ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهوية كبحث عن الذات
نشر في شبكة طنجة الإخبارية يوم 16 - 07 - 2009

ما نتحدث عن الهوية بما هو يتحدد في ضيافة مفهوم مزعج، حده لزج، ملغز، محير، شائك، متشعب... هو الحد الذي لا يستطيع أي بحث الإمساك به ، إنها الذات الأكثر غنى ، و ثراء في تباشير الوعي الإنساني ، تنفلت بإستمرار من الضبط العلمي و الفهم العقلاني ، هي أكثر المفاهيم تداولا ، و أكثرها غموضا و تلونا ، هو المعطى الجوهري المكتمل الخارج عن التاريخ ، يتسم بقدسية نسبية متعالية ، الشيء الذي يصعب الإقتراب من شفرة شيمة هذا "الشيء اللاشيء" الغريب الذي يسكننا على نحو غريب. ينفلت دائما في ديمومة مجرى عمق ذاتية الكائن التأنسي اللامنتهي ، كحلقة من السلسلة اللامتناهية لحلقات الحوار بين الذات و الهوية ، نتصوره يتجذر في أعماق غموض سر الإنسان ، يؤجج دوافع كنه و ذاته في حقل النفس الإجتماعي ضمن وحدة منسجمة لها منطقها الخاص و إستقلالها النسبي ، يتشكل عبر صيرورة طويلة من التحولات ، يستضيف مفاهيم جد معقدة و جد مضطربة و محشوة بالغرابة ، لكنه لا يخاطر في الخلط بين المفهوم و المدرك. إنه دائما يسعى إلى معرفة النفس الذاتية ، التي هي أسمى غاية في البحث الهوياتي للهوية النفسية الإجتماعية ، و إن تعددت صور وعي الإنسان بذاته على مدار تاريخ عصور البشرية البدائية المدنية المتأنسة. و لكي يدرك مغزى هذا المفهوم ، لابد أن يتوافق مع مدارك ، و مدركات منظومات العقل لدينا. هكذا يعلمنا العلم ذاته كما يتفق ، أو قد لا يتفق مع ذواتنا. وهذا في رأينا ، مكمن قوة الانسان و ضعفه معا ، و من ثمة نصل إلى النتائج التي هي في أصلها ، إنطلاق و مقدمة أنتجها العقل ، وليد خبرتنا الذاتية ، و معرفتنا الأخرى.
فالحديث عن هذا التصور المفهومي الأفهومي الهوياتي هنا ، يقتضي هناك إذا كنا فعلا نريد أن نقبض على ناصية الحقيقة ، و نفهم معناه في سياق عملية إستبيان و فك الشفرة الهوياتية ، أن نحقق أولا الإنعكاس الذاتي ، و في الوقت ذاته الوعي الذاتي بالذات برد أفكار الإنسان إلى ذاته ، كتأكيد للنزعة الإنسانية الثابتة ، و من ثم التعميق في تحديد المفاهيم الجديدة المستضافة ، التي ولدت أصلا في رحم البحث الهوياتي ، في إطار معرفة النفس و ضرورتها ، لمعرفة الذات الإنسانية ، التي لا تعدوا عند كاسيرر رغبة نظرية ، و ليست هي فحسب موضوعا لحب الإستطلاع و التأمل ، بل هي الواجب الجوهري للإنسان ، الذي يحتاج هذا لمجهود إضافي و مغامرة الغوص في ثناياها و التنقيب بحذر شديد في دهاليزها المظلمة و الملغومة وفق آليات مفهومية و تصورات معرفية تفسر التناقض الفج و الغموض الصارخ ضمن عمق الفلسفة المعرفية و الخبرات الفردية و الجماعية : المحلية و الكونية.
و ضمنيا هنالك سؤال عويص عريض يتبادر مباشرة إلى أذهننا و تمثلاتنا : ما الهوية؟. في طرحنا هذا ، و في إطار محاولة القضاء على القلق المعرفي الذي يساور مهمة الإقتراب من هذا المفهوم الملتوي الغامض المنفلت بإستمرار من تفسيراته السائدة المختلفة حسب الرؤية و المنهجيات و التصورات "العليا" من حقل معرفي إلى إنساني منه ، لا نريد مزارع حقوله الأخرى ، لها موضوعاتها و تحليلاتها و تصورتها و قضاياها الخاصة المؤرقة دائما لأسئلة تفلسف فلسفة العقل في قمة عرش تاج مملكة العلوم. و لكن ، فقط نؤكد هنا ، من منظور علم النفس الظاهراتي الجشطالتي (نسبة إلى جشطالت) –و لا غرو إذا قلنا- إنه يسعى دائما إلى تحديد المفاهيم المعقدة الغامضة شبيهة بتلك التي تناصر العالم الروحي ضد العالم المادي. إذ أن سؤال الهوية بالنسبة للنفس الظاهراتي يجد ذاته و يبتغيها و يهويها في زاوية أكثر عمقا و تكيفا و إنشطارا مع الذات ، أي طريقة جديدة للبحث ، ليس في البحث عن ماهية هوية المجتمع ، و إنما عن كنه الشخص الهوياتية في الوسط. لأن سؤال المجتمع في الحقل السيكولوجي الظاهراتي لا أساس له من التأكيد ، بمعنى لا يتضمن في ذاته يقينا، فذاتية الهوية تتشكل داخل "الكل" الوسط ، الذي يتحول إلى المجال الخبراتي ، و منها ما يجعل الهوية جزءا من ذات أعم من المعطى النفسي ، فتنمو الهوية و تتعايش في ذاتها و مع ذاتها في صراع مع جدلية أضداد الماني (نسبة إلى الإله الأسطوري ماني) إلى جانب مفاهيم أخرى أكثر تناقضا و غموضا داخل ثنائية التضاد : التشخصن-اللاتشخصن ، التدعيم-الاستلاب...
الآن و هنا ، نبحث عن الهوية دون الخوف الذاتي من "إنسلاخ" مما هو ذاتي ، من موقعه الطبيعي في المجال الخبراتي ، بإعتباره و على أساسه نبتغيه أن يكون الآلية التي تمكن الشخص من معرفة ذاته ، التي هي أسمى معرفة في البحث الهوياتي. و بلورة هذه الذات كمنطلق لهوية ضرورية و ممتنعة في الوقت ذاته تتضمن الأداة التي تمكن من معرفة الذات عن طريق الذات نفسها ، بمعنى ما يجعل الذات إتجاه ذاتها و مرآة للذوات الأخريات أو بتعبير جميل ، الذات كالمرأة القابلة المولدة للهوية.
عمليا ، و على هذا الأساس ، تكون القيمة الذاتية للهوية الشخصية نفسها و في ذاتها و من الوسط الذي تنمو و تتجاذب فيه تحت تأثيرات منبهات مختلفة ، مما يؤكد على أن الهوية تفرض من الخارج. و أكيد هنالك هوية جاهزة تؤكد جاذبيتها و قوة مغنطتها لأشخاص من خلال عملية التقمص (identification) كظاهرة من صنع المجتمع ، و ستظل دائما كذلك في امتثال الأفراد للمتطلبات الإجتماعية ، لتقليد ما هو سائد و مقبول من طرف الجماعة تحت سقف استبداد القهر الاجتماعي الذي يؤكد قدسيته في محيط الوسط الإنساني. و كل تمرد عنه ، يعتبر انحرافا عن المعيار الاجتماعي ، حيث إن أساس وصف الهوية الأخرى ، كمرآة عاكسة للبنية الفردية الحرة بأنها نوع من الانحراف يعتمد على التعريف الاجتماعي بأنه أي فعل أو سلوك يخالف معايير و قيم و نظم مجتمع معين أو لا يؤدي الأدوار كما هي في وظيفية تالكوت بارسونز. هذه النظرية الوظيفية التي انبثقت مع إيميل دوركايم تعتمد على شيئين : أن سلوك الأفراد مرتبط بالتنشئة الاجتماعية. ثانيا بمسألة الأدوار الاجتماعية ، حيث إن التنشئة لا تترك للفرد الحرية في السلوك لأن هذا السلوك مبني على التنشئة : هناك علاقة جدلية ، هناك قهر ، في إنجاز الوظائف و تأدية الأدوار الاجتماعية التي جعلت من أجل الاندماج الاجتماعي في تصور دوركايم الموجودة في النسق الاجتماعي قبل وجود الأفراد.
و لاشك هذا ، ما يجعل الشخص يعيش في تناقض مستمر دائم بين موطنه الداخلي الأصلي للوعي الباطني ، و عالمه الإجتماعي للوعي بالنسبة للواقع و العالم الخارجي ، كواقع في إنكار الذات الشخصية الخاصة به ، يؤدي شيئا فشيئا إلى التمرد عنها ، و الإنقلاب عن الهوية الأصلية ، في مقابل "إبتكار" هوية جديدة جاهزة مستهلكة غير أصيلة و أصلية ، نعبر عنها ب "هوية لامشخصنة" التي تجدد إنكار الذات و الإنصياع في بوتقة الآخر و قبول "جاذبية" التقمص من الوسط المعاش فيه. كتأكيد مرة أخرى على حضور التبعية القائمة، و الخضوع للهوية المفترضة المستلبة عن طريق التقمص. ذلك أن ما يثير هذا المنعطف ، هو سؤال تناقض الذوات باعتبار الهوية عامل في إستلاب الشخص ، و إدراجه في بوتقة الكائن المساير. و في الوقت ذاته ، عامل في تدعيم كنه الشخص ، أو بعبارة مالريو (Malrieu) : "هوية مشخصنة" في مقابل "هوية لامشخصنة"(1)
و إذا كان البعض يرى أن الهوية هي عملية هدم بناء في تناوب مستمر تطلعا للتحقيق الذاتي ، كمساهمة في بلورة هوية جديدة متجددة ، بما يسميه البعض الآخر ب "عملية التشخصن" ، و أن الهوية محكومة بحكم قيمة ، كتأكيد مرة أخرى على أن التشخصن كائن مساير من "الآن" للعالم الخارجي. دون أن نخرف نحن عن عالم آخر غير عالمنا كمسألة لا معنى لها ، حتى لا نأول في سياق مماثل وجهة نظر أطروحة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في إفتراضه لكم أن "غريزة تحقير الحياة ، تنقصها و الإرتياب فيها قد يكون لها الغلبة فينا. إننا ، في هذه الحالة ، ننتقم من الحياة بمواجهتها بمشهد خارق من حياة أخرى" (2)
و رغم هذا السياق ، يبقى التمايز موجودا ، ذلك أن تورين (Touraine) في رأيه هذا ، يرى الهوية في "الحياة الخارجية" هي عامل إستلاب الشخص ، و إختزاله في كائن مساير ، على أساس أن الهوية تفرض من الخارج في تصور رأي تورين ذاته. و حتى نستوعب رأيه ، لنتأمل ما يقوله في قوله : "لا تقول لي من أنا , و لا دلالة ما أفعل ، و لكن ، قل لي ماذا يجب أن أكون ، و السلوكات المتوقعة مني تحت طائلة الإقصاء" (3) كل هذا بلا شك مرتبط بالعوامل الخارجية عن الذات ، و بالأهمية التي يوليه دور التقمص في سيرورة التنشئة الإجتماعية : دور في إقصاء أم في تدعيم الشخص ، على مستوى بنيتها و علاقاتها العاطفية و التربوية التنشئوية المشروطة بالوساطة الإجتماعية نفسها بإعتبارها "الوكيل النفسي" للمجتمع حسب فهم فيلهم. و هو ما يؤكد دائما في نفس الإتجاه فكرة تأثير الظواهر الإجتماعية-النفسية الفوق بنيوية في البنية. على أن تورين في ذات السياق ، يسجل العوامل الخارجية ، و يدرج مساهمتها في إستلاب هوية الشخص و هدمها ، و في تدعيم هوية الشخص و بناءها.
و سنستشف في مقام آخر ، تتمة تورين في أطروحة مالك شيبيل (Malek Chebel) التي تطرح الهوية في الإمارة الخاصة التي ينكشف من خلالها الإجتماعي في الفرد. بإعتبار الهوية هنا لا توجد إلا صراعية و متعددة. بمعنى الهوية كما يتصورها شيبيل هي بنية ذاتية تتميز بتمثل الذات من خلال العلاقة القائمة على أساس الإعتماد المتبادل في التفاعل الحاصل بين الأفراد و الآخرين. لكن حيثما يدمج الشخص الآخر أو الذات الأخرى يقصي ذاته و شخصه ، فيصير فاقدا للهوية تحت طائلة الإقصاء و التقمص ، بيد أن الهوية المشتركة تعمل على إنكار الذات الفردية ، و كذلك إلى إنكار ما ذهب إليه كلود ليفي ستراوس الذي إعتبر الهوية عملية إدراكية تتعلق بعملية تقييم متبادلة ما بين تقييم الفرد لذاته و تقييم الآخرين له.
و كي نمثل هذا الفهم الهوياتي في عالم علائقي مشخصن و مقمص ، نسجل إجماع علماء النفس على أن مرحلة المراهقة تعرف طفرة و قفزة نوعية مميزة في عملية التشخصن ، كإشارة طوباوية في خط تفكير طاب ، على أن فترة المراهقة هو فضاء للتقمص. بمعنى آخر ، إستلاب الهوية في التوقعات الإجتماعية ، على خلاف ما إذا كانت النزعة الذاتية بمعناها الإيجابي حاضرة في الرغبة و الإبتكار كحضورها في حاضرة الذات الذاتية للإنسان ، كتعبير تلقائي عن المساهمة في تقوية و تدعيم الهوية الشخصية الإنسانية أمام التبعية الساذجة و الخضوع للمتطلبات القهرية و صنارة الاهتمامات و المهمات و الالتزامات الاجتماعية ، المتمثلة في تخليق حياة الإنسان الساذجة أيضا. و حتى نفهم هذه الصورة النموذجية ، و في الوقت ذاته نستحضر إرادة تورين ، لنتأمل تمثلات نيتشه في أفول الأصنام ، يقول : " 'كم هو ساذج أن نقول : يجب على الإنسان أن يكون هكذا أو كذلك !' فالواقع يقدم لنا عددا هائلا من النماذج ، وفرة غزيرة من تمثيل لامتناه للأشكال و التحولات ، و إذا بأي شخص من الأخلاقيين المستعدين لأي شيء يقول لنا : 'لا ! وجب على الإنسان أن يكون بخلاف هذا !'... بل إن هذا المنافق المشؤوم يعرف حتى كيف يجب على الإنسان أن يكون : إنها صورته الخاصة التي تآمر عليها صائحا : 'Ecce Homo !' (1 هذا الإنسان 'م') فحتى عندما لا يفتأ الأخلاقي يتوجه إلى المرأ و يقول له : 'هكذا أو كذلك يجب عليك أن تكون' " (4). يظهر بورديو –متجاوزا تصور نيتشه- أن الذوات ليست أشياء ، فحتى "الوهم ليس له –بما هو كذلك- وجود وهمي (...) يجب أن يرقى إذن إلى موضوعية أسمى، تفسح مجالا لهذه الذاتية كبعد من أبعادها، فأعضاء المجتمع يعيشون وعي لا يعكس الحقيقة التامة لما يقومون به، و لكن يشكل مع ذلك جزءا من حقيقة ممارستهم العملية" (5). مما يعني أن وجوه الناس ليست سوى أقنعة زائفة تخفي ورائها حقيقية نفوسهم و ذواتهم.
و إذا كان المفهوم النفسي للهوية ، كما هو سائد و مستهلك من لدن بعض النفسانيون يمتلك خاصية إيديولوجيا كوعي زائف في هذا السياق ، فإن الهوية في خط تفكير نفسية طاب هي في إرتباط أو صراع مع الإيديولوجيات التي تخضع إشتغال و صيرورة المجتمع و الجماعات و المؤسسات التي تتشكل منها ، بمعنى أن الهوية اللامشخصنة تورط الهوية في إيديولوجيا الشخص في تصور طاب. و يعترف لابلاتين (laplatine) بحقيقة ضبابية مفهوم الهوية ، حيث يقول : "إنها من أكثر المفاهيم الفلسفية فقرا على المستوى الإبستيمولوجي ، و لكنه بالمقابل يتمتع بفعالية إيديولوجية كبرى". يبقى و لاشك هذا التساؤل : إذا كانت الهوية المشخصنة تأكيدا بدورها لتأثير الظواهر الفكرية أو الإيديولوجية في مستوى البنية الذاتية ، و إن كانت هي حركة و فعل ينهض بإستمرار على تقمصات ضرورية و مستلبة لأشخاص أو جماعة أو إيديولوجيا... كإلتماس ضروري و حيوي ، بغض النظر عن دواميته و وهميته ، تورط الفرد بدوره في هوية مأدلجة على مستوى تفكيره ، بمعنى أدلجة مفهوم الهوية في إرتباط مع إستلاب التماهيات في تساءل طاب.
و لابد أخيرا من رفع إلتباس محتمل منتظر للهوة الفاصلة : بين الهوية المشخصنة و الهوية اللامشخصنة في إبراز مساهمة لافيريير (Laferriere) ، و تأكيد عمق ما ذهب إليه شكسبير في مبدأ "كن خصالا لذاتك" ، و ذلك من خلال العناصر الأساسية القاعدية التي تترجم مساهمة الفرد في إبتكار هويته الشخصية ، في سياق ذات الهوية المشخصنة ، و أهمها : (6)
- إرادته في التعرف إلى ذاته.
- أن يكون هو ذاته.
- التحقق التام كشخص.
- تقدير حياته الخاصة و شخصه.
- تثمين فردانيته ، و فردانية الآخرين.
- إلتزام شخصي بالحياة في أصالة.
إختصارا آخر ، و فيما يتعلق بالعناصر التي تكبح الهوية الإختيارية كحالة للهوية اللامشخصنة ، نستعرض مع لافيريير العوامل التالية :
- الحاجة المفرطة للحصول على الإستحسان و القبول.
- تماهيات مفرطة مع الغير.
- قدر كبير من التبعية للأعراف و المثل و التوقعات الإجتماعية.
و بعبارة تلخيص و تبسيط نتائج وجهة نظر لافيريير ، نسجل أن الهوية المشخصنة تكون نتيجة عن إرادة ذاتية ، بإعتبارها إيجابية و سوية و منفتحة و مبتكرة و مختارة ، على خلاف الهوية اللامشخصنة التي هي هوية مستلبة و "هوية فخ" ، متموقعة على ذاتها ، و مستدمجة من خلال قهرية التقمص ، زيادة على أنها مقصية و إكراهية ، حيثما التموقع على الذات يخلق هوية متسلطة ، تسلب الشخص هويته. مما يعني التشبث بهويات مغايرة و جاهزة ، و هذا ما يعرف و يحيل إلى مفهوم "إستلاب الإنسان".
تبقى إذن ، الهوية هي نظرة الذات التي هي عبارة عن شبكة لقراءة الواقع من الوسط المعاش و المتنفس فيه ، ضمن نطاق "الهنا" و الآن". و حيثما يكون الشخص معرض لإكراهات المجال الخبراتي في الوسط الإنساني الإجتماعي تصبح الهوية إكراها و إستلابا ، نكون بالتأكيد أمام هوية لامشخصنة ، كتأكيد مرة أخرى ، على أن الهوية تفرض من الخارج ، على مستوى دخول الهوية في صراع محتدم مع الذات ، في صراع مباغث مع الإستعدادات المكتسبة من خلال التعامل مع مجال معين ، أو الهابيتوس (Habitus) عند بورديو ، الذي هو عبارة عن نسق من مخططات الإدراك و التقويم و الفعل التي غرسها المحيط الإجتماعي داخل الفرد من الحياة الإجتماعية التي حلت و إستقرت في الجسم في زمان و مكان معينين ، كصورة أشبه باللاوعي الثقافي ، و ما يفرز ذلك من مفاهيم أخرى بورداوية متفرعة إنصياعية مثل إيتوس (Ethos) بإعتباره بنية من الإستعدادات ذات البعد الأخلاقي ، و مفهوم إكسيس (Hexis) التي تمثل في المباديء -المقدسة أو المدنسة من حيث الحكم عليها في زمان و مكان معينين- بكل ما يمليه ذلك من إنصياع و طاعة لأحكام و أنظمة "السلف" في الميادين كلها بميكانيزمات الضبط الإجتماعي و ممارسة القهر الرمزية.
و هذا يفيد من وجهة نظر أخرى، كون الهوية جدلية كالأضداد في تجانس بين المواقف، حيث تكون الهوية ثابتة. و من موقع آخر ، هوية مستمرة و دينامية خاضعة كل الخضوع إلى المجال الخبراتي للشخص في نطاق التمدد و الإمتداد في تموضع الذات على مستوى الوجود الإنساني الأصيل.
و إذا ذهبنا موغلين مع التحليل النفس الظاهراتي الجشطالتي ، و أخذنا مفهوم المجال الخبراتي ، و أدرجناه في نطاق بند التمدد "هنا" و الإمتداد "الآن" ، حيث "هنا" المحتمل ، لا تحدد كينونتي "هنا" فيزيائيا جسمانيا ، لأن كبسولتي الذهنية توجد في مدار أوسع و أشمل و أعمق بلا بداية و لا نهاية ، لا أريد لها أن تنتهي في زمكان محدد ، تتجاوز الحدود الضيقة و المصطنعة لجهوية ذهنية مفرطة و متطرفة على ذاتها ، أو متموقعة جغرافيا في حدود مصطنعة بشريا على ما يسمى تعسفا "الوطن" ، كتأكيد على دوامة داء حالة فكر الإنسان البشري ، أو ربما على فعل مخدر مجهول الهوية يتجاوز مسافة الضوء منطلق منطق "لحمة و طاقة" جمجمة العقل البشري ، حيث تكبح إنخراط كينونتي الهوياتية في زمكان أبتغي أن أكون فيه ، لأن حاليا لا أوجد في "المغرب" كما أوجد جسمانيا فيه ، و لا أوجد في الريف ، كما أوجد هويتيا فيه ، أو ربما لحظات في مكان آخر ، تختاره كينونتي الهوياتية لتنفس فيه صعداء ، حيثما شاءت ، و أينما شاءت ، و متى شاءت ، حسب همومها و طموحتها و خياراتها. و هو الموقف المبتغى الذي يؤدي إلى إرتسام سؤال الهوية من جديد بشكل عميق في الأذهان يرحب بفردانية حرة ، لا نريد لها نهاية ، كبداية نهاية "هنا" حلم ظلمة عين سوداء في ضوء دامس ، تتجاوز تلك الحكمة السائدة بأن الحقيقة الوحيدة في الوجود الإنساني للإنسان هي كونه يتجه يوما بعد يوم –و بالرغم من أنفه- نحو الموت و الزوال و يؤدي الإنخراط في اليومي ، أي في الوجود الإنساني "الزائف" إلى التنكر لتلك الحقيقة و إعتبار الموت واقعة تصيب الآخرين و ليس الأنا.
"الآن" ، إن كينونتي برمتها حاضرة ، حيث يقع الماضي و الحاضر و المستقبل و اللاحدود ، تدرج الذات في الأبعاد الزمنية كتأثير في تاريخ الهوية ، كزمن معلق بلا بداية وحي و لا نهاية قيامة ، الذي قد يقتضي بناء للتاريخ. في حالة التمدد "هنا" و الإمتداد "الآن" , أعمل على إستحضاره في زمان و مكان مختارين مبتاغين أتحكم فيهما ، لأعيش حاضر هويتي الإفتراضية ، كما أعيش سطحية واقعي الفيزيائي الإفتراضي أيضا ، ضمن مشروع يتغذى من النجاح أو الفشل ، من تجارب معيشية أم خيالية ، من تمثلات واقعية أم يوتوبية ، ينتج عن ضرورة إستخراج الأعمق و الأبعد في الشخصيات الإنسانية مع كل التناقضات المتضمنة فيها. تقترب شيئا ما هملت من هذا الإتجاه ، و هي أن "حكاية إنسان لا يفعل ما يعتقد أنه من واجبه أن يفعله و أن دوافع سلوكه لا تظهر مباشرة بل نحن نرى تطوره لا غير و في شكل رموز لا نتمكن منها" (7) في رأي لوكاتش عن واقعية رواية هملت في فلسفته التاريخانية عن دور الإرادة في صنع التاريخ.
هكذا أيضا ، أمكن تدعيم إرتباط أشكال التعبير الفني بالتصور العميق للظواهر التعبيرية التجريبية و الباطنية بالشخصية الفردية ، كسيرورة تشخصن الذات في تشكيل الهوية. و إن كانت الهوية إفتراضية-واقعية ، متناقضة في حد ذاتها مع ذاتها ، بإعتبار الهوية سيرورة و تجدد ; إنها عملية هدم بناء في تناوب مستمر. بمعنى أنا اليوم لست أنا الغد ، و أن اللحظة لست أنا المقبلة ، أو ليس أكثر من أنا في مفهوم ميد ، بصيغة تصور الهوية كعامل في إستلاب الشخص ، و إختزاله في مجرد كائن مساير ، يُعرض ذات الشخص للإنكار و الإقصاء ، على خلاف تصور فكر ديكارت ، في رأيه أن الفرد ليس إنسانا مسايرا ، بمعنى ليس كائن مساير للتوقعات ، فهو منفتح و متفتح ، إنه قادر على تلقي الخطابات التي تشكل هويته في العالم.
يفيد طرح مقابلة هذه الثنائية التضادية "أنا لست أنا" إلى إقصاء ذاتية الذات ، فيصير الإنسان غريبا عن بدنه ذاته و عن العالم الخارجي ، و كذلك عن جوهره الروحي و عن جوهره الإنساني. على هذا الأساس يكون من نتائج الإستلاب في العمل أن يفقد الشخص شخصيته ، حيثما الهوية تسلب هنا الشخص هويته في تصور آلان تورين. إنها حتمية إنتقال هوية الشخص من التشخصن إلى اللاتشخصن ، بيد أن تكوين الهوية هو تاريخ موكب للتقمصات و الإمتثالات الإجتماعية المحددة سلفا. و لعله من المفيد في هذا الصدد ، التذكير بأن الهوية تمارس الإكراه و الإستلاب على الشخص حتى عندما تتجاوز منظور "الهوهو" (La mêmeté). فإن ، ثمة إجبار الكائن الإنساني على الإنحشار في ذخيرة من الهويات الجاهزة و المصطنعة سلفا ، كإنتقال و تحول من حالة الهوية إلى حالة من اللاهوية ، أو كحالة من فراغ من هوية مشخصنة. إذ أن التشخصن ، إذا كان يفيد من منظور الدكتور رشيد الناجي اللاتشخصن ، فإنه يلتقي مع التشخصن باعتباره تكوين الهوية ، و من ثمة تصبح الهوية تحمل نقيضه اللاهوية. و هو ما يشير دائما في نفس الإتجاه إلى إختزال و إختصار الكائن إلى مجرد "دور" ، كتعبير عن الهوية المستلبة من منظور أن التشخصن يفيد نقيضه اللاتشخصن ، رغم كلايهما يلتقيان في حالات كثيرة عديدة بإعتبارهما تكوينا للهوية ، على أساس أن الهوية هنا تحمل نقيضها في معنى الهوية الأخرى. في معنى تغير الهوية ، أي "الفعل الذي تحاول من خلاله الذات أن تتبدل في خاصية أو مجموعة خصائصها" (8) في تجسيد مبدأ التغير ، كنقيض و تناقض جدلي هيجلي لمبدأ الثبات و السكون في فلسفة بارمنيدوس. و في هذا ، يندرج دفاع هرقليطس عن تغير الكائنات و الموجودات ، و نفي ثباتها ، فلاشيء يبقى على الحال ، و نحن كما يقول هرقليطس "لا يمكننا أن نستحم في ماء النهر مرتين" لأن الماء يتغير كما تتغير الهوية في صراع بارد مع الهوية الأخرى.
تزداد العلاقة غموضا و توترا ، في إشكالية أو ربما إشكالة ، ما إذا كانت الهوية في الوقت ذاته تدعم الشخص أم تستلبه و تقصيه. يبقى التدعيم هنا يشير إلى "هوية مشخصنة" بمعنى هوية منفتحة على الذات ، أي هوية مدعمة ، في مقابل هوية مستلبة و إقصائية في "هوية لامشخصنة" التي هي هوية منغلقة على ذاتها ، تحيل إلى هوية سلبية و مقصية و إكراهية. حيثما تبحث دائما عن "فخ الهوية" في "عنف الهوية" التصادمي.
تحيل الحالة اللاهوية عند فاناندرييل إلى إستلاب الشخص و إندراج كائنه في التوقعات الإجتماعية ، مما يعني "فاناندرييليا" تراجع "الحساسية إتجاه الذات" (La sensibilité à soi) التي تتحسد في التعبير عن الوعي بالذات ، و التشبع بقيم الفردانية من داخل موقع المجتمع ، كتعبير عن كنه الشخص ، و جواب على سؤال من أنت؟ الذي هو سؤال الهوية في طرح مالريو ; هذا السؤال لا يحتمل الإجابة عن ماهية الفرد ، و لا يبتغي البحث في هوية الفرد الجنسية أو العرقية أو الدينية أو السياسية أو المهنية أو الطبقية... بقدر ما يسعى و يستهدف كنه كائنه ، بمعنى طريقته في الكينونة ، و إختيارته العميقة ، و إستبطان حياته الوجودية ، من منظور خطاب أب الوجودية ، جون بول سارتر ، على أن "الشخص حر في بناء شخصيته" ، و أن "الإنسان ليس شيء آخر غير أنه صانع نفسه" "وعليه فإن أكون يعني أن أفعل ، و نحن نختار دائما كيف نفعل" كما يقول دائما سارتر. هكذا ، فسؤال الهوية ، سؤال وجودي كما هو علائقي ، ينظر إلى أسبقية الوجودية على الماهية و الهوية ، يبتغي للشخص أن يمتلك هوية مختارة أصيلة طموحة ، تتجسد في مشروع يطمح الوصول إليه ، بمعنى "أكون أو لا أكون" ، داخل ثنائية الداخل و الخارج لمرادف ثنائية الوجود و العدم لمفهوم الكينونة كسؤال أنطولوجي في هوية مشخصنة تفرض الإبتكارية و الإستقلالية و التلقائية لصنع الذات ، كحتمية مفروضة من الوسط الإنساني. بموازنة مع تقبل "الأنا" و "الأنا الآخر" ، يقول سيغموند فرويد "من لا يتقبل ذاته ، لا يتقبل الآخرين". و تبرز هنا في النطاق الهوياتي أهمية الإحتراز في علاقة الربط بين مفارقة الذات. إن طاب يرى أن ضمير المتكلم بصدد الذات لا يقوم إلا عبر وساطة تمني أن يصبح الآخر ، بمعنى "الأنا المثالي" ، تقول لغة هذا المتكلم –التي يمكن تحليلها على المستوى الفونولوجي- إنه شخص مرخص له بالكلام بغض النظر عما يمكن أن يقوله. و بصدد سلطوية اللغة ، فقد تحدث رولان بارت (R. Barthes) عن سلطة اللغة : إن اللغة بطبيعة بنيتها تنطوي على علاقات إستلاب قاهرة. ليست اللغة تبليغا –كما يقال عادة- إنها 'إخضاع'. اللغة إخضاع و توجيه معممان ; كل لغة تتعين ، قبل كل شيء بما تزعم على قوله ، لا بما تقوله ، و ليس ما أقوم به إلا نتيجة تتمخض عما أنا عليه. يمثل رولان بارت –لذلك باللغة الفرنسية- بقوله : حينما أعبر بواسطة اللغة ، أنا مرغم على أن أضع نفسي كفاعل قبل أن أعبر عن الفعل ، أنا مرغم دوما على الإختيار بين صيغة التذكير أو التأنيث ، و ليس ممكنا على الإطلاق إلغاء الصيغتين أو الجمع بينهما معا. و على نحو مماثل أيضا ، أنا مرغم دوما على الإختيار بين صيغة الفرد (أنت) و الجمع (أنتم) (9). و قد كتب مونتيت يقول : "أكبر شيء في هذا العالم هو أن تعرف كيف تكون".
و تحت تأثير هذا "الأنا العميق" ، فإن الهوية ليست ملكا ، حتى عندما تستقر في موقع ما ، قد يكون : دور ، نجاح ، جسد ، لغة... بل هي حركة مد و جزر و فعل ينهض بإستمرار على تقمصات ضرورية و حيوية و مستلبة ، و على تقليد المعطيات الجاهزة ، معوضة دائما بأوهام أخرى ، يجب بدورها التخلي عنها. و بهذه السمة ، فالهوية كبنية ذاتية هي مشروع حياة ممتد في الزمان و ممارسة يومية تتميز بالتمثل الذاتي المستنبط من التفاعل الحاصل بين الذات و الذوات الأخرى ، بين الأنا و الآخر ; إما أن تقصيك أو تدعمك على مستوى إرتباطها التام بين مختلف أوجه الأنا ، من الناحية الوظيفية للتشخصن ; إما "الأنا الفردية" التي يمكن أن تكون الذات من بين الذوات الأخرى ، أو "الأنا القطيعية" التي تنصهر في تمفصلات إستلابية أمام حتميات المتطلبات و المؤثرات الخارجية ، سواء الثقافية أو الإجتماعية أو التربوية التي تتولاها جملة من الوسائط الإجتماعية بعينها أثناء سيرورة التنشئة الإجتماعية : الأسرة ، المدرسة ، وسائل الإعلام ، جماعة الرفاق... من ناحية دورها المؤثر على الفرد على مستوى الإستلاب أو التدعيم معا. فعلى سبيل منظومة الثقافة على رأي تايلور "ذلك الكل المعقد أو المركب الذي يتضمن المعارف و المعتقدات و الفن و القانون و الأخلاق و العادات و التقاليد و القيم و أي قدرات أخرى اكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع" ، منظور إليه من حيث تسلطها على شخصية الفرد التي تستبد به و تمارس عليه إكراها خانقا خلال التأثير الاجتماعي الذي يمارسه الأفراد على بعضهم البعض سواء كانوا أفرادا أم جماعات باعتبار أن الفرد مؤثر و متأثر ، إنه كائن اجتماعي بطبعه. و من ثمة ، يصبح "الأنا الآخر" موجود داخل كيان الفرد ، كمعطى مستورد وافد و داخيل "الأنا الفردية" ، أو قد تصبح "أنت لست أنت الآخر" ، و لكي تصبح كذلك لابد من أن تقبله "الأنا الذاتية" أو "القبول الذاتي" ، أي ينبغي أن يكون موضع إختيار فردي من سياق آخر إلى سياق موقفي ذاتي ، من سياق العلاقات و التفاعلات الثقافية-الإجتماعية التي تعتمد على الإعتماد المتبادل و أساسها التأثير و التأثر ، و التي تهدف إلى خلق و هندسة الهوية ، و إن كان ذلك شرط مسبق لكي توجد هناك فعلا هوية إلى سياق منطلق الهوية كمحصلة تطور و نتاج التفاعل الحاصل تطلعا للتحقيق الذاتي. أو بالأحرى الإختيار بين أمرين هما وجها لعملة واحدة : إما "الرفض المطلق" للآخر متمثلا كميتافيزيقيا الطابق و هوية موحدة شرا مطلقا ، و من ثم العمل على إحياء "الذات". و إما التبني الكامل لكل ما هو "آخر" دون إنتقاد و نقد ، و بالتالي التسليم بقدرنا كأنات ينبغي لها أن تظل تابعة قابعة للآخر.
و نستكمل سياق تسلط الثقافة ، مع سياق منظور آخر ، و ذلك في إطار إشتغال جيرتز (Geertz) على تمثلات الشخص حسب الثقافات ، بإعتبار هذه الأخيرة لها دور في بناء هوية الشخص ، حيث توصل جيرتز في دراسته حول المغاربة إلى أن مفهوم الشخص بالمغرب يقود إلى غلو فرداني في العلاقات الإجتماعية ، كون مكانة الفرد (المغربي) هي التي تأخذ بعين الإعتبار ، و ليست مكوناته المقومة الأساسية ، بمعنى أن كل مغربي خلال تفاعله مع الآخر يفقد هويته "المؤقتة" ، بمعنى عملية الإنتقال الشكلي من هوية مشخصنة إلى هوية لامشخصنة ، ب "إبتكار" هوية إفتراضية مفروضة من الخارج مخالفة للهوية الأصلية ، و تكفي الإشارة هنا على سبيل المثال إلى موقف المغاربة الحالي السلبي لحد التطرف من الولاية المتحدة الأمريكية لأسباب تنشئوية و إيديولوجيا و غيرها ، لكن قد يكون مخالفا كليا إذا ما تم فتح الحدود للهجرة نحوها للبحث عن رفاهية القدرات و لقمة الرغيف في الحياة الرغيدة المرغوبة.
و يستطرد جيرتز في مقام آخر ، أن كل مغربي بوسعه خلال التفاعل ، و دون خشيته من فقدان هويته أن يكون براجماتيا كليا ، و متكيفا ، و إنتهازيا حسب الموقف (10). هنا يتسأل فاناندرييل الذي إهتم بدراسة هذه السلوكات الشاذة للمغاربة ، قائلا : "إذا نقلنا هذه السلوكات إلى سياق القيم الفردانية الغربية (الأوربية) فإنها تبعث على التسأل : هل هؤلاء الأفراد (المغاربة) الذين هويتيا (Identitairement) 'لاشيء' (un rien) هو الذي يتيح لهم أن يكونوا 'الكل' (le tout) حسب الظروف؟" (11).
من الواضح أن الحالة اللاهويتية هذه ، تتجسد في ضعف "الأنا الفردية" و رهبة "الأنا القطيعية" و الشعور المرتبط به ، و الرغبة في إرضاء "الأنا الأعلى". كل هذه الأمور تجعل متطلبات المرحلة و المواقف و الظروف موقف إمتثال من قبل الفرد ، و من ثمة إستلاب الشخص ، و إندراج كائنه في التوقعات الإجتماعية في ظل غياب الوعي بالذات ، و عدم إعطاء الأولوية و الصدارة للذات ، و الوعي بها بالنسبة للواقع و العالم الخارجي ، و التشبع بالقيم الشخصانية بصيغة الفردانية على أساس أن مجموع من الباحثين يعتبرون أن "التشخصن سيرورة تفردن في معنى أن الكائن لا يحرز على تفرده عبر تميزه بخصائص فردية ، و لكن أيضا بخصائص شخصية". و أمام كل هذا ، يتعين -في تناقض و اصطدام مع مشاعيتنا- إعلاء قيم الفرد أو التفردية لمعاكسة الإنغلاق عن الجماعة ، كمناعة و مقاومة في ذات الفرد ضد الإنغلاق المفرط عن الجماعة في صراط الإنفتاح على الحداثة التي تنطوي على تغيير بنيوي في الفرد و المجتمع ، و أنسنة العالمية بدل عولمتها ، لمواجهة "عضوانية الكليانية" التي تفضي إلى حرمان الأفراد من حقهم في إمكانية العيش لأجل الذات و التفكير بالذات.
في نفس هذا الإتجاه ، يدعو بريفوست (Prevost) إلى إعادة إستحداث التوازن بين الثنائية غير المتكافئة و غير المتوازنة : الفرد و الجماعة ، حتى لا تسحق الأخيرة الأولى ، و كي لا تسرق و تسلب هويته الشخصية المشخصنة. معنى ذلك ، ينبغي ، بل يجب إعلاء و "إعلان و إثبات و ترتيب سيادة الفرد و الحياة الفردية أو الشخصية" في نداء دعوة بريفوست (12) ، خصوصا و أن مماثلة و مشابهة و مطابقة التصور العضوي بالوحدة الإجتماعية كما نستشفه في تصور ألان لوران (Laurent) يؤدي إلى إختزال الأفراد –كخلايا ضمن عضوية جماعية حية- في مجرد مهمة أعلى من سلطة الأفراد داخل "الكل" الذي "ينتمون إليه ، و بالتالي إلى تسخيرهم لخدمة غاية فوقانية ، تتجاوزهم ، و تقصي إستقلاليتهم (و تستبد بحريتهم) ، و تفرغهم من ذواتهم ، و من كل إمكانيات المبادرة" (13) إلى استلاب هويتهم في هويات جاهزة محددة سلفا قبل ولادتهم ، و إن أرادوا أنفسهم أحرارا لا غرباء في إرادتهم ، فرقابة قانونية عرفية نظامية إجتماعية جماعية كلية ، لكي تمكن محاكمتهم و إدانتهم إجتماعيا ، لكي يصيروا هوياتيا مذنبين منحرفين ; و بالتالي يلزم قطعا أن تفهم كل هوية على أنه كان كامنا في الذات ، في سجن الذات داخل الذات ذاتها ، كهوية إفتراضية : هوية/لاهوية ، متجاوزة/لامتجاوزة... و هناك –بلا شك- حكمة في أنتروبولوجية فلسفة أفلاطون "إعرف نفسك بنفسك" ، كهوية أخرى ينبغي أن نبحث عنها ، بالعودة و تكرار محاولة البحث عن مفتاح الذات ، في "بحثت عن نفسي" منذ أبحاث فلسفة اليونان الإغريقية ، لم يجد ذات الهوية الأخرى هراقليطس (475-540 قبل الميلاد) ، و لازال البحث مستمرا عن هذا الضيف الآخر الذي يسكننا على نحو آخر.
الهوامش :
1) Malrieu Ph, Baubion – Broye A, Hajjar V, le rôle des ouevre dans la socialisation de l'enfant et l'adolescent, In. La socialisation de l'enfance à l'adolescence, Op. Cit.
2) فريديرك نيتشه ، أفول الأصنام ، ترجمة حسان بورقية و أحمد الناجي ، إفريقيا الشرق ، الطبعة الأولى ، 1996 ، ص 31..
3) Touraine A, Pour la sociologie, Paris, Ed. Du seuil, 1974, P : 180.
4) أفول الأصنام ، نفس المصدر السابق ، صص : 41-42.
5) بيير بورديو : بيير بورديو و السوسيولوجيا ، تعريب محمد بودودو ، المجلة المغربية للاقتصاد و الاجتماع ، عدد 8 ، 1986 ،ص 102.
6) LAFERRIERE TH, Unicité et création de soi, In. Identité individuelle et personnalisation. Op. Cit, PP : 225-257.
7) الطاهر لبيب ، سوسيولوجيا الثقافة ، دار قرطبة للطباعة و النشر ، الطبعة الثانية ، الدار البيضاء ، 1986 ، ص : 55.
8) André lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, 2 é, Ed. PUF, Paris, 1992, P : 138.
9) R. Barthes, Leçon, Seuil, Paris, 1978.
10) VANANDRUEL M, la socialisation de soi, Op. Cit, P : 141.
Ibid, P : 142.(11
12) Prevost j. f, le peuple et son maitre, Plan, 1983, P : 201.
13) Laurent A, De l'individualisme : Enquête sur le retour de l'individu, Paris, P .U.F, 1985, P : 87.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.