الحكومة تعفي استيراد الأبقار والأغنام من الضرائب والرسوم الجمركية    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    وفاة ضابطين في حادث تحطم طائرة تدريب بالقاعدة الجوية ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر        إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله        ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة.. آفاق التنظير وحدود التطبيق بين المجالين العربي الإسلامي والغربي
الحداثة لم تحدث بعدُ لأنها مستمرة الحدوث
نشر في المساء يوم 04 - 10 - 2010

يتناول ملف هذا الأسبوع مفهوم الحداثة بما أثارته من تقعيد وتنظير عبر التاريخ، وبما استأثرت به من اهتمام لدى المفكرين الغربيين وغيرهم. فقد ظل المفهوم يولد التعريف تلو الآخر،
حسب طبيعة الإيديولوجية والتكوين والانتماء لكل منظر أو مفكر. ولم يكن من الغريب أن يثير المفهوم كل هذا الزخم الفكري الذي أثاره لأنه أحد المفاهيم الكبرى في تاريخ الفكر العالمي. فالحداثة طرحت إشكالات وتفرعات، واختلف في تعريفها المفكرون، كما اختلف في اقتباسها مفكرو العالم العربي الإسلامي، الذين حاولوا أن يكيفوا المفهوم على مقاس واقعهم رغم التحديات المفاهيمية والتطبيقية التي واجهتهم وما تزال.
سنعرج في هذا الملف على مختلف التعريفات للحداثة ورهاناتها الاجتماعية والعلمية، كما سنتعرف على الكيفية التي نظّر بها مفكرون كبار للمفهوم من أمثال هابرماس وماكس فيبر... قبل أن نقلب بعض إسقاطاتها الإنسانية وعلاقتها بعدد من المفاهيم التي دارت وتدور في فلكها. ولن نغفل في هذا الكيفية التي تحدى بها المفهوم مفكرين عرب، من قبيل أركون والعروي، وما طرحته من إشكالات في عالم عربي إسلامي مازال مجالا يراوح مكانه بين التردد والإقبال المحتشم على المفاهيم الكبرى التي سبق إليها مفكرو الغرب، تنظيرا وتطبيقا.
يمثل كل ما كُتِب في مجال الفكر والفلسفة، إلى الآن تقريبا، فصلا من فصول مؤلَّف واحد يدور موضوعه حول مفهوم الحداثة (عبد الله العروي). فالحداثة بوثقة صُبّ فيها الفكر العقلاني بثوراته وقطائعه ليشكل، باستمرار، مفاهيمَ جديدةً تُغْني حرية الإنسان وتطوره (هابرماس). وهي ترجمة فكرية وأنطولوجية ونفسية ومادية للفكر العلمي النقدي التاريخاني، الذي يفتخر باكتسابه إحدى أهم الآليات الفكرية على الإطلاق، وهي آلية النقد العقلاني للذات الذي يعد الحلقةَ التي يدور في فلَكها مسلسل طويل من الهدم وإعادة البناء: بناء العلم، على أنقاض الميتافيزيقا، والديالكتيك، على أنقاض التاريخ اللاهوتي الغائي، والحرية، على أنقاض الاستلاب، والعلمانية، على أنقاض سلطة الإكليروس، والنسبية الافتراضية، على أنقاض الفكر الوثوقي، وبناء سلطة المنطق والعقلانية، على أنقاض الفكر الغيبي..
يتسم المفهوم بعدم الثبات والذي ينطوي -على حد تعبير محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي في كتابهما القيِّم حول الحداثة (دار توبقال للنشر)- على حركتي انفصال واحتواء للماضي، حيث إن الحداثة تقطع مع التراث والماضي، ولكن ليس لتبديله وإنما لاحتوائه وتلوينه وإدماجه في مخاضها المتجدد، ومن تم فالحداثة اتصال وانفصال، استمرار وقطيعة دائمان.
من أهم مقومات الحداثة النضال المستمر والمستميت من أجل تعريفها. ولأنها تحولية وارتقائية، فهي لا تحظى بتعريف ثابت وقارّ، إطلاقا. ولأنها نقدية، فإنها تستبطن في طياتها مكونات تجاوزها الذاتي، لتعيد هدم اليقينيات من حولها، من أجل بناء أخرى جديدة (مارتن هايدغر). وبالتالي فالحداثة ليست موضوعا كسائر المواضيع الفلسفية، وإنما هي فاعلية فكرية وإنسانية تدور حولها مجمل مواضيع الفلسفة.
إننا نصادف المفهوم كثيرا في العديد من النصوص والمشاريع الفكرية والمقاربات الفلسفية، وخصوصا تلك التي تُعنى بالتاريخ الفكري للإنسان وإشكاليات نمائه. وكثيرة هي المحاولات التي اختارت التّخصُّصَ في تعريف مفهوم الحداثة وتعداد مميزاتها الفكرية والسياسية والتاريخية وكذا الفنية التي تلعب دور محددات لها (داريوش شيغان -أنطون مقدسي). بل وأصبح من قبيل العادة المتكررة استثمار هذا المفهوم في الخُطَب والوعود السياسية التي تحاول الوفاء ببناء مجتمع حداثي. بل إن هناك أحزابا ومِللا سياسية تصنف نفسها، مفاخَرة، في مصفوفة التيارات الحداثية. حتى بلغ بالخطاب الرسمي للدولة في مؤسساتها المحافظة أنه استدمج هو أيضا المفهوم، بالرغم من أنه للحداثة أبعادا فكرية ثورية معارضة، ربما هي من أبرز مميزاتها الأصيلة (هشام شرابي).
ومن تم، جاء الإطناب السياسي ليزيد من تعقيد مهمة تحديد دقيق للمفهوم، في زمرة هذا الزخم في الاستعمال السياسي، وسقطنا ضحايا لاستلاب مفاهيمي منح الحداثة مجموعة من اليقينيات هي، أصلا، موضوع تمحيص ونقد حداثي (هنري لوفيبر).
وبالعودة إلى تعريف المفهوم، هل تعني الحداثة محصولا وحصادا للتقدم التقني والتكنولوجي؟ وبالتالي، يمكن مرادفتها بمفهوم التحديث التقني؟ وهل امتلاك التقنية والتحكم فيها يفضي حتميا إلى الحداثة؟
هل يمكن اعتبار الحداثة محصلة حتمية للعقلانية أم العكس؟ هل من سبيل لإفتاء وصفات الحداثة على المجتمعات التي لم تقطع المراحل التاريخية العقلانية التي قطعها الغرب؟ أم إن لكل صيرورة تاريخية حداثتَها الحصرية. ويبقى التحدي أساسا في استبطان آثار الحداثة داخل الإطار الفكري الحضاري لكل نسق (كما حاول حسن حنفي استبطانَه من مقومات حداثية داخل نسق الفكر الإسلامي)؟
أليست هناك صدمات أو ثورات حاسمة جعلت الفكر الإنساني يتطور موضوعيا إلى مراحل حداثية بفعل تحقق (سياسي ومؤسساتي) لثورات النقل والتجارة والتوسع الجغرافي والسرعة وما صاحب ذلك من توسع للمدارك العلمية والعقلية والحاجات السياسية للتحرر والمبادرة وتجميع الثروات المادية والفكرية..
ألم تكن للطباعة -كثورة تقنية- آثار معرفية جمة تولد عنها عصر الأنوار وتناقلت بفضله المعارف والسجالات، التي أصبحت أكثر ديمقراطية ومفتوحة ولم تعد تقتصر على المعرفة الأوليغارشية الشفهية لكبار السن الذين كانوا يملكون المعرفة بالشفاه والحكي؟
كل تلك العوامل الإنسانية دفعت بمفكرين حداثيين أفذاذ (مارتن هايدغر- كارل بوبر -ألان تورين -محمد أركون -عبد الله العروي وغيرهم...) إلى الإقرار جماعة (لكن كل حسب مدخله الإبستمولوجي للحداثة) بأن الفاعلية المجتمعية الثائرة والتواقة للتغيير الإيجابي والتحول والسرعة والامتلاك والتحكم والسلطة... كانت الفاعليات الإنسانية والسياسية التي أذكت فكرا حداثيا، حيث ستبقى دائما الثورة والجدة وحب الانطلاق وكسر الإطارات الفكرية والاقتصادية الدوغمائية هي السمات السيكولوجية الطاقية الأساسية والحاسمة المولدة للفكر الحداثي المبدع (كارل بوبر).
الحداثة عقلانية نقدية
لا بد من معالجة مفهوم الحداثة من حيث هي نمط في الفكر أولا، قبل أن تكون سبيلا ونمطا في الحياة، أي الحديث عن الإطار الفكري للحداثة، قبل الوصول إلى تمظهراتها، كمشروع سياسي، أي الجانب العقلاني في الحداثة، وهو الجانب الذي يغفله السياسيون، وهو الاستعمال الذرائعي والبراغماتي الضيق للحداثة الذي جعل الماركسية تتحول -جراء هذا التكثيف السياسي لها- إلى مشروع إيديولوجي «انقلابي»، دون التمحيص في جانبها العقلاني النافع (عبد الله العروي وحديثه عن ماركس النافع). وقد تحولت الفيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر) والبوبرية (نسبة إلى كارل بوبر) من الناحية السياسية، إلى أرثدوكسيات غربية مفرطة في التمركز العقلاني الغربي.
وتم التحامل على الفرويدية (نسبة إلى سيغموند فرويد)، بدعوى أنها تأصيل لميتافيزيقا جديدة مبنية على مملكة اللاشعور وتقزيم أدوار الوعي في النتاج المعرفي الإنساني، بل وتم الادعاء بأن الحداثيين في العالم العربي الإسلامي هم دعويون صليبيون يستهدفون ضرب صروح الحضارة الإسلامية!
يفترض الإلمام بمفهوم الحداثة التطرق أولا لمميزات عقل الحداثة أو العقل الحداثي من حيث إوالياته وأكسيوماته وثوابته (من دون أن تكون تلك الثوابت جامدة)، وهو العقل الذي جعل الإنسان الحداثي يعيد تصور العالم وإعادة تمثُّله فكريا وثقافيا. ويؤكد إيرنست رينان أن التمثل العقلاني للذات ربما هو أهم ميكانيزم عقلاني طرأ -بشكل بنيوي- مع الحداثة الليبرالية للقرنين ال17 وال18، وهو تمكن الإنسان الحداثي من صياغة تصور ثقافي وأخلاقي عن الذات تاريخيا، وهي القدرة العقلية التي سمحت لمفكري «عصر الأنوار»، وربما لأول مرة في التاريخ الفكري، بإطلاق لقب عقلي على نمط تفكيرهم. ولا عجب في أن «عصر الأنوار» هو أول حقبة لها اسم ولقب فكري (ميشيل فوكو)..
ولا عجب، أيضا، في أن العقلانية العلمية الرياضية الاستدلالية التي طبعت الفكر الإنساني منذ القرن ال18 تمت مأسستُها، اقتصاديا وإداريا، لإذكاء الطاقة الإنتاجية المفضية إلى التحكم في الطبيعة (ماكس فيبر). ومن تم، لا مجال، بعد القرن ال18 والثورة الصناعية، للحديث عن العقل في ذاته وإنما عن العقل في بنياته ووظائفه.
فقبل «الكانطية» (نسبة إلى إيمانويل كانط)، كانت المهمة الفلسفية العقلانية الأولى هي تصفية العقل من شوائب اللاهوت ودوغمائيته وغائيته، من دون التخلص نهائيا من براثن الميتافيزيقا (حيث بدا كانط توفيقيا حتى في انتقاده العقل الخالص). لكن العقلانية ستتحول، بفعل المد التجريبي والذرائعي الذي طبع تشكيل الطبقة البورجوازية (العاملة في التجارة والمبادلات المالية)، إلى عقل تجريبي قوته الطفرة التقنية ليبتعد عن الماهيات المطلقة ويركز على الكيفيات المتحولة. ولا يمكن فصل العقل آنذاك عن امتداداته العلمية والتكنولوجية والرياضية الاستدلالية، وهو ما قاد إلى «الاستهزاء»، تقريبا، من المقولات الديكارتية حول ماهية الوجود (بالرغم مما شكله ديكارت من ثورة عقلانية حداثية آنذاك). حيث إن المجهود الاستدلالي لم يعد يعنى ويهتم بكيفية الاستدلال على الوجود وإنما يهتم، أساسا، بكيفية تحسين هذا الوجود. فليس الدافع هو تبيان هل نحن موجودون أم لا (كما أرادت «الكوجيطو» الديكارتية فعله)، وإنما لماذا نحن موجودون؟ وكيف نتحول من وجود إلى وجود أحسن؟ (منطلقات بيركلي ودافيد هيوم).
الدرس المعرفي الأول من تناول تطور العقل الحداثي هو الوصول إلى أن لكل حقبة إطارَها الحداثي الأصيل، وفق ما تكتنزه تلك الحقبة من مقومات مادية وتاريخية وسياسية، والدرس الثاني هو تميُّز الحداثة بالتطور وبالقطيعة المستمرين مع المراحل المتجاوزة. لكن القطيعة الحداثية (عقلانيا، حسب بوبر، وتاريخيا، حسب بروديل والعروي) ربما تستثمر أغلب مجهودها في إعادة إنتاج المراحل السابقة ونقدها والإقناع الفكري والمنطقي بتجاوزها أكثر من مجهود إنتاج القوالب الجديدة الجاهزة، لأن القطيعة لا تعني -ميكانيكيا- تغييرَ مرحلة سابقة بلاحقة، وإنما هي مخاض (فيه مد وجزر) وإعادة قراءة لتاريخ الأفكار، حيث إن كل مشروع فكري حداثي يكون تاريخانيا (عبد الله العروي).
نمط في التسيير السياسي للمعيش
عندما نتحدث عن الحداثة سياسيا، فإننا نقصد الإنسان، أولا، ونقصد نمط تسيير حياته، ثانيا، باعتبار السياسة نمطا لتنظيم المعيش والمصالح الفردية والعامة (وهو ما يسمى الشأن العام والمرافق والمؤسسات العمومية).
وربما هذا الجانب في الحداثة هو الذي يحظى كثيرا بالتعميم الثقافي، ولا عجب في أنه هو الجانب الذي يولد الاهتمام ويكون مصدرا لفهم وسوء فهم الحداثة ولاستثمارها وسوء استثمارها، سياسيا.
فإلى جانب المجهود الفكري لتحرير العقل من الثوابت ومن أساطير الأطر المعرفية الجاهزة، مع تحدي الحفاظ على النظم العقلية المنتظمة والتراكمية (كارل بوبر)، احتاج الإنسان الغربي خلال القرن ال18 وما تلاه إلى تنظيم معيشه اليومي، وهو المعيش الذي تحول، شيئا فشيئا، إلى انعكاس مادي للعقلانية (هيغل)، حيث أصبحت القوانين المنظمة للحياة وضعية غير مشخصة عامة ومنطقية لها مبررات نفعية تضمن المصالح الفضلى للأغلبية. وقد ساعدت المكننة والانضباط الرياضي للتكنولوجيا في تحوير الحياة من النمط الزراعي الملتصق بمتغيرات الطبيعية، المرتبطة بمتغيرات الفيودالية إلى نمط صناعي تكنولوجي قلَّص من قيمة المكان الكوسمولوجية إلى زمن إنتاجي بفعل السرعة (جراء المنافسة المركنتيلية) أولا وبفعل تطور تقنيات الاتصال ثانيا.
ولا بد للنمط الصناعي الرياضي أن يؤثر -حداثيا- على السياسة، حيث الديمقراطية (لا سلطة لفرد على جماعة) والعلمانية (فصل تسيير المعيش عن اللاهوت والغائية والقدرية الدينية) يعتبران أهم المكاسب السياسية للحداثة الليبرالية التي ما زلنا نستشفُّ، إلى حد اليوم، ثمراتها السياسية.
وكيف أن الحداثة السياسية لم ترق بالمبادئ الأخلاقية، مما جعل القرن ال19 والقرن الذي يليه من أشد القرون فتكا وعنفا، بالرغم من توفر جهود أخلاقية وفكرية لم يسبق للإنسان أن بلْورها عقلانيا من قبل، وهو السؤال الذي يكرر نفسه ويتعلق بأسباب تنافر الفلسفي والسياسي في الصيرورة الحداثية!...
نحن والحداثة..
تُذكِّرنا اجتهادات مفكرين عرب، كلطفي السيد وطه حسين وأحمد أمين وزكي نجيب محمود (التيار الحداثي الليبرالي في الفكر العربي) وإسهامات الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد ومحمد النويهي ومحمود محمد طه (رواد ما يسمى الحداثة العربية الدينية)، وأعمال ونضالات البستاني والكواكبي ونجيب عازوري والزهراوي وشكيب أرسلان (الحداثيون القوميون) إضافة إلى أعمال عبد الله العروي وعابد الجابري والخطيبي ومحمد أركون (أصالة عن ابن رشد وابن خلدون)، باعتبارهم الحداثيين العقلانيين العرب... تُذكّرنا كل هذه الأعمال بالمجهود الفكري -خلال النهضة وما بعدها- الذي بذله المفكرون العرب في فهم الحداثة واستدماجها كآلية لتفسير التاريخ العربي والذات العربية في مقوماتها وإكراهات إقلاعها، وهو مسار تفكير طبعتْه سمة إيبستمولوجية مشترَكة، ألا وهي الهاجس التوفيقي بين مكتسبات الحاضر ومقومات التراث (سواء أكان تراثا عقائديا أو فلسفيا)، باستثناء مشروع محمد أركون وعبد الله العروي، وهما مشروعان فكريان راهنا، فلسفيا وسياسيا، على آلية التجدد التاريخي كمقوم أصيل في الحداثة وكذا على الانضباط لمقومات حداثية واحدة ومشترَكة (في كل الأنساق) وهي مقومات تاريخية، كالفردانية والعقلانية والحرية والديمقراطية والعلمية والعلمانية. ولا مجال للحديث عن تبلور واقع حداثي من دون اكتمال نصاب هذه المقومات. ولا عجب في أن المفكرَيْن هما مؤرخان محترفان، خريجا المشروع العلمي ل«السوربون»، متشبِّعان حتى النخاع ب«فلسفة الأنوار» ومساهمان بارعان في حفريات التاريخ الفكري للمجتمع العربي والإسلامي (العقائدي عند أركون والسياسي عند العروي).
وكم سيكون مفيدا بالنسبة إلينا الاقتراب أكثر من أهم مميزات هذين المشروعين وأثرهما العميق في فهم واقع الحداثة في العالم العربي. كما سيكون مفيدا هذا الدرس الفلسفي الذي يعطيه لنا العروي وأركون في فهم العقل العربي ومحدوديته وأسباب نكوصه، وهما المهتمان -بشكل ملتزم- بالعقل والممارسة السياسية والتاريخية لهذا العقل، وهو ما حذا بأركون -وكثيرون حذَوا حذوَه- إلى اعتبار الإسلام لم يعد يعيش اليوم مرحلة الحداثة التي كان يعيشها بامتياز في فترات نشوئه التاريخي الأولي عندما كان يشكِّل ثورة فكرية وأنطولوجية في بدايات القرن السابع الميلادي.
العروي، أيضا، من أشرس مناهضي الرؤية اللاهوتية للتاريخ، وخصوصا التاريخ العربي والإسلامي. فالتاريخانية في مشروعه نسق إبستمولوجي يرفض ما يسمى «لاهوت التاريخ»، لأنه يفسر كل شيء بالمطلق، ومن تم فعملية فهم التاريخ (وهو مسار الحداثة وينبوعها) مرتبط، شئنا أو أبينا، بقدْر كبير من العلمانية.
واختيار فكر الرجلين ليس اعتباطيا وإنما يرتكز على كونه تنويريا بامتياز، فيه امتدادات فلسفية وسياسية تاريخية تعتمد على مبدأ ثبوت قوانين التطور التاريخي (حيث لا مجال لخلود نموذج في النظرة إلى العالم والحياة)، ومبدأ وحدة اتجاه التاريخ (حيث لا مجال للعودة وكل عودة قسرية هي تشويه للأصول)، ومبدأ إمكانية الرؤية الثقافية العقلانية للتاريخ (التحليل التاريخي التطوري للثقافة والحضارة والقيم)، مع تركيزهما (العروي وأركون) على إيجابية دور المثقف الليبرالي (وهو «المثقف الملتزم»، حسب بيير بورديو، الذي لا يكف عن العمل في مشاريع التغيير الحداثية).
سيساعد تطرُّقُنا لمشروعين مثمرين، كمشروع أركون والعروي، الملف في الجواب عن أسئلة كانت دائما تطرح نفسها على الليبراليين والقوميين والسلفيين العرب وهي: لماذا نختلف عن الغرب الحداثي؟ هل هناك سبيل للمحاكاة أم إننا حداثيون بشكل مختلف؟ ما العوائق الفكرية والسياسية التي تجعلنا -كعرب- تائهين في دوامة الحداثة، نقبل مظاهرها التقنية التحديثية ونرفض جوهرها الفكري والعقلي؟...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.