لا شك في أن صدمة الحداثة الغربية التي اجتاحت عالم الإسلام على حين غرة مصحوبة بوطأة الاجتياحات العسكرية والتدخلات السياسية والدبلوماسية الأوروبية قد أحدثت رجات هائلة سواء على صعيد الفكر والثقافة أو على صعيد بنى الاجتماع والسياسة في العالم الإسلامي، وهي رجات ما زالت آثارها فاعلة، وتداعياتها قائمة إلى يومنا هذا. بدأ مشروع الحداثة في المنطقة الإسلامية ضربا من التحديث الإجرائي في إطار ما سيطلق عليه لاحقا حركة التنظيمات التي فرضتها الضغوط العسكرية والتدخلات الأوروبية المتفاقمة في الدولة العثمانية، وقد انطلق هذا المشروع بادئ الأمر من دوائر السلطان ورجالات الحكم، ثم ما لبث أن توسع مداه ليشمل قوى اجتماعية وفكرية أوسع. ضمن هذه الأجواء العامة ولد وتطور خطاب الإصلاحيين الإسلاميين في القرن التاسع عشر الذين عملوا على مواجهة الصدمة العنيفة للحداثة الغربية بضرب من الإحيائية الإسلامية في إطار ما سمي بالسلفية الجديدة. يتلخص مشروع الإصلاحيين الإسلاميين على ما بينهم من تباين واختلاف، بالمناداة إلى الرجوع للمنابع الإسلامية ممثلة في القرآن والسنة الصحيحة ومثال النبوة والخلافة الراشدة، والحمل بشدة في نفس الوقت على ما اعتبروه جمودا على الماضي وتنكبا عن الاجتهاد واستيعاب روح العصر، مع الحث على الأخذ بأسباب المدنية الحديثة. لقد زرع الإصلاحيون الإسلاميون للقرن التاسع عشر وما بعده البذور الأولى لما يمكن تسميته هنا بخطاب الحداثة الإسلامية، وذلك في إطار مسعاهم إلى استيعاب المدونة الحداثية الغربية ضمن وعاء إسلام أصيل يقوم على مصادره النصية الأساسية ممثلة في القرآن والسنة النبوية وميراث الصحابة. كان همهم الرئيس يتلخص في استيعاب التحولات الجارية من حولهم والتي فرضتها التدخلات الغربية الواسعة ثم تجربة التنظيمات، في إطار الشرعية الإسلامية، بحيث يتم وصل ما انقطع من صلة الإسلام بالعالم الحديث. كانت نظرتهم العامة تقوم على إمكانية التواؤم بين إسلام عقلاني ومبرأ من الجمود والتقليد، وبين حداثة ليبرالية آخذة في التوسع بقوة الجيوش وتمدد الاقتصاد الرأسمالي وانتشار المدارس التبشيرية الغربية وذيوع الصحافة وأدوات النشر. فقد كان الجهد الأكبر للشيخ محمد عبده مثلا، كما هو جهد أستاذه الأفغاني من قبله وبقية تلاميذه وأتباعه من بعده يتلخص في تأكيد مثل هذا التواؤم بين الإسلام والمدنية الحديثة، وذلك ردا على بعض الكتاب الغربيين مثل رينان وهانوتو وكومون وغيرهم من المستشرقين ممن شددوا على استحالة مثل هذا التوافق بين الإسلام والمدنية. وقد وصل الأمر بالمستشرق الفرنسي هانوتو حد وصف الإسلام بالمرض والشلل والجنون والجذام، ونعت المسلمين بالوحوش الضارية على نحو ما سجل ذلك في كتابه المعنون بـمرض الإسلام. فعلا كان للإصلاحيين فضل كبير في تقريب الكثير من مفاهيم الحداثة ومقولاتها إلى الوعي العام وتخليصها مما خالطها من غربة وعجمة بسبب أجنبية مصدرها وذلك من خلال مواءمتها لمقتضيات التداول العربي الإسلامي، وهذا خلافا لرجال التنظيمات والنخب الليبرالية التي لم تشغل نفسها -ولا هي كانت مؤهلة أصلا- لإنجاز مثل هذه المهمة المركبة. وما هو جدير بالتسجيل في هذا الصدد دور الإصلاحيين في تكوين ما يمكن تسميته هنا بالحامل الاجتماعي للمشروع الحداثي الإسلامي، من خلال نقل فاعلية الخطاب الإصلاحي من المعاقل التقليدية إلى المؤسسات الحديثة، ومن جماعة العلماء إلى المثقف الإسلامي الحديث. فقد أصبح الإصلاحيون يراهنون على المثقف الإسلامي منتج المؤسسات الحديثة في إنفاذ مشروعهم الإصلاحي واستيعاب مقومات المدنية الحديثة بعدما نفضوا أيديهم من قطاع العلماء أو النخب التقليدية ويئسوا من إقناعهم بجدوى التطوير والإصلاح على النحو الذي طرحوه. ومع كل ما ذكرناه سابقا من مكاسب سجلها الإصلاحيون إلا أنهم يظلون في نهاية المطاف أبناء عصرهم، وما شاع فيه من مقولات ومفاهيم عامة، كما أنهم كانوا منطبعين في نفس الوقت بتلك العلاقة المختلة بين غرب صاعد ومتمدد وعالم إسلامي مأزوم وقلق. بيد أن هذه المنهجية التي نهجها الإصلاحيون في التعاطي مع المدنية الغربية على جلال قدرهم، وعظم جهدهم، لا تخلو من وجوه قصور نظرية وتاريخية كثيرة لا يمكن تجاهلها أو إغماض العينين عنها، وربما لا يمكننا قبولها أو استساغتها اليوم، كيف ذلك؟ لقد ابتلع الإصلاحيون الادعاءات الكونية للخطاب الحداثي من دون وعي كاف بمحدودية مقولاته ومفاهيمه الرائجة. وكان أقصى ما يطمحون إليه تأسيس مشروعية اقتباس هذه المدنية المثالية وصبها في الوعاء الإسلامي، عبر إعمال آلية التشبيه والقياس. كانت مواقفهم العامة تصدر في الغالب الأعم عن مسلمة نظرية مضمرة مفادها أن هذه الحداثة شيء مكتمل وناجز، يمكن إعادة تركيبها وصبها داخل الوعاء الإسلامي، شريطة أن تتوفر الأرضية المناسبة لحسن استقبالها واحتضانها، وألا يتم المس بثوابت الدين والأخلاق العامة. لقد كانوا فعلا مجتهدين في الإسلام، بيد أن رؤيتهم للحداثة كان يغلب عليها طابع التقليد على الاجتهاد، والاجترار على الابتكار. عند التحقيق الجاد في خطاب الإصلاحيين ورصد ميراثهم يتبين أنهم كانوا أنواريين وليبراليين، بقدر ما كانوا إسلاميين، ولعل هذا ما جعلهم موضع التباس وإشكال بالنسبة للكثير من قراء نصوصهم ومتعقبي سيرهم. فقد كانوا يؤمنون فعلا بوجود عقل كوني ومطلق، كما كانوا يعلقون آمالا كبرى على العلوم والتقنيات ويؤمنون بالتقدم المطرد على طريقة الأنواريين الأوروبيين، مثلما كانوا شديدي الاقتناع بالطابع الكوني والحيادي لما سموه بالمدنية الحديثة، وما كان يقلقهم حقا هو سؤال الهوية أكثر من أي شيء آخر، أي كيفية المحافظة على الدين والأخلاق مع جلب المدنية المطلوبة التي تفوق بها الغرب الحديث وبز بها سائر الأمم. ليس من اليسير اليوم قبول رؤية الإصلاحيين للحداثة الغربية أو -في الحد الأدنى- الكثير من عناصر رؤيتهم العامة، ليس لأننا بالضرورة أكثر وعيا أو نضجا من أسلافنا الإصلاحيين بل لأنه قد جرت مياه كثيرة في نهر الحداثة الغربية سواء أكان ذلك على صعيد التجربة التاريخية الحية، أم على صعيد الفكر، بما يجعلنا أكثر حذرا من قبول الادعاءات الكونية الحداثية، وربما أكثر قدرة على أخذ مسافة من هذه الحداثة ونخل مكاسبها من عثراتها، وتبين منجزاتها من هناتها وإخفاقاتها، قياسا بآبائنا الإصلاحيين. فمثل هذا التقسيم الذي نهجه الإصلاحيون الإسلاميون للحضارة أو المدنية بين وجهها المادي ووجها الروحي يظل افتراضيا ذهنيا ولا علاقة له بواقع الحضارات والمجتمعات التي يتبين عند النظر المدقق أنها نسيج مترابط الحلقات تتداخل فيه العوائد والآداب بالصنائع، والأفكار بالنظم والإجراءات. فالإجراءات والوسائل مهما بدا عليها من طابع الحيادية والكونية تظل في نهاية المطاف ضاربة بعروقها في مداد التاريخ وميراث التجربة والثقافة، أو الثقافات التي انصهرت ضمنها واشتغلت في أجوائها، وعليه من الصعب التسليم للإصلاحيين بأن ما سموه بالمدنية الحديثة والتي تشمل عندهم كل ما يتعلق بالنظم السياسية والاجتماعية، والعلوم والصنائع ذات صبغة كونية مطلقة ومحايدة. فمثل هذه الوسائل والإجراءات ليست منزلة من السماء، ولا هي ولدت مكتملة، بل هي تخلقت في رحم التاريخ وفي سياق خبرات الشعوب المتتالية ومختزناتها الرمزية والثقافية. صحيح أن الكثير من الوسائل والإجراءات تحمل قابلية الخروج من طور الخصوصية إلى الكونية لما تثبته واقعا من نجاعة عملية، كما أن الحضارات تتفاعل وتتبادل المنافع فيما بينها، ما دامت ليست بالجزر المعزولة والمفاصلة لبعضها البعض، بيد أن الحضارات أو نظم العمران على نحو ما يذكرنا العلامة ابن خلدون تظل في نهاية المطاف نسيجا مترابط الحلقات والمكونات بما لا يسمح بتقسيمها إلى مجال الروحانيات والقيم من جهة أولى، ومجال الماديات والوسائل من جهة أخرى. فوسائل المدنية أو التنظيم ليست شيئا صامتا وسلبيا يمكن توظيفها أو التحكم فيها على النحو الذي نريد أو نرغب فيه على ما يتصور الإصلاحيون، بل إنها تملك من القوة والسلطان ما قد يفوق أحيانا كثيرة سلطان الأفكار والقيم وتتجاوز نطاق الإرادات الفردية والجماعية نفسها. أليست الحداثة في جوهرها التحول في عالم الوسائل والإجراءات من نظم إدارية وتقنية؟ أليست هذه الوسائل هي التي غيرت شروط الوجود الإنساني وبدلت نحل العيش وأنماط القيم ومناهج التفكير؟ يذكرنا ماكس فيبر بأن الحداثة تعني في بعد من أبعادها الأساسية شيوع السوق الرأسمالية بما فيها من مراكمة المنافسة والربح، وظهور الإدارة بما تحويه من عقلنة ونجاعة، وعليه فإن هاتين القوتين الجبارتين (أي السوق والبيروقراطية) بحسب عالم الاجتماع الألماني تعيدان تشكيل أنماط حياة الإنسان وصياغة نظام قيمه الخاصة والعامة. فالإنسان الحديث -على ما يذكر فيبر- الذي يولد ويموت في أجواء الرأسمالية والبيروقراطية الطاغية، يبدو مسكونا في أعماقه بأخلاق تعظيم الربح وتحسين النجاعة أكثر من أي شيء آخر، كما أنه يبدو متنكبا بطبعه عن كل ما هو مقدس وجليل باعتباره شاغلا عن النجاح في هذا العالم الدنيوي. كما أن ماركس من قبله ينبهنا إلى أن كل ما هو صلب يتبخر ويلين عوده في آلة الحداثة الرأسمالية، قاصدا بذلك أن الأفكار الكبرى والأخلاق الصلبة لن تصمد كثيرا أمام رأسمالية قاهرة ومتمركزة حول الآلة، وما تجلبه من تعظيم الربح وتحسين الإنتاج. صحيح أن هذه الحداثة ليست بالآلهة السحرية والقاهرة، بيد أنها في نفس الوقت ليست عجينة طيعة أو صلصال أطفال تشكلها أناملنا على النحو الذي نرغب فيه على ما تصور آباؤنا الإصلاحيون. لم يكن الإصلاحيون على وعي كاف بما تحمله الحداثة (أو المدنية بحسب تعبيرهم) من قوة ومخاطر في نفس الوقت، وربما يعود ذلك إلى أن الأوضاع الصاخبة التي عاشوها وكتبوا فيها لم تتح لهم فرصة التفكير العميق في ظاهرة الحداثة، بل رأوا فيها طوق النجاة لإخراج العالم الإسلامي من مأزقه، والكفيلة بإلحاقه بركب التقدم. لا ننسى هنا أن مسار الحداثة وإلى غاية طليعة القرن العشرين، أي الحقبة التي تخلق فيها خطاب الإصلاحيين، يمكن وصفها بأنها حقبة المسار المظفر والناجح للحداثة الغربية، بما يجعل من العسير عليهم وقتها إدراك مخاطرها وهناتها. لقد كان مبدأ الضرورة هو الدافع لهم في المناداة باقتباس هذه الحداثة والتبشير بفضائلها العامة.هل يعني ذلك أن الإصلاحيين كانوا مخطئين حينما نادوا بالاقتباس من الغرب الحديث، وأخذ ما يرونه أدوية شافية للجسم الإسلامي العليل؟ إنهم لم يكونوا مخطئين ولا واهمين من هذه الناحية، بيد أن مسوغاتهم العامة لعملية الاقتباس والتلقي تبدو لنا اليوم واهية وضعيفة، كما أن مبشراتهم المستقبلية التي تحولت في زمننا الراهن حاضرا محسوسا لم تعد تقنعنا أو تستهوينا. لقد نهل عالم الإسلام الواسع اليوم كثيرا من عباب هذه المدنية التي نادي بها الإصلاحيون، واتبع خطى الأمم الأبية بحسب وصف خير الدين التونسي في الأخذ بأساليب العلوم والتقنيات ونظام العمارة وهندسة الطرقات، وحتى في المأكل والملبس وفي كل شيء. بيد أن الهوة بيننا وبين هذه الأمم تزداد اتساعا والمسافة تباعدا، فكلما خلنا أننا اقتربنا منها وجدناها ازدادت بعدا عنا. مجتمعاتنا اليوم لا ترضي أحدا، فهي يأنفها التقليديون لأنها ما عادت أصيلة أو تقليدية كما يرغبون، ويكرهها الحداثيون لأنها ما صارت حداثية زاهية على نحو ما يحلمون، ولك أن تقول إننا اليوم إزاء اجتماع تقليدي مأزوم وحداثة مشوهة. أما على صعيد النظري أو ما يمكن تسميته هنا بالقيم الفكرية والأخلاقية المؤسسة للحداثة فقد أضحت اليوم بين أيدينا الكثير من الأدبيات النقدية للحداثة، بما نزع عنها تلك الهالة السحرية واليقينية التي كانت تحاط بها، وهي أدبيات دونها مفكرون وفلاسفة غربيون قبل غيرهم، تركز جهدهم الأعظم على تعرية الحداثة وبيان عثراتها، إلى جانب تفكيك الكثير من مفاهيمها ومبشراتها، وعلى رأس ذلك مفاهيم العقلانية الصلبة، والتقدم، والإنسانية والعلمية وغيرها. ولعله لهذا السبب لم تعد أجيالنا الراهنة تعلق تلك الثقة الزائدة على اقتباس المدنية التي أطنب آباؤنا الإصلاحيون في الحديث عن فضائلها ومحاسنها. نحن اليوم منشغلون بالتفكير في مآزق المدنية وعاهاتها أكثر من انشغالنا بمكاسبها وانتصاراتها. وفعلا يبدو عصرنا الراهن مسكونا بهاجس ما سماه الفيلسوف الفرنسي جون فرنسوا ليوتار نهاية الروايات الكبرى، أي تفكيك المفاهيم الكبرى الناظمة لعصر الحداثة، أكثر مما هو معني بتشييد التطلعات وبناء الأفكار والنظريات الكبرى. باختصار يمكن وصف عصرنا الراهن بأنه عصر تقويض اليقينيات وتبدد التطلعات الكبرى، بعد أن أضحت الحداثة تاريخا وخبرة ماثلة أمام أبصارنا يمكن غربلة عاهاتها من مكاسبها، وما عادت مبشرات مستقبلية تشرئب إليها أعناقنا وتخفق إليها أفئدتنا. وحتى في الرقعة العربية الإسلامية لم تعد الحداثة مجرد تطلعات أو أحلام وردية تراود بعض حاشية السلطان أو النخب البيروقراطية وبعض المثقفين والوجهاء على نحو ما كان عليه الأمر أواسط القرن التاسع عشر أو حتى مطلع القرن العشرين، بل أضحت خبرة حية وتجربة ماثلة أمام أبصارنا من الممكن فتح سجلها وتشخيص أحوالها وفك ألغازها، هذا إن كانت لها ألغاز أصلا.