل فيما يمكن أن يسمى على حد تعبير الكاتبة «أرونداتي روا» في حديثها عن المجتمع الهندي، في مواجهة أضخم آلة لصناعة الفقر، حيث تتكدس الأموال في قسمة ضيزى بين أناس أو طبقات معينة، مما جعل البرازيل من الدول الأكثر سوءاً من حيث عدالة التوزيع في دول أميركا اللاتينية... كما أن المجتمع المدني البرازيلي، على حد تعبير المنظر الكبير «ألفريد ستيبان» كان هو البطل في مواجهة الديكتاتورية العسكرية، وقد استطاع هذا المجتمع أن يحدث بلبلة سياسية تمخضت عن رجوع الديمقراطية إلى البلد والاندماج فيما بعد في التغيير السوسيو-اقتصادي. وهذه المظاهرات الحاشدة التي عرفتها البرازيل تدخل في هذا النسق السوسيو - سياسي العام الذي وصفته هنا: 1- الوجود الدائم لبعض أنواع السلطوية الموروثة عن حقبة ما قبل سنة 1985. 2- البون الشاسع بين الطبقات وبين الأغنياء والفقراء. 3- قوة ودور المجتمع المدني. وهي كلها مظاهر بإمكاننا أن نجدها مثلاً في مصر وتونس وليبيا وغيرها، وسنجدها لسنوات طويلة. وآخر الكلام: أن ال 15 مليار دولار التي خصصتها الحكومة البرازيلية لاستضافة كأس القارات وكأس العالم هو مبلغ ضخم جعل المجتمع المدني البرازيلي يخرج بعفوية إلى الشوارع (بعد أن أعلنت البرازيل أن اقتصادها سنة 2013 سجل نمواً ضعيفاً 0,6 في المئة في الربع الأول ووصلت نسبة التضخم إلى 6,5 في المئة في مايو الماضي). وهناك أمور قد يعتبرها نظام الحكم تافهة ولكنها مدخل إلى باب جهنم، وأعني بذلك وسائل النقل العمومية؛ فهي المحك الحقيقي الذي قد يجعل أي مجتمع يثور على منتخبيه... فالحافلات ووسائل النقل العمومية هي الشرايين الدموية في المجتمعات الديمقراطية الحديثة كما هو شأن المجتمعات التي خرجت من أنظمة سلطوية مستعصية... وهي تهم الطلبة والعمال والمستضعفين والطبقات المتوسطة.. فزيادة الأسعار فيها أو الدخول في إضرابات لا متناهية قد تنذر بأيام عجاف للسلطات كيفما كان نوعها... وهي المسألة التي أشعلت نار الغضب عند البرازيليين لتليها انتقادات عارمة ومطالبات أوسع شملت كل مناحي الحياة. إن التجربة البرازيلية مليئة بالدروس والعبر لدولنا العربية، وأولها أن تثبيت الديمقراطية مسألة صعبة وتتطلب جرأة وذكاء ودراية، ومنها أيضاً أن الإرث السلطوي إذا بقي فإنه يعطل عجلات النمو ولو بعد عقود من الممارسة. ومنها كذلك أن من الأولويات في مجتمعات ما بعد انهيار النظام السلطوي القضاء على تفاوت الطبقات الشديد، وضمان التوزيع العادل للثروات، وأخذ الحيطة والحذر في إدارة الشأن العام، وما يتعلق بالأسعار والمواد وبالأخص ما يتعلق منها بالموارد الأساسية ووسائل النقل العمومية. د. عبدالحق عزوزي