طرحت منذ بداية القرن الماضي والى الآن مجموعة من الأسئلة التي تقدم بها العديد من الكتاب والمفكرين العرب وغيرهم ، تخص واقع التنمية في البلاد العربية ، والوسائل التي يتعين إتباعها للخروج من التخلف والاجترار والتبعية ، واللحاق بركب الدول التي حققت إنجازات جعلت المسافة بيننا وبينها تزداد اتساعا وبعدا ، حتى غدا السؤال الرئيسي في كل وقت وحين ، لايخرج عن التشكيك في محدودية مجال العقل العربي ، وعقم تفكيره. وإذا كان العقل هو منتج الأفكار والإبداعات ، فان العلاقة بين العقل وبين الفكر لا تخرج عن نطاق مستوى حركية العقل ومستوى الأفكار التي قد ينتجها . فكلما كان العقل متطورا متحركا ، كلما كان مبدعا منتجا ومطورا للأفكار بما يخدم الإنسانية في جميع الأزمنة والعصور . وكلما كان العقل جامدا بائرا ،كلما كانت الأفكار المنتجة متصفة بالعقم في إحداث التجديد المطلوب الذي تقتضيه مقتضيات الظرف . لذا فان العجز والاجترار الذي يوجد عليهما العالم العربي ، رغم الإمكانيات الهائلة التي يتوفر عليها ، يردها اغلب المفكرين الغربيين إلى جمود العقل العربي ، ومحدودية الأفكار التي ينتجها في مجال الإبداع ، والتي لا تتعدى مجال النقل والترديد . هنا فان المقصود عند الغربيين ليس العرب كجنس ، بل موروثهم الثقافي الذي يردونه بالدرجة أولى إلى الإسلام . الملاحظ انه منذ مرحلة النظام الكلونيالي ، مرورا بمرحلة الدولة النيوكلونيالية ، إلى الدولة التكنوكلونيالية ،تعددت المشارب والاتجاهات ، وتعددت النظريات والإجتهادات بخصوص تحديد مكامن الأزمة ونقط الضعف والتأخر والاجترار بالنسبة للآخر الذي استعمرنا ونهب ثرواتنا واستعملنا كعبيد ،ووظف العصرنة في تفكيك كياناتنا البالية ، إلى كيانات تربعت على راس هرمها مجموعة من الزمر والعشائر ، والطفيليات التي تعيش غريبة عن أوطانها ، ولاتزال تجتر مخلفات العهود البائدة الاستعمارية ، وغير مبالية بما يجري من حولها ،همها هو إشباع نزواتها الحيوانية والإرتماء التام في أحضان المشاريع التغريبية التي لا ترى في الوطن العربي ، سوى تلك البقرة الحلوب ، وذاك البرميل من البارود القابل الانفجار في كل وقت وحين ، من طرف عصابات متزمتة تعمل جاهدة على تعميق الهوة الثقافية والحضارية ، مع الآخر باسم التغريب والجاهلية والشيطان الأكبر من الأصغر ، المصدر لكل مشاكلنا وهمومنا وبلائاتنا ..وأيا كانت الحجج والتبريرات المقدمة من طرف المنظرين الغربيين العنصريين ، وأيا كانت الحجج التي يقدمها الاتجاه التغريبي الذي يتجاوز مطالب الدولة العصرية الضرورية ، إلى مطالب ( التغريب الأعمى والحداثية ) المراد منها بلوغ وتحقيق مشاريع خطيرة لاتناسب الأصل كما لاتناسب التطور . وأيا كانت حجج الاتجاهات الماضوية التي ترى الخلاص في التقوقع والانكماش ، باسم الحفاظ على الدات والأصول والسلف الصالح ، حيث في كل اتجاه من الاتجاهات يستشف التطرف ،،،فان اصل الصراع وكما يقوده ويفهمه فلاسفة الغرب وساساتهم بمختلف اتجاهاتهم السياسية ، يبقى صراعا حضاريا بامتياز ، شئنا أم أبينا . انه صراع حضارة وهوية وتاريخ وثقافة . صراع هكذا كان في الماضي ، صراع هكذا يجري اليوم، صراع سيبقى هكذا في المستقبل طالما أن الآخر يقود هجومه الذي يرى في ضعفنا وتشتتنا ، فرصته المناسبة . فعلى ضوء هذا الوضع الشاذ الذي يوجد عليه العالم العربي ، اهتم العديد من المفكرين العرب والمفكرين الغربيين ، بإشكالية مستقبل العالم العربي ، التي من أهمها تحديد أسباب تعتر التنمية وانتشار التخلف ، الفقر، المرض، الجوع ،الظلم إضافة إلى الاستبداد السياسي وما يرافق ذلك من جميع مظاهر تحلل الدولة العربية الاستبدادية والمجتمع.. وكأن العقل العربي لايبرع إلا في إنتاج الاستبداد وبناء الدولة القامعة، التي أضحت مسخرة يضرب بها المثل عند الآخر الذي لا يتوانى عند الحاجة في تحريك ملفات الديمقراطية قصد الضغط عليها ، لتمرير صفقات سياسية على حساب المصالح القومية والوطنية لكل دولة عربية. إن ما يؤسف له أن نفس الأسئلة التي طرحت عند بداية القرن الماضي ،لا تزال نفسها تطرح في بداية الألفية الثالثة ، أي أننا لا نزال في مفترق الطرق ،نتلمس طريق الخلاص، في الوقت الذي قطع فيه الآخر أشواطا يستحيل ويستحيل في ظل المعتقدات والممارسات السائدة ، أن نلحق به ، أو حتى الاقتراب منه..ويجب الإشارة في هذا الباب أن جميع التحليلات والنظريات التي حاولت إيجاد الإجابة الملحة عن السؤال الهم ، كانت تنطلق في علاجها للازمة من زوايا سياسية وإيديولوجية وفلسفية تعكس بؤس الفلسفة ، وبؤس الفكر الذي حدد أو حاول أن يحدد مستقبل التنمية في البلاد العربية . هناك من ركز في إجتهاده على المرجعية الماضوية لإبراز الخلاف مع الآخر ، ولدحض برامجه المخدومة والجاهزة ، وعوض أن يقترح هذا الاتجاه البديل العام ، يقفز على الأهم ، ليحبس نفسه في دغدغة المشاعر والحواس ومخاطبة العواطف . ومن ثم يبقى الخطاب نرجسيا ليس إلا. وبخلاف هذا الاتجاه الماضوي الغارق حتى النخاع في الرجعية ، حاول اتجاه آخر التركيز في تحليلاته على التحديث أو العصرنة السائدين في الغرب ، قافزين أو متناسين الخصوصية والبيئه والتاريخ والموروث الايديولوجي ، وكأن تحقيق التقدم يتوقف فقط على وصفات جاهزة ، حتى إذا ما تحققت ،أصبحنا بدورنا في نفس درجات التقدم التي حققها من سبقونا إلى المدنية وليس إلى الحضارة ، وحسب هذا التيار من السهولة أن نصبح أروبيين ، بالاندماج الكامل ،إذا تخلينا عن قيمنا ومعتقداتنا ، أي إذا قطعنا مع موروثنا الإيديولوجي المغلف بالإسلام ، وبكل ما يشدد على الخصوصية.إن هذا الاتجاه يرى في الديمقراطية الغربية، المخرج الوحيد لجميع المشاكل التي لانزال نجترها ، لذا لاغرابة أن يجسد الخلاص في تبني القيم الغربية بكل سلبياتها وليس إيجابياتها . الاتجاه الثالث إضافة إلى الاتجاهين الماضوي والتغريبي ، هو الاتجاه الذي يختصر الاختلاف بيننا وبين الغرب ، في الحصول واستخدام التنقية ، المجردة من أي مدلول أيديولوجي ، أي التركيز على التصنيع رغم دخول هذا الحقل في طور أزمة التنافس بين الصناعات الغربية فيما بينها ،وبينها وبين النمور الآسيوية و العملاق الصيني الذي يسير بخطى حثيثة نحو السيطرة على العالم اقتصاديا وتكنولوجيا .وكيفما كان الحال فان هذه الاتجاهات طرحت نفسها كبديل ناجع عن جميع المشاريع العامة التي جربت ، فادت إلى الفشل والأزمة. إنها بذلك وفي نظر أصحابها تمثل الحل الأنجع والخلاص اللذان يجعلان العالم العربي يلتحق بمصاف الدول المتقدمة بامتلاكه ناصية العلوم والإبداع البناء في جميع المجالات الإنسانية . وقبل التطرق إلى هذه الاتجاهات أو التيارات الثلاث ، يتعين طرح السؤال التالي : أليس هذه الاتجاهات التي يمكن أن نسميها تجاوزا مدارس ، تعبر عن إيديولوجية معينة ، خلال حقبة معينة؟ إن الجواب سنجده إذا استبعدنا في التحليل المنهاج التجريبي السادج ، واستبعدنا المنهاج الموضوعي الخارجي . لماذا ؟ لان الأول يدفع بصاحبه إلى الغوص في الثقافة من اجل الثقافة وهاملا الأبعاد التاريخية ، ولان الثاني بخلاف الأول يترك مطبقه خارج الثقافة ، يصف ويحلل ويصنف الأعمال وكأنها أشياء آتية من عالم خارجي لا مرئي وبدون أن يحدد سلم القيم المعتمدة في التصنيف. لذا يبقى منهج الوعي النقدي الذي يعتمد على التنظير ، أي على إدخال المستقبل ضمن حياتنا اليومية ، وبتوظيف التحليل العلمي ، أنجع طريقة لكشف أسباب وجذور الأزمة التي يعاني منها العقل العربي الجامد وتفكيره العقيم. إن النماذج الثلاث التي حاولت الإجابة عن السؤال : ما هو المظهر الذي يبدو من خلاله الاتصال بين ثقافتين مختلفتين ؟ وهل تتحدد ثقافة ما بصورة مباشرة بقاعدتها المادية؟ وهل تتحدد الإيديولوجيا فقط بالمجتمع الذي تفعل فيه وبالطبقة التي تستعملها؟. إن الجواب سنجده عند هذه المدارس أوالإتجاهات الثلاث التي حاولت رصد مكامن الضعف والقصور في الفكر العربي ، وحاولت إيجاد الإجابة الملحة لسؤال الأزمة، التي تحولت بدورها ، أي الإجابة ، إلى أزمة . - الاتجاه الأول يحصر اصل التخلف والاجترار والأزمة في الإيمان بالدين . – الاتجاه الثاني حاول معالجة الأزمة بالتركيز على التغريب على الطريقة الغربية . – الاتجاه الثالث مثله دعاة التقنية ، الذين كان من روادهم سلامة موسى في شرق الوطن العربي ، والمهدي بن بركة في غربه. 1 –الاتجاه الماضوي : يتمثل هذا الاتجاه في رجل الدين الذي يحافظ على التعارض بين الشرق وبين الغرب ، وبين المسيحية والإسلام. لكنه في نفس الوقت يفكر فيما جعل الغرب قويا ، ويرجع ذلك إلى حقيقة تخلينا عن الدين ، وفي نفس الوقت اعتبار قوة الغرب ناشئة عن العقل والحرية . لذا فان رجل الدين حاول التوفيق بين الإسلام والفكر الحديث الذي حاول مسايرته رغما عنه .لقد برز رجل الدين في حقبة الدولة الكلونيالية ، على اعتبار أن هذه الدولة كانت تقوم على ما يسمى بالخاصة أو الفئة الأرستقراطية الراكدة والعلماء . لهذا نجد رجل الدين يضطلع بمهمة الدفاع والرد على الغرب المسيحي . 2 – الاتجاه التغريبي : يتمثل هذا الاتجاه في السياسي اللبيرالي ،أو رجل ألسياسة الذي برز في مرحلة الدولة النيوكلونيالية الليبرالية . فبعد معرفة أكثر بالغرب المسيحي وبتاريخه ، تبين له ان العقل موجود عمليا فقط في أروبة ، وأصوله تبلورت عند فلاسفة القرن 18 والقرن19 ، ومن ثم اهتم السياسي الليبرالي بمفكرين أمثال " روسو " ، " مونتسيكيو " ، لأنه وجد في كتاباتهما نقدا لقضايا وظواهر يعيشها في بلاده مثل الطغيان ، الاستبداد والظلم والعبودية ...الخ.إن هذا الاتجاه أصبح رائجا خلال الدولة المستقلة أو النيوكلونيالية ، ويقدم نموذجا له احمد لطفي السيد الذي تشبع بالليبرالية من خلال إيمانه بالعلم والتقدم والتركيز على ضرورة تقليص رقابة الدولة في المجتمع. 3 – الاتجاه الثالث ويمثله دعاة التقنية : إن هذا الاتجاه يرى أن رجل الدين اخفق ، مثلما اخفق السياسي الليبرالي في تحقيق أسباب القوة للمجتمع . ففي نظر رجل التقنية ، إن الغرب لايتحدد بالدين الخالي من الخرافات والشعوذة ، ولا بالدولة الخالية من الاستبداد والطغيان ، لكن يتحدد بالقوة المادية التي افرزها من خلال العمل وتطبيق العلم . ان هذا النموذج برز فيما يسميه رجل التقنية بالدولة الوطنية التي تهتم بالنتائج ، مفصولة عن المناهج والطرائق . فكانت بذلك تشخص نوعا من الماركسية الموضوعية . إن اكبر دليل يمكن إثارته في هذا الباب هناك نمودج سلامة موسى الذي كان يدافع عن الصناعة والتصنيع والعلم لأنهم وسائل علمية لتحقيق التغيير . لقد مثل هذا الاتجاه في غرب الوطن العربي المهدي بن بركة، وقد بلغ قمته في الحكومة التي ترأسها الأستاذ عبد الله إبراهيم رحمه الله في بداية الستينات . لقد اعتبر ذاك المشروع في حينه خطرا على الوضع القائم مما عجل بنهاية تلك التجربة الفريدة في التاريخ . تمثل هذه النماذج الثلاث مراحل معينة من الوعي العربي الشقي المأزوم الذي سعى منذ نهاية القرن 19 وطيلة القرن العشرين إلى استيعاب ذاته ، وفهم الغرب الليبرالي من خلال صورة تجديدية في أشكال تعبيرية متباينة تشمل الكتب ، الكتابات، المقالات الصحافية والسياسية ، ثم الخطب والأدب والمسرح..الخ. لكن لكي تستقيم هذه النمدجة لابد أن نعتبر أنها وجدت من خلال تعاقب زمني بغض النظر عن تداخلها وتقاربها . ولابد أن نعتبر أيضا عند تتبعنا لهذه النماذج ، أن جميع الاقطار العربية تشكل وحدة ثقافية داخلها يستفيد كل قطر من تجارب المجموعة الثقافية العربية . ايضا لابد ان نعتبر أن الاحتلال الكلونيالي كان بمثابة نقطة حقيقية تؤشر على القطيعة مع العصور الوسطى ، وتؤشر لبداية الأزمنة الحديثة للتاريخ العربي المعاصر.. إن أي شكل من أشكال الوعي الثلاث هذه لا يختفي تماما بعد اختفاء نمط الدولة الذي يطابقه ، بالرغم من انه يفقد مكانته الراجحة ويكف عن الاضطلاع بالدور الذي كان يقوم به . إن الملاحظة الأساسية لهذه المقاربة المفاهيماتية ، هي أن رجل الدين والرجل السياسي الليبرالي ورجل التقنية ، كل واحد منهم يحاول الإجابة ومن منطلقات مختلفة عن السؤال الحرج الذي لايزال سؤال المرحلة الراهنة : لماذا تقدم الغرب المسيحي اليهودي ، ولماذا تخلفنا نحن ؟. لماذا تقوى الآخر ولماذا ضعفنا نحن ؟. إذا أردنا البحث عن المصدر الحقيقي الذي يستقي منه هؤلاء الرجال الثلاثة أجوبتهم ، سنجد في عمق كل واحد من أشكال الوعي هذه مفهوما خاصا للغرب. هذا المفهوم يكشف عن عدم التفاوت الزمني بين الأسئلة العلمية ، وبين الأسئلة التي أخذوها عن الغرب المسيحي اليهودي ، مع أنها في الظرف الحالي أصبحت متجاوزة وعديمة التاثير . إن رجل الدين في العالم العربي يجيب عن أسئلة وضعها آخرون في الغرب ، وأعادوا طرحها عليه مثل الحوار بين رينان وهناتون RENAN et HANATON والأفغاني ومحمد عبده . أما رجل السياسة الليبرالي فيعيد نقل أصداء قضايا وصفها مونتسيكيو و جون لوك في مواجهة الدولة الأتوقراطية . في حين ان رجل التقنية فقد تبنى دعوة أوكست كونت AUGUST و سبينسر ، لأنهما يعتمدان على مفاهيم و منظومات لم تعد فاعلة في الغرب او مطابقة للحقيقة الراهنة السائدة ، وهما يقدمانها في مظهر أحادي لا من منظور نقدي يعي ازدواجيتها ، وإنما تعاملا معها وكأنها ثابتة فاعلة باستمرار ، بينما هي هاوية ومتأخرة عن قوتها التي كانت خلال القرن 18 و القرن 19. الملاحظ انه نتيجة لهذا التفاوت في هذه النماذج الثلاثة حسب الزمن ، وتعاقب المراحل ، فان الفترة الحقيقية لكل وعي في الفكر العربي المعاصر، تكون هي نفسها إيديولوجيا . أي أن تلك التعابير الثلاثة المعبرة وبطرق مختلفة عن أشكال من الحكم تجسد المشروع الإيديولولجي العام الذ ي هو البديل الأساسي والأوحد عن المشاريع التي جربت وكانت النتيجية ، الفشل والاجترار أي التأخر . ان الإيديولوجيا ومن هذا المنظار المتعاقب في التفسير لازمة الذات وعداوة الآخر ،تبقى محصورة في تأويل الوعي الزائف الذي أنتجه الفكر العربي البئيس المأزوم ،عما فعله ووصل إليه الآخر الذي استعمرنا فأذلنا واحتقرنا في عقر دارنا ولا يزال يفعل وما بدل تبديلا . ففي الوقت الذي وصل فيه الغرب المسيحي اليهودي درجات عالية من الابتكار والخلق والإبداع عن طريق الربط بين القيم والخصوصية والثقافة والمؤسسات والتاريخ ، نجد الايديولوجيا العربية للفكر العربي البئيس العقيم لا تزال لم تبتعد عن محاولتها البائسة اليتيمة في محاولة إدماج الواقع الغربي في قالب جاف تحكمه خصوصيات وقيم يستحيل عيشها مع ما يحفل به الآخر من مبتكرات في هذا الميدان . إن طرح نفس الأسئلة اليوم ، التي سبق أن طرحت خلال المرحلة الكلونيالية ، وفي مرحلة الدولة الوطنية مع ما رافق ذلك من اجترار نحو النظريات الأجنبية باسم الحداثة أحيانا ، وباسم التقنية والتصنيع أحيانا أخرى ، وباسم الماضوية والجاهلية مرة ثالثة ، يعني أن الفكر السياسي العربي لا يزال يعيش أزمته البنيوية والفلسفية ، وانه لم يتمكن بعد من طرح المعادلة الصعبة في التنمية والتطور بالاستناد إلى الخصوصية الوطنية والانطلاق من الدات ، وهو ما يطرح مشكلة تحديد الهوية مثلا في المغرب – العربية البربرية والعلوية – والانا والعلاقة مع الآخر ، هذا في الوقت الذي قطعت فيه الشعوب الغربية بفعل تنظيرات مفكريها ومبدعيها الواقعيين أشواطا بعيدة في التنمية والوحدة والتقدم ، يستحيل على العالم العربي وفي ظل الظروف الصعبة الآن اللحاق بهم . ومما زاد الطين بلة والوضع أكثر تأزما تحويل العالم العربي في جميع تنظيرات الغربيين والإعلام المسيحي الصهيوني إلى بقرة حلوب من جهة ، والى عدو قديم وآني ومستقبلي يفرض كل إكراهات الحداثة . انه بذلك يشكل نقيضا استراتيجيا للغرب ، وانه برميل بارود مؤقت في يد الجماعات الإسلامية الرافضة للحضارة الغربية والداعية الى " الجاهلية ". ولاغرابة ففي الوقت الذي يجتهد فيه المفكرون الغربيون في البحث عن مستقبل الغرب المسيحي اليهودي الذي يتجسد في الوحدة رغم اختلاف التضاريس ، العادات ، التقاليد، اللغة ، والديانات ...نجد المفكرون العرب بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم الفكرية ( قوميون ، ماركسيون ،وطنيون ، علمانيون وإسلاميون ) لاتزال تسيطر عليهم العقلية الانقلابية ، ولايفكرون الا في مسالة وقضية حسم السلطة السياسية لصالح حزبهم أوجماعتهم اوجبهتهم ... لبلوغ الاستراتيجية . أي الحكم . وعليه فمهما بلغ التنظير الانقلابي أو الثوري ذروته وقوته فان مآله الفشل ، لأنه سوف لن يجد له تربة تحتضنه خاصة عندما تكون تلك التربة تتميز بمميزات وخصائص تميز شعبها عن غيره من الشعوب الاخرى . لقد فشلت المشاريع الثلاثة في إنجاز القفزة النوعية للحاق بالآخر أو الاقتراب منه لتركيزها على أحادية التفسير والتأويل ، وكان الخطأ أن كل اتجاه يعدم أتوماتيكيا مزايا الاتجاه الذي جاء على أنقاضه ، حتى يمكن القول أن كل اتجاه أو كل مدرسة تنطلق من الصفر ، لتؤسس لها طرقا خاصة للتميز . فشل المشروع اللبرالي السياسي لارتمائه المطلق في التنظير للتغريب باسم حداثة ،هدفها ضرب قيم وأصول أكثر منه بناء مؤسسات تؤسس لمنطق الحكم ، ولتجاوزه للخصوصية العامة التي شكلت صور الصين المنيع الذي تحطمت عليه كل تلك المشاريع. فشل المشروع القومي والماركسي العلماني في تحقيق خلق البديل . الأول فشل بسبب غرقه في الشوفينية ، وعدم تقدير قوة الخصم ، وتركيزه على الشعارات التي تسببت في جميع الهزائم والانتكاسات ، والثاني فشل لغرقه في الثقافة وجهله لمعايير تقيييم الظروف . فكانت النتيجية خاصة بعد التطورات التي عرفها الشرق هو الأفول والتشتت . وفشل المشروع الإسلامي ، لرفضه للآخر وتقوقعه في التنظير المخاطب للعواطف والمشاعر ، دون أن يمتلك البديل في الميادين التي برع فيها الآخر . أي الغرق في الماضوية من اجل الماضوية . وهو ما جعل منه مشروعا نرجسيا بامتياز. في القديم اعتزل ابن خلدون المؤرخ السياسة بعد غرق طويل فيها ليفهم عبر مسافة ابتعد فيها عن السلطان ، ماذا يجري على الساحة .فكانت " مقدمته " العظيمة والثاقبة في فهم آلية الاجتماع السياسي العربي الإسلامي . وأما الفقيه فما لبث أن التحق بالسلطان أوإعتزله ، او فضل معاناة الصوفية فتجاوز الفقه وعلم الكلام . إلا أن الصوفي عاد فوقع في مرحلة ترهل " الطرق " وإدخالها في مؤسسات الدولة في فخ السلطان العثماني من جديد ، وأصبح للسلطان فقيه وطريقة ( حال السلطان عبد الحميد ). اليوم ، يتحدث العديد من الكتاب والمفكرين عن البديل في مجال الفلسفة والاقتصاد والأخلاق و الإنسانيات والتنمية ، ومع ذلك لا نلمس تأثيرا لهذا الفكر في السياسة العربية والإسلامية. وإذا كان البعض يعلق العجز و التقصير على الوقت ، فإلى أي حد نبقى دائما مرتهنين بالوقت ، وهو الذي تجاوزنا بأحداثه وسرعة تطوره.؟. إن البديل يكمن في التركيز على الخصوصية الوطنية والمقدسات المميزة لكل شعب أو امة ، إضافة إلى التفتح على ما أضافته الإنسانية من مختلف العلوم والإبداعات ، أي الابتكارات الايجابية التي تحققت في الغرب ، إلى الابتكارات الايجابية التي راكمتها شعوب الشرق ، وكل ذلك ضمن الإسلام المتفتح المتطور ،وليس كما يدعوا دعاة الغلو والتطرف ،في إعدام كل ما لا يتوافق مع نظرتهم التشاؤمية للأوضاع.