ما نتحدث عن الهوية بما هو يتحدد في ضيافة مفهوم مزعج، حده لزج، ملغز، محير، شائك، متشعب... هو الحد الذي لا يستطيع أي بحث الإمساك به ، إنها الذات الأكثر غنى ، و ثراء في تباشير الوعي الإنساني ، تنفلت بإستمرار من الضبط العلمي و الفهم العقلاني ، هي أكثر المفاهيم تداولا ، و أكثرها غموضا و تلونا ، هو المعطى الجوهري المكتمل الخارج عن التاريخ ، يتسم بقدسية نسبية متعالية ، الشيء الذي يصعب الإقتراب من شفرة شيمة هذا "الشيء اللاشيء" الغريب الذي يسكننا على نحو غريب. ينفلت دائما في ديمومة مجرى عمق ذاتية الكائن التأنسي اللامنتهي ، كحلقة من السلسلة اللامتناهية لحلقات الحوار بين الذات و الهوية ، نتصوره يتجذر في أعماق غموض سر الإنسان ، يؤجج دوافع كنه و ذاته في حقل النفس الإجتماعي ضمن وحدة منسجمة لها منطقها الخاص و إستقلالها النسبي ، يتشكل عبر صيرورة طويلة من التحولات ، يستضيف مفاهيم جد معقدة و جد مضطربة و محشوة بالغرابة ، لكنه لا يخاطر في الخلط بين المفهوم و المدرك. إنه دائما يسعى إلى معرفة النفس الذاتية ، التي هي أسمى غاية في البحث الهوياتي للهوية النفسية الإجتماعية ، و إن تعددت صور وعي الإنسان بذاته على مدار تاريخ عصور البشرية البدائية المدنية المتأنسة. و لكي يدرك مغزى هذا المفهوم ، لابد أن يتوافق مع مدارك ، و مدركات منظومات العقل لدينا. هكذا يعلمنا العلم ذاته كما يتفق ، أو قد لا يتفق مع ذواتنا. وهذا في رأينا ، مكمن قوة الانسان و ضعفه معا ، و من ثمة نصل إلى النتائج التي هي في أصلها ، إنطلاق و مقدمة أنتجها العقل ، وليد خبرتنا الذاتية ، و معرفتنا الأخرى. فالحديث عن هذا التصور المفهومي الأفهومي الهوياتي هنا ، يقتضي هناك إذا كنا فعلا نريد أن نقبض على ناصية الحقيقة ، و نفهم معناه في سياق عملية إستبيان و فك الشفرة الهوياتية ، أن نحقق أولا الإنعكاس الذاتي ، و في الوقت ذاته الوعي الذاتي بالذات برد أفكار الإنسان إلى ذاته ، كتأكيد للنزعة الإنسانية الثابتة ، و من ثم التعميق في تحديد المفاهيم الجديدة المستضافة ، التي ولدت أصلا في رحم البحث الهوياتي ، في إطار معرفة النفس و ضرورتها ، لمعرفة الذات الإنسانية ، التي لا تعدوا عند كاسيرر رغبة نظرية ، و ليست هي فحسب موضوعا لحب الإستطلاع و التأمل ، بل هي الواجب الجوهري للإنسان ، الذي يحتاج هذا لمجهود إضافي و مغامرة الغوص في ثناياها و التنقيب بحذر شديد في دهاليزها المظلمة و الملغومة وفق آليات مفهومية و تصورات معرفية تفسر التناقض الفج و الغموض الصارخ ضمن عمق الفلسفة المعرفية و الخبرات الفردية و الجماعية : المحلية و الكونية. و ضمنيا هنالك سؤال عويص عريض يتبادر مباشرة إلى أذهننا و تمثلاتنا : ما الهوية؟. في طرحنا هذا ، و في إطار محاولة القضاء على القلق المعرفي الذي يساور مهمة الإقتراب من هذا المفهوم الملتوي الغامض المنفلت بإستمرار من تفسيراته السائدة المختلفة حسب الرؤية و المنهجيات و التصورات "العليا" من حقل معرفي إلى إنساني منه ، لا نريد مزارع حقوله الأخرى ، لها موضوعاتها و تحليلاتها و تصورتها و قضاياها الخاصة المؤرقة دائما لأسئلة تفلسف فلسفة العقل في قمة عرش تاج مملكة العلوم. و لكن ، فقط نؤكد هنا ، من منظور علم النفس الظاهراتي الجشطالتي (نسبة إلى جشطالت) –و لا غرو إذا قلنا- إنه يسعى دائما إلى تحديد المفاهيم المعقدة الغامضة شبيهة بتلك التي تناصر العالم الروحي ضد العالم المادي. إذ أن سؤال الهوية بالنسبة للنفس الظاهراتي يجد ذاته و يبتغيها و يهويها في زاوية أكثر عمقا و تكيفا و إنشطارا مع الذات ، أي طريقة جديدة للبحث ، ليس في البحث عن ماهية هوية المجتمع ، و إنما عن كنه الشخص الهوياتية في الوسط. لأن سؤال المجتمع في الحقل السيكولوجي الظاهراتي لا أساس له من التأكيد ، بمعنى لا يتضمن في ذاته يقينا، فذاتية الهوية تتشكل داخل "الكل" الوسط ، الذي يتحول إلى المجال الخبراتي ، و منها ما يجعل الهوية جزءا من ذات أعم من المعطى النفسي ، فتنمو الهوية و تتعايش في ذاتها و مع ذاتها في صراع مع جدلية أضداد الماني (نسبة إلى الإله الأسطوري ماني) إلى جانب مفاهيم أخرى أكثر تناقضا و غموضا داخل ثنائية التضاد : التشخصن-اللاتشخصن ، التدعيم-الاستلاب... الآن و هنا ، نبحث عن الهوية دون الخوف الذاتي من "إنسلاخ" مما هو ذاتي ، من موقعه الطبيعي في المجال الخبراتي ، بإعتباره و على أساسه نبتغيه أن يكون الآلية التي تمكن الشخص من معرفة ذاته ، التي هي أسمى معرفة في البحث الهوياتي. و بلورة هذه الذات كمنطلق لهوية ضرورية و ممتنعة في الوقت ذاته تتضمن الأداة التي تمكن من معرفة الذات عن طريق الذات نفسها ، بمعنى ما يجعل الذات إتجاه ذاتها و مرآة للذوات الأخريات أو بتعبير جميل ، الذات كالمرأة القابلة المولدة للهوية. عمليا ، و على هذا الأساس ، تكون القيمة الذاتية للهوية الشخصية نفسها و في ذاتها و من الوسط الذي تنمو و تتجاذب فيه تحت تأثيرات منبهات مختلفة ، مما يؤكد على أن الهوية تفرض من الخارج. و أكيد هنالك هوية جاهزة تؤكد جاذبيتها و قوة مغنطتها لأشخاص من خلال عملية التقمص (identification) كظاهرة من صنع المجتمع ، و ستظل دائما كذلك في امتثال الأفراد للمتطلبات الإجتماعية ، لتقليد ما هو سائد و مقبول من طرف الجماعة تحت سقف استبداد القهر الاجتماعي الذي يؤكد قدسيته في محيط الوسط الإنساني. و كل تمرد عنه ، يعتبر انحرافا عن المعيار الاجتماعي ، حيث إن أساس وصف الهوية الأخرى ، كمرآة عاكسة للبنية الفردية الحرة بأنها نوع من الانحراف يعتمد على التعريف الاجتماعي بأنه أي فعل أو سلوك يخالف معايير و قيم و نظم مجتمع معين أو لا يؤدي الأدوار كما هي في وظيفية تالكوت بارسونز. هذه النظرية الوظيفية التي انبثقت مع إيميل دوركايم تعتمد على شيئين : أن سلوك الأفراد مرتبط بالتنشئة الاجتماعية. ثانيا بمسألة الأدوار الاجتماعية ، حيث إن التنشئة لا تترك للفرد الحرية في السلوك لأن هذا السلوك مبني على التنشئة : هناك علاقة جدلية ، هناك قهر ، في إنجاز الوظائف و تأدية الأدوار الاجتماعية التي جعلت من أجل الاندماج الاجتماعي في تصور دوركايم الموجودة في النسق الاجتماعي قبل وجود الأفراد. و لاشك هذا ، ما يجعل الشخص يعيش في تناقض مستمر دائم بين موطنه الداخلي الأصلي للوعي الباطني ، و عالمه الإجتماعي للوعي بالنسبة للواقع و العالم الخارجي ، كواقع في إنكار الذات الشخصية الخاصة به ، يؤدي شيئا فشيئا إلى التمرد عنها ، و الإنقلاب عن الهوية الأصلية ، في مقابل "إبتكار" هوية جديدة جاهزة مستهلكة غير أصيلة و أصلية ، نعبر عنها ب "هوية لامشخصنة" التي تجدد إنكار الذات و الإنصياع في بوتقة الآخر و قبول "جاذبية" التقمص من الوسط المعاش فيه. كتأكيد مرة أخرى على حضور التبعية القائمة، و الخضوع للهوية المفترضة المستلبة عن طريق التقمص. ذلك أن ما يثير هذا المنعطف ، هو سؤال تناقض الذوات باعتبار الهوية عامل في إستلاب الشخص ، و إدراجه في بوتقة الكائن المساير. و في الوقت ذاته ، عامل في تدعيم كنه الشخص ، أو بعبارة مالريو (Malrieu) : "هوية مشخصنة" في مقابل "هوية لامشخصنة"(1) و إذا كان البعض يرى أن الهوية هي عملية هدم بناء في تناوب مستمر تطلعا للتحقيق الذاتي ، كمساهمة في بلورة هوية جديدة متجددة ، بما يسميه البعض الآخر ب "عملية التشخصن" ، و أن الهوية محكومة بحكم قيمة ، كتأكيد مرة أخرى على أن التشخصن كائن مساير من "الآن" للعالم الخارجي. دون أن نخرف نحن عن عالم آخر غير عالمنا كمسألة لا معنى لها ، حتى لا نأول في سياق مماثل وجهة نظر أطروحة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في إفتراضه لكم أن "غريزة تحقير الحياة ، تنقصها و الإرتياب فيها قد يكون لها الغلبة فينا. إننا ، في هذه الحالة ، ننتقم من الحياة بمواجهتها بمشهد خارق من حياة أخرى" (2) و رغم هذا السياق ، يبقى التمايز موجودا ، ذلك أن تورين (Touraine) في رأيه هذا ، يرى الهوية في "الحياة الخارجية" هي عامل إستلاب الشخص ، و إختزاله في كائن مساير ، على أساس أن الهوية تفرض من الخارج في تصور رأي تورين ذاته. و حتى نستوعب رأيه ، لنتأمل ما يقوله في قوله : "لا تقول لي من أنا , و لا دلالة ما أفعل ، و لكن ، قل لي ماذا يجب أن أكون ، و السلوكات المتوقعة مني تحت طائلة الإقصاء" (3) كل هذا بلا شك مرتبط بالعوامل الخارجية عن الذات ، و بالأهمية التي يوليه دور التقمص في سيرورة التنشئة الإجتماعية : دور في إقصاء أم في تدعيم الشخص ، على مستوى بنيتها و علاقاتها العاطفية و التربوية التنشئوية المشروطة بالوساطة الإجتماعية نفسها بإعتبارها "الوكيل النفسي" للمجتمع حسب فهم فيلهم. و هو ما يؤكد دائما في نفس الإتجاه فكرة تأثير الظواهر الإجتماعية-النفسية الفوق بنيوية في البنية. على أن تورين في ذات السياق ، يسجل العوامل الخارجية ، و يدرج مساهمتها في إستلاب هوية الشخص و هدمها ، و في تدعيم هوية الشخص و بناءها. و سنستشف في مقام آخر ، تتمة تورين في أطروحة مالك شيبيل (Malek Chebel) التي تطرح الهوية في الإمارة الخاصة التي ينكشف من خلالها الإجتماعي في الفرد. بإعتبار الهوية هنا لا توجد إلا صراعية و متعددة. بمعنى الهوية كما يتصورها شيبيل هي بنية ذاتية تتميز بتمثل الذات من خلال العلاقة القائمة على أساس الإعتماد المتبادل في التفاعل الحاصل بين الأفراد و الآخرين. لكن حيثما يدمج الشخص الآخر أو الذات الأخرى يقصي ذاته و شخصه ، فيصير فاقدا للهوية تحت طائلة الإقصاء و التقمص ، بيد أن الهوية المشتركة تعمل على إنكار الذات الفردية ، و كذلك إلى إنكار ما ذهب إليه كلود ليفي ستراوس الذي إعتبر الهوية عملية إدراكية تتعلق بعملية تقييم متبادلة ما بين تقييم الفرد لذاته و تقييم الآخرين له. و كي نمثل هذا الفهم الهوياتي في عالم علائقي مشخصن و مقمص ، نسجل إجماع علماء النفس على أن مرحلة المراهقة تعرف طفرة و قفزة نوعية مميزة في عملية التشخصن ، كإشارة طوباوية في خط تفكير طاب ، على أن فترة المراهقة هو فضاء للتقمص. بمعنى آخر ، إستلاب الهوية في التوقعات الإجتماعية ، على خلاف ما إذا كانت النزعة الذاتية بمعناها الإيجابي حاضرة في الرغبة و الإبتكار كحضورها في حاضرة الذات الذاتية للإنسان ، كتعبير تلقائي عن المساهمة في تقوية و تدعيم الهوية الشخصية الإنسانية أمام التبعية الساذجة و الخضوع للمتطلبات القهرية و صنارة الاهتمامات و المهمات و الالتزامات الاجتماعية ، المتمثلة في تخليق حياة الإنسان الساذجة أيضا. و حتى نفهم هذه الصورة النموذجية ، و في الوقت ذاته نستحضر إرادة تورين ، لنتأمل تمثلات نيتشه في أفول الأصنام ، يقول : " 'كم هو ساذج أن نقول : يجب على الإنسان أن يكون هكذا أو كذلك !' فالواقع يقدم لنا عددا هائلا من النماذج ، وفرة غزيرة من تمثيل لامتناه للأشكال و التحولات ، و إذا بأي شخص من الأخلاقيين المستعدين لأي شيء يقول لنا : 'لا ! وجب على الإنسان أن يكون بخلاف هذا !'... بل إن هذا المنافق المشؤوم يعرف حتى كيف يجب على الإنسان أن يكون : إنها صورته الخاصة التي تآمر عليها صائحا : 'Ecce Homo !' (1 هذا الإنسان 'م') فحتى عندما لا يفتأ الأخلاقي يتوجه إلى المرأ و يقول له : 'هكذا أو كذلك يجب عليك أن تكون' " (4). يظهر بورديو –متجاوزا تصور نيتشه- أن الذوات ليست أشياء ، فحتى "الوهم ليس له –بما هو كذلك- وجود وهمي (...) يجب أن يرقى إذن إلى موضوعية أسمى، تفسح مجالا لهذه الذاتية كبعد من أبعادها، فأعضاء المجتمع يعيشون وعي لا يعكس الحقيقة التامة لما يقومون به، و لكن يشكل مع ذلك جزءا من حقيقة ممارستهم العملية" (5). مما يعني أن وجوه الناس ليست سوى أقنعة زائفة تخفي ورائها حقيقية نفوسهم و ذواتهم. و إذا كان المفهوم النفسي للهوية ، كما هو سائد و مستهلك من لدن بعض النفسانيون يمتلك خاصية إيديولوجيا كوعي زائف في هذا السياق ، فإن الهوية في خط تفكير نفسية طاب هي في إرتباط أو صراع مع الإيديولوجيات التي تخضع إشتغال و صيرورة المجتمع و الجماعات و المؤسسات التي تتشكل منها ، بمعنى أن الهوية اللامشخصنة تورط الهوية في إيديولوجيا الشخص في تصور طاب. و يعترف لابلاتين (laplatine) بحقيقة ضبابية مفهوم الهوية ، حيث يقول : "إنها من أكثر المفاهيم الفلسفية فقرا على المستوى الإبستيمولوجي ، و لكنه بالمقابل يتمتع بفعالية إيديولوجية كبرى". يبقى و لاشك هذا التساؤل : إذا كانت الهوية المشخصنة تأكيدا بدورها لتأثير الظواهر الفكرية أو الإيديولوجية في مستوى البنية الذاتية ، و إن كانت هي حركة و فعل ينهض بإستمرار على تقمصات ضرورية و مستلبة لأشخاص أو جماعة أو إيديولوجيا... كإلتماس ضروري و حيوي ، بغض النظر عن دواميته و وهميته ، تورط الفرد بدوره في هوية مأدلجة على مستوى تفكيره ، بمعنى أدلجة مفهوم الهوية في إرتباط مع إستلاب التماهيات في تساءل طاب. و لابد أخيرا من رفع إلتباس محتمل منتظر للهوة الفاصلة : بين الهوية المشخصنة و الهوية اللامشخصنة في إبراز مساهمة لافيريير (Laferriere) ، و تأكيد عمق ما ذهب إليه شكسبير في مبدأ "كن خصالا لذاتك" ، و ذلك من خلال العناصر الأساسية القاعدية التي تترجم مساهمة الفرد في إبتكار هويته الشخصية ، في سياق ذات الهوية المشخصنة ، و أهمها : (6) - إرادته في التعرف إلى ذاته. - أن يكون هو ذاته. - التحقق التام كشخص. - تقدير حياته الخاصة و شخصه. - تثمين فردانيته ، و فردانية الآخرين. - إلتزام شخصي بالحياة في أصالة. إختصارا آخر ، و فيما يتعلق بالعناصر التي تكبح الهوية الإختيارية كحالة للهوية اللامشخصنة ، نستعرض مع لافيريير العوامل التالية : - الحاجة المفرطة للحصول على الإستحسان و القبول. - تماهيات مفرطة مع الغير. - قدر كبير من التبعية للأعراف و المثل و التوقعات الإجتماعية. و بعبارة تلخيص و تبسيط نتائج وجهة نظر لافيريير ، نسجل أن الهوية المشخصنة تكون نتيجة عن إرادة ذاتية ، بإعتبارها إيجابية و سوية و منفتحة و مبتكرة و مختارة ، على خلاف الهوية اللامشخصنة التي هي هوية مستلبة و "هوية فخ" ، متموقعة على ذاتها ، و مستدمجة من خلال قهرية التقمص ، زيادة على أنها مقصية و إكراهية ، حيثما التموقع على الذات يخلق هوية متسلطة ، تسلب الشخص هويته. مما يعني التشبث بهويات مغايرة و جاهزة ، و هذا ما يعرف و يحيل إلى مفهوم "إستلاب الإنسان". تبقى إذن ، الهوية هي نظرة الذات التي هي عبارة عن شبكة لقراءة الواقع من الوسط المعاش و المتنفس فيه ، ضمن نطاق "الهنا" و الآن". و حيثما يكون الشخص معرض لإكراهات المجال الخبراتي في الوسط الإنساني الإجتماعي تصبح الهوية إكراها و إستلابا ، نكون بالتأكيد أمام هوية لامشخصنة ، كتأكيد مرة أخرى ، على أن الهوية تفرض من الخارج ، على مستوى دخول الهوية في صراع محتدم مع الذات ، في صراع مباغث مع الإستعدادات المكتسبة من خلال التعامل مع مجال معين ، أو الهابيتوس (Habitus) عند بورديو ، الذي هو عبارة عن نسق من مخططات الإدراك و التقويم و الفعل التي غرسها المحيط الإجتماعي داخل الفرد من الحياة الإجتماعية التي حلت و إستقرت في الجسم في زمان و مكان معينين ، كصورة أشبه باللاوعي الثقافي ، و ما يفرز ذلك من مفاهيم أخرى بورداوية متفرعة إنصياعية مثل إيتوس (Ethos) بإعتباره بنية من الإستعدادات ذات البعد الأخلاقي ، و مفهوم إكسيس (Hexis) التي تمثل في المباديء -المقدسة أو المدنسة من حيث الحكم عليها في زمان و مكان معينين- بكل ما يمليه ذلك من إنصياع و طاعة لأحكام و أنظمة "السلف" في الميادين كلها بميكانيزمات الضبط الإجتماعي و ممارسة القهر الرمزية. و هذا يفيد من وجهة نظر أخرى، كون الهوية جدلية كالأضداد في تجانس بين المواقف، حيث تكون الهوية ثابتة. و من موقع آخر ، هوية مستمرة و دينامية خاضعة كل الخضوع إلى المجال الخبراتي للشخص في نطاق التمدد و الإمتداد في تموضع الذات على مستوى الوجود الإنساني الأصيل. و إذا ذهبنا موغلين مع التحليل النفس الظاهراتي الجشطالتي ، و أخذنا مفهوم المجال الخبراتي ، و أدرجناه في نطاق بند التمدد "هنا" و الإمتداد "الآن" ، حيث "هنا" المحتمل ، لا تحدد كينونتي "هنا" فيزيائيا جسمانيا ، لأن كبسولتي الذهنية توجد في مدار أوسع و أشمل و أعمق بلا بداية و لا نهاية ، لا أريد لها أن تنتهي في زمكان محدد ، تتجاوز الحدود الضيقة و المصطنعة لجهوية ذهنية مفرطة و متطرفة على ذاتها ، أو متموقعة جغرافيا في حدود مصطنعة بشريا على ما يسمى تعسفا "الوطن" ، كتأكيد على دوامة داء حالة فكر الإنسان البشري ، أو ربما على فعل مخدر مجهول الهوية يتجاوز مسافة الضوء منطلق منطق "لحمة و طاقة" جمجمة العقل البشري ، حيث تكبح إنخراط كينونتي الهوياتية في زمكان أبتغي أن أكون فيه ، لأن حاليا لا أوجد في "المغرب" كما أوجد جسمانيا فيه ، و لا أوجد في الريف ، كما أوجد هويتيا فيه ، أو ربما لحظات في مكان آخر ، تختاره كينونتي الهوياتية لتنفس فيه صعداء ، حيثما شاءت ، و أينما شاءت ، و متى شاءت ، حسب همومها و طموحتها و خياراتها. و هو الموقف المبتغى الذي يؤدي إلى إرتسام سؤال الهوية من جديد بشكل عميق في الأذهان يرحب بفردانية حرة ، لا نريد لها نهاية ، كبداية نهاية "هنا" حلم ظلمة عين سوداء في ضوء دامس ، تتجاوز تلك الحكمة السائدة بأن الحقيقة الوحيدة في الوجود الإنساني للإنسان هي كونه يتجه يوما بعد يوم –و بالرغم من أنفه- نحو الموت و الزوال و يؤدي الإنخراط في اليومي ، أي في الوجود الإنساني "الزائف" إلى التنكر لتلك الحقيقة و إعتبار الموت واقعة تصيب الآخرين و ليس الأنا. "الآن" ، إن كينونتي برمتها حاضرة ، حيث يقع الماضي و الحاضر و المستقبل و اللاحدود ، تدرج الذات في الأبعاد الزمنية كتأثير في تاريخ الهوية ، كزمن معلق بلا بداية وحي و لا نهاية قيامة ، الذي قد يقتضي بناء للتاريخ. في حالة التمدد "هنا" و الإمتداد "الآن" , أعمل على إستحضاره في زمان و مكان مختارين مبتاغين أتحكم فيهما ، لأعيش حاضر هويتي الإفتراضية ، كما أعيش سطحية واقعي الفيزيائي الإفتراضي أيضا ، ضمن مشروع يتغذى من النجاح أو الفشل ، من تجارب معيشية أم خيالية ، من تمثلات واقعية أم يوتوبية ، ينتج عن ضرورة إستخراج الأعمق و الأبعد في الشخصيات الإنسانية مع كل التناقضات المتضمنة فيها. تقترب شيئا ما هملت من هذا الإتجاه ، و هي أن "حكاية إنسان لا يفعل ما يعتقد أنه من واجبه أن يفعله و أن دوافع سلوكه لا تظهر مباشرة بل نحن نرى تطوره لا غير و في شكل رموز لا نتمكن منها" (7) في رأي لوكاتش عن واقعية رواية هملت في فلسفته التاريخانية عن دور الإرادة في صنع التاريخ. هكذا أيضا ، أمكن تدعيم إرتباط أشكال التعبير الفني بالتصور العميق للظواهر التعبيرية التجريبية و الباطنية بالشخصية الفردية ، كسيرورة تشخصن الذات في تشكيل الهوية. و إن كانت الهوية إفتراضية-واقعية ، متناقضة في حد ذاتها مع ذاتها ، بإعتبار الهوية سيرورة و تجدد ; إنها عملية هدم بناء في تناوب مستمر. بمعنى أنا اليوم لست أنا الغد ، و أن اللحظة لست أنا المقبلة ، أو ليس أكثر من أنا في مفهوم ميد ، بصيغة تصور الهوية كعامل في إستلاب الشخص ، و إختزاله في مجرد كائن مساير ، يُعرض ذات الشخص للإنكار و الإقصاء ، على خلاف تصور فكر ديكارت ، في رأيه أن الفرد ليس إنسانا مسايرا ، بمعنى ليس كائن مساير للتوقعات ، فهو منفتح و متفتح ، إنه قادر على تلقي الخطابات التي تشكل هويته في العالم. يفيد طرح مقابلة هذه الثنائية التضادية "أنا لست أنا" إلى إقصاء ذاتية الذات ، فيصير الإنسان غريبا عن بدنه ذاته و عن العالم الخارجي ، و كذلك عن جوهره الروحي و عن جوهره الإنساني. على هذا الأساس يكون من نتائج الإستلاب في العمل أن يفقد الشخص شخصيته ، حيثما الهوية تسلب هنا الشخص هويته في تصور آلان تورين. إنها حتمية إنتقال هوية الشخص من التشخصن إلى اللاتشخصن ، بيد أن تكوين الهوية هو تاريخ موكب للتقمصات و الإمتثالات الإجتماعية المحددة سلفا. و لعله من المفيد في هذا الصدد ، التذكير بأن الهوية تمارس الإكراه و الإستلاب على الشخص حتى عندما تتجاوز منظور "الهوهو" (La mêmeté). فإن ، ثمة إجبار الكائن الإنساني على الإنحشار في ذخيرة من الهويات الجاهزة و المصطنعة سلفا ، كإنتقال و تحول من حالة الهوية إلى حالة من اللاهوية ، أو كحالة من فراغ من هوية مشخصنة. إذ أن التشخصن ، إذا كان يفيد من منظور الدكتور رشيد الناجي اللاتشخصن ، فإنه يلتقي مع التشخصن باعتباره تكوين الهوية ، و من ثمة تصبح الهوية تحمل نقيضه اللاهوية. و هو ما يشير دائما في نفس الإتجاه إلى إختزال و إختصار الكائن إلى مجرد "دور" ، كتعبير عن الهوية المستلبة من منظور أن التشخصن يفيد نقيضه اللاتشخصن ، رغم كلايهما يلتقيان في حالات كثيرة عديدة بإعتبارهما تكوينا للهوية ، على أساس أن الهوية هنا تحمل نقيضها في معنى الهوية الأخرى. في معنى تغير الهوية ، أي "الفعل الذي تحاول من خلاله الذات أن تتبدل في خاصية أو مجموعة خصائصها" (8) في تجسيد مبدأ التغير ، كنقيض و تناقض جدلي هيجلي لمبدأ الثبات و السكون في فلسفة بارمنيدوس. و في هذا ، يندرج دفاع هرقليطس عن تغير الكائنات و الموجودات ، و نفي ثباتها ، فلاشيء يبقى على الحال ، و نحن كما يقول هرقليطس "لا يمكننا أن نستحم في ماء النهر مرتين" لأن الماء يتغير كما تتغير الهوية في صراع بارد مع الهوية الأخرى. تزداد العلاقة غموضا و توترا ، في إشكالية أو ربما إشكالة ، ما إذا كانت الهوية في الوقت ذاته تدعم الشخص أم تستلبه و تقصيه. يبقى التدعيم هنا يشير إلى "هوية مشخصنة" بمعنى هوية منفتحة على الذات ، أي هوية مدعمة ، في مقابل هوية مستلبة و إقصائية في "هوية لامشخصنة" التي هي هوية منغلقة على ذاتها ، تحيل إلى هوية سلبية و مقصية و إكراهية. حيثما تبحث دائما عن "فخ الهوية" في "عنف الهوية" التصادمي. تحيل الحالة اللاهوية عند فاناندرييل إلى إستلاب الشخص و إندراج كائنه في التوقعات الإجتماعية ، مما يعني "فاناندرييليا" تراجع "الحساسية إتجاه الذات" (La sensibilité à soi) التي تتحسد في التعبير عن الوعي بالذات ، و التشبع بقيم الفردانية من داخل موقع المجتمع ، كتعبير عن كنه الشخص ، و جواب على سؤال من أنت؟ الذي هو سؤال الهوية في طرح مالريو ; هذا السؤال لا يحتمل الإجابة عن ماهية الفرد ، و لا يبتغي البحث في هوية الفرد الجنسية أو العرقية أو الدينية أو السياسية أو المهنية أو الطبقية... بقدر ما يسعى و يستهدف كنه كائنه ، بمعنى طريقته في الكينونة ، و إختيارته العميقة ، و إستبطان حياته الوجودية ، من منظور خطاب أب الوجودية ، جون بول سارتر ، على أن "الشخص حر في بناء شخصيته" ، و أن "الإنسان ليس شيء آخر غير أنه صانع نفسه" "وعليه فإن أكون يعني أن أفعل ، و نحن نختار دائما كيف نفعل" كما يقول دائما سارتر. هكذا ، فسؤال الهوية ، سؤال وجودي كما هو علائقي ، ينظر إلى أسبقية الوجودية على الماهية و الهوية ، يبتغي للشخص أن يمتلك هوية مختارة أصيلة طموحة ، تتجسد في مشروع يطمح الوصول إليه ، بمعنى "أكون أو لا أكون" ، داخل ثنائية الداخل و الخارج لمرادف ثنائية الوجود و العدم لمفهوم الكينونة كسؤال أنطولوجي في هوية مشخصنة تفرض الإبتكارية و الإستقلالية و التلقائية لصنع الذات ، كحتمية مفروضة من الوسط الإنساني. بموازنة مع تقبل "الأنا" و "الأنا الآخر" ، يقول سيغموند فرويد "من لا يتقبل ذاته ، لا يتقبل الآخرين". و تبرز هنا في النطاق الهوياتي أهمية الإحتراز في علاقة الربط بين مفارقة الذات. إن طاب يرى أن ضمير المتكلم بصدد الذات لا يقوم إلا عبر وساطة تمني أن يصبح الآخر ، بمعنى "الأنا المثالي" ، تقول لغة هذا المتكلم –التي يمكن تحليلها على المستوى الفونولوجي- إنه شخص مرخص له بالكلام بغض النظر عما يمكن أن يقوله. و بصدد سلطوية اللغة ، فقد تحدث رولان بارت (R. Barthes) عن سلطة اللغة : إن اللغة بطبيعة بنيتها تنطوي على علاقات إستلاب قاهرة. ليست اللغة تبليغا –كما يقال عادة- إنها 'إخضاع'. اللغة إخضاع و توجيه معممان ; كل لغة تتعين ، قبل كل شيء بما تزعم على قوله ، لا بما تقوله ، و ليس ما أقوم به إلا نتيجة تتمخض عما أنا عليه. يمثل رولان بارت –لذلك باللغة الفرنسية- بقوله : حينما أعبر بواسطة اللغة ، أنا مرغم على أن أضع نفسي كفاعل قبل أن أعبر عن الفعل ، أنا مرغم دوما على الإختيار بين صيغة التذكير أو التأنيث ، و ليس ممكنا على الإطلاق إلغاء الصيغتين أو الجمع بينهما معا. و على نحو مماثل أيضا ، أنا مرغم دوما على الإختيار بين صيغة الفرد (أنت) و الجمع (أنتم) (9). و قد كتب مونتيت يقول : "أكبر شيء في هذا العالم هو أن تعرف كيف تكون". و تحت تأثير هذا "الأنا العميق" ، فإن الهوية ليست ملكا ، حتى عندما تستقر في موقع ما ، قد يكون : دور ، نجاح ، جسد ، لغة... بل هي حركة مد و جزر و فعل ينهض بإستمرار على تقمصات ضرورية و حيوية و مستلبة ، و على تقليد المعطيات الجاهزة ، معوضة دائما بأوهام أخرى ، يجب بدورها التخلي عنها. و بهذه السمة ، فالهوية كبنية ذاتية هي مشروع حياة ممتد في الزمان و ممارسة يومية تتميز بالتمثل الذاتي المستنبط من التفاعل الحاصل بين الذات و الذوات الأخرى ، بين الأنا و الآخر ; إما أن تقصيك أو تدعمك على مستوى إرتباطها التام بين مختلف أوجه الأنا ، من الناحية الوظيفية للتشخصن ; إما "الأنا الفردية" التي يمكن أن تكون الذات من بين الذوات الأخرى ، أو "الأنا القطيعية" التي تنصهر في تمفصلات إستلابية أمام حتميات المتطلبات و المؤثرات الخارجية ، سواء الثقافية أو الإجتماعية أو التربوية التي تتولاها جملة من الوسائط الإجتماعية بعينها أثناء سيرورة التنشئة الإجتماعية : الأسرة ، المدرسة ، وسائل الإعلام ، جماعة الرفاق... من ناحية دورها المؤثر على الفرد على مستوى الإستلاب أو التدعيم معا. فعلى سبيل منظومة الثقافة على رأي تايلور "ذلك الكل المعقد أو المركب الذي يتضمن المعارف و المعتقدات و الفن و القانون و الأخلاق و العادات و التقاليد و القيم و أي قدرات أخرى اكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع" ، منظور إليه من حيث تسلطها على شخصية الفرد التي تستبد به و تمارس عليه إكراها خانقا خلال التأثير الاجتماعي الذي يمارسه الأفراد على بعضهم البعض سواء كانوا أفرادا أم جماعات باعتبار أن الفرد مؤثر و متأثر ، إنه كائن اجتماعي بطبعه. و من ثمة ، يصبح "الأنا الآخر" موجود داخل كيان الفرد ، كمعطى مستورد وافد و داخيل "الأنا الفردية" ، أو قد تصبح "أنت لست أنت الآخر" ، و لكي تصبح كذلك لابد من أن تقبله "الأنا الذاتية" أو "القبول الذاتي" ، أي ينبغي أن يكون موضع إختيار فردي من سياق آخر إلى سياق موقفي ذاتي ، من سياق العلاقات و التفاعلات الثقافية-الإجتماعية التي تعتمد على الإعتماد المتبادل و أساسها التأثير و التأثر ، و التي تهدف إلى خلق و هندسة الهوية ، و إن كان ذلك شرط مسبق لكي توجد هناك فعلا هوية إلى سياق منطلق الهوية كمحصلة تطور و نتاج التفاعل الحاصل تطلعا للتحقيق الذاتي. أو بالأحرى الإختيار بين أمرين هما وجها لعملة واحدة : إما "الرفض المطلق" للآخر متمثلا كميتافيزيقيا الطابق و هوية موحدة شرا مطلقا ، و من ثم العمل على إحياء "الذات". و إما التبني الكامل لكل ما هو "آخر" دون إنتقاد و نقد ، و بالتالي التسليم بقدرنا كأنات ينبغي لها أن تظل تابعة قابعة للآخر. و نستكمل سياق تسلط الثقافة ، مع سياق منظور آخر ، و ذلك في إطار إشتغال جيرتز (Geertz) على تمثلات الشخص حسب الثقافات ، بإعتبار هذه الأخيرة لها دور في بناء هوية الشخص ، حيث توصل جيرتز في دراسته حول المغاربة إلى أن مفهوم الشخص بالمغرب يقود إلى غلو فرداني في العلاقات الإجتماعية ، كون مكانة الفرد (المغربي) هي التي تأخذ بعين الإعتبار ، و ليست مكوناته المقومة الأساسية ، بمعنى أن كل مغربي خلال تفاعله مع الآخر يفقد هويته "المؤقتة" ، بمعنى عملية الإنتقال الشكلي من هوية مشخصنة إلى هوية لامشخصنة ، ب "إبتكار" هوية إفتراضية مفروضة من الخارج مخالفة للهوية الأصلية ، و تكفي الإشارة هنا على سبيل المثال إلى موقف المغاربة الحالي السلبي لحد التطرف من الولاية المتحدةالأمريكية لأسباب تنشئوية و إيديولوجيا و غيرها ، لكن قد يكون مخالفا كليا إذا ما تم فتح الحدود للهجرة نحوها للبحث عن رفاهية القدرات و لقمة الرغيف في الحياة الرغيدة المرغوبة. و يستطرد جيرتز في مقام آخر ، أن كل مغربي بوسعه خلال التفاعل ، و دون خشيته من فقدان هويته أن يكون براجماتيا كليا ، و متكيفا ، و إنتهازيا حسب الموقف (10). هنا يتسأل فاناندرييل الذي إهتم بدراسة هذه السلوكات الشاذة للمغاربة ، قائلا : "إذا نقلنا هذه السلوكات إلى سياق القيم الفردانية الغربية (الأوربية) فإنها تبعث على التسأل : هل هؤلاء الأفراد (المغاربة) الذين هويتيا (Identitairement) 'لاشيء' (un rien) هو الذي يتيح لهم أن يكونوا 'الكل' (le tout) حسب الظروف؟" (11). من الواضح أن الحالة اللاهويتية هذه ، تتجسد في ضعف "الأنا الفردية" و رهبة "الأنا القطيعية" و الشعور المرتبط به ، و الرغبة في إرضاء "الأنا الأعلى". كل هذه الأمور تجعل متطلبات المرحلة و المواقف و الظروف موقف إمتثال من قبل الفرد ، و من ثمة إستلاب الشخص ، و إندراج كائنه في التوقعات الإجتماعية في ظل غياب الوعي بالذات ، و عدم إعطاء الأولوية و الصدارة للذات ، و الوعي بها بالنسبة للواقع و العالم الخارجي ، و التشبع بالقيم الشخصانية بصيغة الفردانية على أساس أن مجموع من الباحثين يعتبرون أن "التشخصن سيرورة تفردن في معنى أن الكائن لا يحرز على تفرده عبر تميزه بخصائص فردية ، و لكن أيضا بخصائص شخصية". و أمام كل هذا ، يتعين -في تناقض و اصطدام مع مشاعيتنا- إعلاء قيم الفرد أو التفردية لمعاكسة الإنغلاق عن الجماعة ، كمناعة و مقاومة في ذات الفرد ضد الإنغلاق المفرط عن الجماعة في صراط الإنفتاح على الحداثة التي تنطوي على تغيير بنيوي في الفرد و المجتمع ، و أنسنة العالمية بدل عولمتها ، لمواجهة "عضوانية الكليانية" التي تفضي إلى حرمان الأفراد من حقهم في إمكانية العيش لأجل الذات و التفكير بالذات. في نفس هذا الإتجاه ، يدعو بريفوست (Prevost) إلى إعادة إستحداث التوازن بين الثنائية غير المتكافئة و غير المتوازنة : الفرد و الجماعة ، حتى لا تسحق الأخيرة الأولى ، و كي لا تسرق و تسلب هويته الشخصية المشخصنة. معنى ذلك ، ينبغي ، بل يجب إعلاء و "إعلان و إثبات و ترتيب سيادة الفرد و الحياة الفردية أو الشخصية" في نداء دعوة بريفوست (12) ، خصوصا و أن مماثلة و مشابهة و مطابقة التصور العضوي بالوحدة الإجتماعية كما نستشفه في تصور ألان لوران (Laurent) يؤدي إلى إختزال الأفراد –كخلايا ضمن عضوية جماعية حية- في مجرد مهمة أعلى من سلطة الأفراد داخل "الكل" الذي "ينتمون إليه ، و بالتالي إلى تسخيرهم لخدمة غاية فوقانية ، تتجاوزهم ، و تقصي إستقلاليتهم (و تستبد بحريتهم) ، و تفرغهم من ذواتهم ، و من كل إمكانيات المبادرة" (13) إلى استلاب هويتهم في هويات جاهزة محددة سلفا قبل ولادتهم ، و إن أرادوا أنفسهم أحرارا لا غرباء في إرادتهم ، فرقابة قانونية عرفية نظامية إجتماعية جماعية كلية ، لكي تمكن محاكمتهم و إدانتهم إجتماعيا ، لكي يصيروا هوياتيا مذنبين منحرفين ; و بالتالي يلزم قطعا أن تفهم كل هوية على أنه كان كامنا في الذات ، في سجن الذات داخل الذات ذاتها ، كهوية إفتراضية : هوية/لاهوية ، متجاوزة/لامتجاوزة... و هناك –بلا شك- حكمة في أنتروبولوجية فلسفة أفلاطون "إعرف نفسك بنفسك" ، كهوية أخرى ينبغي أن نبحث عنها ، بالعودة و تكرار محاولة البحث عن مفتاح الذات ، في "بحثت عن نفسي" منذ أبحاث فلسفة اليونان الإغريقية ، لم يجد ذات الهوية الأخرى هراقليطس (475-540 قبل الميلاد) ، و لازال البحث مستمرا عن هذا الضيف الآخر الذي يسكننا على نحو آخر. الهوامش : 1) Malrieu Ph, Baubion – Broye A, Hajjar V, le rôle des ouevre dans la socialisation de l'enfant et l'adolescent, In. La socialisation de l'enfance à l'adolescence, Op. Cit. 2) فريديرك نيتشه ، أفول الأصنام ، ترجمة حسان بورقية و أحمد الناجي ، إفريقيا الشرق ، الطبعة الأولى ، 1996 ، ص 31.. 3) Touraine A, Pour la sociologie, Paris, Ed. Du seuil, 1974, P : 180. 4) أفول الأصنام ، نفس المصدر السابق ، صص : 41-42. 5) بيير بورديو : بيير بورديو و السوسيولوجيا ، تعريب محمد بودودو ، المجلة المغربية للاقتصاد و الاجتماع ، عدد 8 ، 1986 ،ص 102. 6) LAFERRIERE TH, Unicité et création de soi, In. Identité individuelle et personnalisation. Op. Cit, PP : 225-257. 7) الطاهر لبيب ، سوسيولوجيا الثقافة ، دار قرطبة للطباعة و النشر ، الطبعة الثانية ، الدارالبيضاء ، 1986 ، ص : 55. 8) André lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, 2 é, Ed. PUF, Paris, 1992, P : 138. 9) R. Barthes, Leçon, Seuil, Paris, 1978. 10) VANANDRUEL M, la socialisation de soi, Op. Cit, P : 141. Ibid, P : 142.(11 12) Prevost j. f, le peuple et son maitre, Plan, 1983, P : 201. 13) Laurent A, De l'individualisme : Enquête sur le retour de l'individu, Paris, P .U.F, 1985, P : 87.