سأتناول موضوعا في غاية الدقة والحساسية .. رغم أن العنوان يدخلنا لأول وهلة في باب التشاؤمية والعدمية المطلقة...لكن بضدها تتميز الأشياء -- كما يقال – فالفكر الأوروبي له من الإيجابيات، ما يغطي على مجمل سلبياته. و المنحصرة خصوصا في تغليب الجانب المادي، وتأليه الإنسان ،والفردانية المطلقة، وتهميش الروحانيات . وهذا طبعا من منظرونا الخاص المتسم بالنظرة الميتافيزيقية للأشياء .. فالفكر الغربي (الأوروبي خصوصا) هو بامتياز فكر تنويري، ثوري ، علماني، عقلاني تأسس على شكل حركة نقدية تفكيكية للواقع السياسي ، والاقتصادي، والثيولوجي والإيديولوجي للكنيسة، و النظام الفيودالي المهيمن، إبان العصور الوسطى . ولازال صداه مدويا عبر العالم برمته . بل إن ما يميز هذا الفكر أنه كان مرتبطا ومواكبا للحركات الثورية ، التي اكتسحت الساحة الأوروبية.. يغذيها وينميها ، ويبارك خطواتها .. .فتشبعت به الجماهير وقلبت العالم رأسا على عقب .. الفكر الأوروبي لم يكن فكرا متعاليا عن الواقع . بل كان مهمازا لهذه الثورات السياسية و الاجتماعية ..يزودها بالفكروالعقل والإديولوجيا.. لقد استطاع هذا الفكر خلق قطيعة معرفية ابستمولوجية مع الماضي العطن .. وعلى كل ماهو متوارث.. والمشدود بألف وثاق بحمولة أسطورية تكبل حرية الإنسان . وتعطل فكره، وعقله، وروحه، في قوالب ثيولوجية وميثولوجية.. "" ولضيق الحيز الزمكاني فإني أقول بصفة موجزة --حتى يتأتى لنا عقد مقارنة سريعة بين الفكر العربي والغربي – إن الفكر الغربي قاد معركة شرسة لاهوادة فيها ولاخوف – لامن الماضي ولا من الحاضر ولا من المجهول - ضد الواقع المعيش سياسيا واجتماعيا وإيديولوجيا.. فحقق قفزة نوعية ، أدت به إلى خلق حضارة إنسانية عالمية.. أثرت في سائر المعمور بما فيه عالمنا العربي .. إنها رؤية تاريخية موضوعية لسياق هذا الفكر .. لاتشوبها عاطفة أو ذاتية ..فبين أيدينا عمالقة الفكر الغربي لا يتزحزحون قيد أنملة عن بروجهم ، وعروشهم الفكرية التي تربعوا عليها ،.. شاهدون على عظمة إنجازاتهم وإبداعاتهم وعلى مساهماتهم في تحرير الفكر والعقل من الترهات والأباطيل، التي علقت به مدة لايستهان بها في الأزمنة السحيقة. فيكفينا جميعا ذكر ديكارت لنستحضر ( شكه المنهجي ) وروسو ( في عقده الاجتماعي )و ون لوك (شروط الحكم المدني ) وفولتير وهيجل و كانط وماركس وسارتر. وس.توماس إليوت. ورامبو. والقائمة طويلة وطويلة.. وأنا هنا لست أتبجح بذكر هؤلاء ، كما لو أنني أتماهى في ذواتهم ..أو أنني مستلب بالفكر الغربي .. فهؤلاء قد أثروا طوعا أو كرها في مفكرينا وشعرائنا ومثقفينا وأدبائنا ونقادنا.. كما أثرو بمنهجهم العقلي حتى في بعض رجال الدين السلفيين ( أمثال جمال الدين الأفغاني وأبو الأعلى المودودي ، و محمد عبده ، وعلي عبد الرازق ورفاعة الطهطاوي و غيرهم ..) الذين وظفوا طريقة تحليل بعض القضايا الدينية والاجتماعية والسياسية بالمناهج الغربية. وحققوا ما حققوه من منجزات فكرية صبغت الفكر العربي بنوع من التجديد والحداثة .. ولكنني ، حين أراجع، وأستلهم ، وأتذكر، ما كتب منذ عصر " النهضة العربية" أي منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم .. وحين أستحضر أغلب المفكرين والمثقفين والأدباء العرب ، فإنني لم أجد ولم أسمع ولم أستنتج أن مفكرا عربيا واحدا من كل هؤلاء ، أحدث خلخلة ولا زعزعة في الفكر والواقع العربيين . كما أنه لم يخلق بلبلة ولا هزة في الواقع السياسي والاجتماعي والإديولوجي .. بل إن الواقع العربي يشهد على نفسه بنفسه ، فليس إلا التخلف الضارب أطنابه في سائر الميادين .. أين فكر هؤلاء من الفكر العربي الإسلامي والفلسفي في العصر الوسيط ..الفكر آنئذ أحدث فعلا خلخلة ورجة في جبين التاريخ . فشهدت الأمة العربية ما شهدت من تقدم وازدهار، مس البنية الفكرية و السياسية والاجتماعية للواقع والفكر العربيين.. شأنه شأن الفكر الغربي الذي بينت باقتضاب بعض ملامحه.. الفكر العربي منذ عصر النهضة وإلى اليوم ، رغم تأثيره فينا، وتأثر أغلب أقطابه بالفكر الغربي.. أو نهلهم من ينابيع التراث العربي .. فإنه لازال قاصرا على تأدية مهامه التاريخية ..المهمة المتجلية في غربلة وتفكيك البنى الأسطورية المتخلفة المنغرسة في الوجدان العربي .. وتغيير الواقع السياسي والعربي نحو الأفضل .. بل لا أبالغ إذا قلت إن القليل القليل من المثقفين العرب المناضلين الذين ناضلوا بفكرهم وروحهم من أجل محاربة الاستبداد والطغيان بكل أنواعه.. أو حتى الاحتلال الاستيطاني من الأراضي الفلسطينية .. ومحاولة تبيان تهافته وتعرية إيديولوجيته الصهيونية المتطرفة .. بل العكس هو الصحيح ، فبعض المثقفين يهادنون المحتل ويكرسون إيديولوجيته سواء في كتاباتهم أو عبر وسائل الإعلام.. والبعض الأخر يعيش انكماشا وتقوقعا فكريين.. بعيدا عن الواقع المادي المعيش ..يخاطب الناس من عالم آخر .. عالم طوباوي .. مثالي .. حالم.. أما الأزمات السياسية والفكرية والاجتماعية فتراوح مكانها.. ولا من مغيث .. هناك هوة سحيقة .. عميقة تفصل الجماهير العربية عن المثقفين والمبدعين .. أصبحت الثقافة العربية المعاصرة ، تعيش على الهامش بشكل طفيلي على صفحة الواقع المهترئ ..المتأزم ..المشتت .. المتشردم.. خلاصة القول إن الفكر العربي المعاصر – لازال يعيش معركة الوجود واللاوجود .. فالركود والخمود والجمود .. أصبح طاغيا على الساحة الفكرية ..رغم وفرة الإنتاجات في جميع الميادين .. ورغم كثرة الكتاب والمؤلفين .. ورغم تشجيعات الدول العربية في هذا المجال .. إلا أن مايطلب من هذا الفكر ، وهذه الثقافة ، من مسؤوليات تاريخية لازال دون المستوى المطلوب من الثقافة العربية أن تحمل مشعل الحضارة الإنسانية باسم العقل .. لا باسم الخرافة ..عليها أن تحدث ثورة معرفية وابيستيمولوجية ، في البنى الفكرية والعقلية المتسمة بالفكر الثيولوجي والميثولوجي والإيديولوجي المتخلف ..عليها أن تحدث مراجعة تمحيصية ونقدية وتفكيكية للفكر والواقع على السواء..وذلك من أجل خلق معالم جديدة .. متسمة بالعقلانية الشاملة لكل مناحي الحياة والوجود ..