في معرض رسالته الجوابية على رسالة الشاعر المغربي صلاح بوسريف، و المنشورة بجريدة أخبار اليوم عدد 701 ليوم الأربعاء 14 مارس 2012، والمعنونة من باريس تاريخ 12 مارس 2012، تطرق الشاعر الكبير علي أحمد سعيد إلى ثمانية نقاط اختزل من خلالها موقفه و تصوره المقتدر للوضع العربي بعد التحولات التي شهدتها المنطقة، و لقد تبنت رسالة الأستاذ أدونيس مجموعة من الأفكار التي نتشاركها كنزعة إنسانية مفعمة بقيم الحرية و الديمقراطية. ومن ضمن هذه الأفكار، التي تمازجت فيها روح الشاعر بالمفكر، سنقتطف البعض منها لنجعلها كنه نظرتنا حول الحال السياسي في المغرب، و نقتبس بالأساس ضرورة الفصل بين الدين و الدولة كضرورة حضارية، ليس الدولة في منظورها المؤسساتي فقط, بل سياسة و ثقافة و اجتماعا، و أن أي محاولة تلبيس ما يسمى الثورات زيا دينيا ما هي إلا طريقة لمصادرة الثورة الأولى و الحقيقية و المتجسدة في الحراك الشبابي، إنها مصادرة قام بها حاملو الفكر الفاشستي الشبيه بالفاشية العسكرية، كما أن محاربة الفكر الاستئصالي للأنظمة العربية المستبدة المبني على القتل و التقتيل في عمقه مرتبط عضويا بالصراع الديني كما يشهد على ذلك التاريخ الانساني، و صحيح أيضا أن العمل الثوري الحقيقي لا يتجسد في تغيير السلطة, بل يتعدى ذلك لعمل ثوري يغير المجتمع مما يجعل قيمة التغيير ترادف معناه و ليس شكله، و هنا ضرورة إنتاج أو التوفر على مشروع ثوري يهيئ المستقبل و يضع له منهاجا، و على هذا الأساس يبرز دور المثقف الثوري و ليس المتدين الثوري لأن المثقف بطبيعته تقدمي و تحرري و غير مقيد بماضوية تعاكس الزمن الانساني، كما أن المطالبة بالعلمانية شرط من شروط المساواة و العدالة بعيدا عن الطائفية والاثنيات والعصبيات التي تجد لها سبيلا في مفهوم الدولة المدنية، كما أن تحرير المرأة من قيود الرجعية التراثية مسألة تحمل في عمقها تحديث المجتمع ثقافيا وإنسانيا. وبناء على هذا التصور الشمولي والشامل للإشكاليات المطروحة على منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط و عودة للمغرب البلاد الوحيدة في المنطقة التي احتكمت لمنطق الاصلاح, خلافا لمحيطها الذي اختار منطق التغيير (تغيير السلطة)، أمر مفاده أن المغرب أصبح “النموذج التجربة” الذي ستختبر من خلاله معادلة الثورة - الاصلاح في المنطقة، مما يجعل فهم و تشريح واقعنا مسألة ضرورية لمساءلة مستقبلنا كمغاربة. لقد عاش المغرب قرابة ثلاثمائة سنة في ظل الدولة التقليدية، وعناصر هذه الدولة تنبني على غياب المؤسسات بمفهومها الحديث, حيث تتجلى هذه الأخيرة في القبيلة و الطائفة و الدين و الزوايا، و غياب القانون الوضعي مقابل حضور الشرع و العرف، ولقد عرف بارسون (Talcott Parsons) السيوسيلوجي الأمريكي هذه المرحلة التقليدية من تاريخ الدول بكونها تمتاز بسيادة الطقوس و المقدس، و لا وجود للفصل بين السلط، إلا أن المغرب سوف يجتاز مرحلة الحماية التي امتدت 44 سنة من 1912 إلى 1956، مرحلة رغم عللها إلا أنها عرفت نشوء مؤسسات للدولة و توزيع للاختصاصات وكانت قريبة إلى حد ما من إرساء ثقافة الدولة بمفهومها الحديث، المتجاوز لثقافة المخزن المتجدرة في موروثنا الثقافي، إلا أن عهد الحماية لم يتمكن، و مع الأسف، رغم 44 سنة من جعل الطلاق بيننا و بين الدولة التقليدية حقيقة معاشة، و منذ الاستقلال دخل المغرب مرحلة أخرى بسلبياتها و إيجابيتها، مرحلة الصراع و تحديد طبيعة الدولة، و إن كان هذا النقاش هاما بخصوص رسم معالم الديمقراطية المغربية, إلا أنه استنزف 42 سنة من النضال و إراقة الدماء، و لم يمكن البلاد الاستفادة من إيجابيات عهد الحماية و أنتجت نخبا و حكومات وثقافة نواتها الأساسية ارتكزت حول توزيع الثروة وحجبت نظرتنا حول السؤال الحقيقي حول ماهية طبيعة الدولة. ومنذ 1998 وحكومة التوافق، حاول المغرب استدراك الوقت الضائع، وبناء اللبنات الأساسية للدولة الحديثة، وتمازجت المصالحة بالإصلاح وأصبح الإصلاح العنوان الكبير للمرحلة وما يليها، إلا أن الاصلاح في بداياته لم يمس الجانب السياسي بقدر ما تعلق بالإصلاح الاقتصادي و هنا تمكنت الدولة القديمة من الاستمرار واستعمال فاعليها الداخليين للوجود والتواجد على الصعيد الدولي، وكان ذلك على حساب بناء الدولة المغربية الحديثة. ومن مظاهر الدولة الحديثة كما أشار إليها عالم الاجتماع أليكس إينكلس (ALEX INKELES)، هي ظهور الفعل المقاولتي أي المنافسة والمرور من نظام المخزن إلى نظام الحكومة أي الديمقراطية وإمكانية الارتقاء الاجتماعي و المشاركة السياسية الواسعة، وانتشار المنطق العلمي على حساب الاعتقاد ألميتافيزيقي و يتبين من خلال هذه المعطيات أن مرحلة 1998 – 2011 لم تتمكن رغم كل المجهودات المبذولة من تجاوز رواسب المراحل السابقة, حيث ظلت نسبة المشاركة السياسية منخفضة وظل نظام المخزن حاضرا في غياب اختصاصات قوية للوزير الأول, كما أن الطبقات الاجتماعية لم تعرف تحولا عميقا، وظل الدين و التراث معتقد اجتماعيا ومعطى أنتربلوجيا يجب استحضاره في التحليل الاجتماعي. وإنه لمن المؤكد أن تجربة التوافق الاول بين النظام الحاكم وعناصر التغيير مرحلة سلكتها غالبية ألديمقراطيات و من ميزات هذه المرحلة والتي يتم وصفها بالانتقالية و يطلق عليها روستوي (Walt Whitman Rostow)، مرحلة الشروط الأولية للإقلاع, من ميزاتها أنها تصبو للإقلاع وإن كانت هذه المترادفات تبعث على الشأن الاقتصادي, فيمكن إحالتها على الجانب السياسي واعتبار سنة 2011 سنة بداية الإقلاع السياسي إن لم تفشل النخبة التقدمية في انتهاز الفرصة التاريخية. و على هذا الأساس نستحضر ثلاثة نقاط أساسية تبدو من وجهة نظرنا ملحة، وهي كالتالي: الديمقراطية: لقد أنتجت سنة 2011 دستورا مغربيا جديدا، وإن لم يشكل هذا الأخير إجماعا على صعيد التركيبة السياسية للبلاد, إلا أن طريقة التعامل معه تفرض المراقبة و المتابعة، فلا جدال أن تطبيقه يشترط احترام مواثيقه و قانونه, سواء على الصعيد الشكلي أو الضمني، إلا أن المناولة السياسية لدستور 2011 لا يجب أن تقتصر على نقاش دستوراني محض فقط، بل عليها أن ترتقي بالدستور الجديد من جانبه السلبي إلى الطموح الديمقراطي، فالبحث عن الديمقراطية مسألة تتشكل بشكل مستمر مادامت الملكية البرلمانية حق وهدف مشروع، إن الديمقراطية ليست صكا مكتوبا بالمداد بقدر ما أنها غاية ووسيلة مقرونتين بحركية تطويرية للإنسان وللمجتمع، نعم هناك من وافق على الدستور الجديد بقناعة, لكن هناك من وافق عليه لتقدمه ليس لإطلاقه، و هنا يبقى شرط الديمقراطية مرتكزا أساسيا لبناء الدولة الحديثة، لما توفره من تغيير مجتمعي و ليس تغييرا للسلطة. الحداثوية: إن المراحل الإنتقالية، عبر التاريخ السياسي للبشرية تفرض على الشعوب اختيارين مجتمعيين لا ثالث لهما، اختيار يتبنى جدلية عقلية مثالية واختيار يتبنى جدلية مادية واقعية، الأول تحتضنه القوى الدينية والمحافظة بينما تحتضن الاختيار الثاني القوى الحداثية و التقدمية، و تفرز التركيبة السياسية على شكل قطبية ثنائية, أما قطب الوسط فهو يبقى إفرازا مستقبليا للتجربة الديمقراطية و ليس عنصرا طبيعيا في البداية، وإن كان الاختيار الأول يستمد شرعيته من الموعظة والفكرة لفرضها كوعي ثبوتي على واقع الناس, فإن الاختيار الثاني ينبني على معايشة التناقضات الاجتماعية لبناء الوعي النسبي وكتابة التاريخ الجديد، من هنا يبدو التيار الحداثي التقدمي أكثر تقدما في ملامسة ومعالجة هموم المجتمع, لأن دياليكتيكه المادي ذو شرعية أرضية وليست سماوية، و هو الوحيد الكفيل بانتاج التجدد الفكري و عصرنة العقل بعيدا عن الروحانية الربانية والسلف الفاضل، إلا أن التيار الحداثي التقدمي عليه أن يجعل من الحداثة فعلا سياسيا ديناميا و ليس فعلا سياسويا لحظيا، أي جعل الحداثة مادة في الفكر وليست كل الفكر، لتطويره وتسييسه، وعليه ليست الحداثة أيديولوجية بالنسبة لهذا التيار, بل أيقونة في فكر «الحداثوية»، من أجل التقدم بأيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية من موجتها الأولى التي تعنى بانتقاد الإقتصاديوية إلى موجتها الثانية التي تعنى بالجانب الاجتماعي, ثم إلى موجة ثالثة تعنى بحقوق الإنسان (العلمانية، حرية الاعتقاد، مقاربة النوع، البيئة، والأحوال الشخصية... إلخ)، موجة ثالثة قد تقود إلى ما بعد الحداثة (LE POSTMODERNISME)، إلا أن هذه المهمة تفترض مشاركة المثقف و تسخير الفعل السياسي للثقافة و ليس للتنظيم بأشكاله، لأن هذا الأخير تجاوز في زمن الانفتاح المعرفي. قيادة سياسية مثقفة: إن بناء الوعي السياسي يجعل من انخراط المثقف في العملية السياسية ضرورة أكيدة في المرحلة الراهنة، إنخراط غير مرهون بالفكر فقط, بل بالقيادة و الزعامة، إن سؤال الديمقراطية والحداثوية لن يعالج من خلال فعل سياسي مقرون بالمقاربة التنظيمية المبنية على الاصطفاف والانضباط، فإن كانت هذه المقاربة طبيعية في السابق، بحكم أن أحزاب الصف الحداثي التقدمي كانت تستجمع قواها و تنظيمها بعد زمن الصراع و الهاجس الأمني المفروض من طرف الدولة المخزنية، إلا أن هذه المقاربة لا يجب أن تستمر لإنتاج الإنطوائية و الانغلاق، و هنا ضرورة تواجد قيادة سياسية داخل الصف الحداثي التقدمي التي تفصل العمل السياسي عن المنطق التنظيمي السائد، إن تغيير المجتمع نحو الحداثة يفرض ملامسة الواقع لإنتاج الوعي بخلاف المقاربة التنظيمية الضيقة التي تبقى محدودة بالنتائج الكمية وليست قيمية، أي محصورة في منطق الأجهزة والانتخابات، كما أن مسايرة الزمن السياسي و الثقافي تفسح المجال للمثقف اليوم للعب دور الريادة و أخذ المبادرة في الدفاع عن المشروع الحداثي التقدمي، إن السياسة أولا وقبل كل شيء إختيارات و توجهات وليست أجهزة و حسابات. إن المثقف السياسي قادر على محاصرة الفكر المحافظ و إنجاح عملية الإقلاع السياسي بخلاف التيقنقراطي التقني و رجل التنظيم المحدود البصيرة، إن التنظيم يخدم السياسة وليس العكس. في الختام، لا بد من الإشارة إلى أن محاصرة المحافظة و الرجعية، أولوية الأولويات لإنقاذ مشروع الدولة الحديثة، والرهان المطروح اليوم على الصف الحداثي التقدمي هو تجاوز الرتابة التنظيمية والارتقاء بالعمل السياسي نحو المشروع وليس نحو الآلة الحزبية، فالاستمرار في نفس ممارسات العشرية الأخيرة سيفقد أحزاب الصف الحداثي التقدمي الإمتداد المجتمعي و سيفقد المغرب فرصة الانتقال ألديمقراطي الثقافي . فإنجاح مفهوم المغرب كنموذج تجربة في المنطقة يفرض الحفاظ على المكتسبات و البحث عن الديمقراطية و ترسيخ ثقافة حداثية تفاعلية تفصل مع مفهوم المجايلة الجامدة، وهنا حاجة المغاربة لقيادة سياسية حداثية تقدمية مثقفة.