للمسائية العربية المجال السياسي العام هو ملك عمومي لا يمكن الاستحواذ عليه باسم مبدأ ما أو شعار رنان ولا يمكن تقسيمه أو تجزئته، ولذا كان الاحتكام إلى صناديق الاقتراع قاعدة سامية كشفت عن مردودية سياسية في أمصار عديدة وبلدان متعددة جعلتها تتبوأ درجات عالية في اقتصاد المعرفة والتنمية الدائمة، لأن المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية متداخلة فيما بينها... فالديمقراطية تمكن من المحاسبة والمساءلة، وتضع على كراسي المسؤولية رجالًا انتخبوا من الفئة الناخبة واضعة المعارضة في مجالها السياسي الخاص، ولكن داخل نفس المجال السياسي العام الوطني، لتمارس هي بنفسها دورها كمؤسسة تترصد بالحكومة الدوائر وتنتقدها بطريقة ديمقراطية وهادفة، وقد تصل إلى نفس كراسي المسؤولية في حال انتخابات أخرى أرادها الناخب بديلة عن سابقتها. ولكن المشكلة هنا: ماذا إذا لم تستبطن بعض الأحزاب فكرة الدولة، وفكرة المجال السياسي العام؟ وماذا إذا لم يستبطن الصغير والكبير في نسيجه الفكري والثقافي والنفسي الوعي الديمقراطي الصحيح والأدوات الديمقراطية الصحيحة؟ ستقع طامة كبرى ومصيبة عظيمة، لأن الأفراد سيظنون أنهم باسم الأدوات الديمقراطية قد وصلوا إلى الحكم وأنهم يمارسونه باسم المفهوم الصحيح للديمقراطية. ولذا لم يكن مستبعداً أن تفشل بعض التجارب الحالية في بعض الدول العربية وهي في مهدها. في مجال العلوم السياسية، يميز المتخصصون بين السياسي (polity): أي السلطة السياسية، حكومة الناخبين داخل المجال السياسي العام، مجموعة من الميكانزمات التي تبلور وحدة وديمومة الحقل الاجتماعي، ولعالم الاجتماع الأميركي تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) تعريف شامل لذلك: "كل شأن يعتبر سياسياً عندما يهتم بتنظيم وتعبئة الموارد الضرورية لإنجاز أهداف المجموعة البشرية". أما (politics) أي السياسة: فهي الحياة السياسية، حلبة الصراع التي يتبارز داخلها الفاعلون السياسيون ليس بالأيدي والشعارات الرنانة والسب والقذف والشعبوية الزائفة، ولكن بالبرامج السياسية لتصل بعض المجموعات الحزبية السياسية إلى سدة الحكم. أما policy أي سياسة: فهو الفعل السياسي، وخطة الطريقة الدالة على وجود السلطة السياسية، والتي تخلق مجموعة من القرارات والعمليات المحسوسة ذات الصبغة العامة أو القطاعية. هذه إجمالاً مجموعة المفاهيم التي يمكن إعطاؤها لكلمة السياسة وما زاد على ذلك أو نقص فهو بدعة سياسية ضالة ومضلة وزالة ومزلة. فكأن يظن الإنسان أن الانتخابات هي وسيلة للوصول إلى غايات استبدادية أو التأصيل لإيديولوجية أو مبادئ يكون المجال السياسي في غنى عنها أو معارضة لها فذلك مؤذن بفقدان الشرعية الديمقراطية. ويمكن هنا للحزب السياسي الفائز، والحاصل على النتيجة الأولى أن يسعد بثقة الناخبين الذين صوتوا له، وأن يسيّر الدولة باسم الشرعية الانتخابية التي حصل عليها، ويزود النظام السياسي بعوامل الحيوية والتقدم حيث يكون الولاء للوطن الأم وللنظام المدني (الانتخابات وحكم الشعب بالشعب) أما أن يعتبر الفائز في الانتخابات أن الدولة "غنيمة انتخابية"، فذلك نوع من الطامة الكبرى المنذرة بالاستبداد والسلطوية العاتية، وهذا الذي يمكن أن تتجه إليه مصر إذا لم يتدارك ذلك سريعاً. فاعتبار الدولة "غنيمة حربية" هو تغليط إيديولوجي للناخبين، الواعين أو الجاهلين لذلك، وإفساد للعملية السياسية وتزوير للتمثيل الاجتماعي، فيكون على الدولة ما بعد انهيار النظام السلطوي السائد أن تتحمل بذوراً جديدة لنموها غير الطبيعي يتغذى من حيث تتغذى السلطويات القديمة ولكن في صورة وأطر جديدة. واعتبار أن الدولة "غنيمة حربية" المتأصل عند بعض ممثلي الأحزاب خطر على السياسة ومستقبل البلدان وخاصة إذا لبست لباساً دينياً. ولا ننسى هنا أن جماعة "الإخوان المسلمين" وذراعها السياسية في مصر "حزب الحرية والعدالة" امتنعا عن وضع دستور قبل إجراء الانتخابات التشريعية عكس العديد من القوى الليبرالية والتقدمية والوطنية التي شددت على تشكيل لجنة لوضع مسودة الدستور في ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة ظانة أنها ستضمن نوعاً من التوازن والتوافق على ثوابت الدولة في ظل انتقال ديمقراطي صعب المسار... والدستور المصري سماه البعض بدستور الغلبة والآخر سماه بفتنة الدستور مع العلم أن الدستور يجب أن يكون هو القانون الأسمى للبلد، وهو عقد ضمني للاقتناع المشترك بين جميع الساكنة، وإلا إذا قدر الله وصوت عليه في مجتمعات لم يتسرب إليها بعد الواجب الانتخابي المواطني والوعي السياسي الصحيح فإنه سيبقى محطة للنزاع والشقاق وصداعاً للرأس لا ينتهي. فكيف يمكن بعد ذلك أن نتحدث عن القوانين التنظيمية والقوانين العادية وتسيير المؤسسات والدستور المصادق عليه محط نزاع دائم؟ إن الديمقراطية الحقيقية وعي وثقاقة وذكاء ودهاء، وفي الفترات الانتقالية لابد من الدبلوماسية السياسية ونكران الذات والاحتكام إلى المصلحة العليا للبلد ونسيان عوارض الأنانية وحب الذات الحزبية، والنظر ببصيرة إلى العواقب والتمعن في تجارب الآخرين والتبحر في أوليات المرحلة والابتعاد عن المزايدات وحتى داخل الأحزاب الإسلامية والحركات الدينية إذا لم يبعد الدين عن المجال السياسي العام، فإن كل فرقة ستدعي لنفسها احتكار الحق وتزعم أنها لوحدها على جادة الحق الديني وأن الأخرى زاغت عن الطريق المستقيم، وترميها باتباع الباطل الزهوق إلى أن تخرجها من الملة! وبهذا والعياذ بالله يُتشعب بالإسلام فرقاً وتصير ساحة الدين ساحة للسياسة، تباح فيها كل حرمة وتنتهك فيها كل قيمة وتزيف فيها كل المبادئ، وبالإمكان في هذا الجو السياسي الملوث أن تذوب قيم الإسلام السامية وتمحي مُثل القرآن السمحاء ويعود المسلمون القهقرى إلى أخلاقيات وسلوكيات خاطئة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. د. عبدالحق عزوزي