لعل السؤال الذي تتمحور على أساسه هذه المقاربة، هو كالتالي: كيف أصبح سيرفانتيس ملهما للفكر الفلسفي المعاصر، من خلال روايته الإشكالية « دون كيشوت ديلامانشا»؟ بل كيف أضحى البطل الروائي « دون كيشوت» شخصية مفهومية تنفلت عن أن تكون مجرد شخصية تعبر من خلال سيرورة السرد الروائي، عن تجربة حياة كما هو شأن معظم الأعمال الروائية السائدة، لتغدو شخصية إشكالية تفسح المجال لنوع من الاستثناء الذي يمنحها قابلية إيواء المفاهيم، أي قابلية التعبير عن تجربة حياة بما هي انكشاف لتجربة الفكر، أي أنها تكشف كينونة كائن يقود تجربته. من خلاله وعي منفصل ? نحو مغامرة تضع التجربة الإنسانية بوصفها تجربة غيرية، موضع إشكال يؤزم علاقة الكائن بالعامل الذي يصير من خلاله فضاء للعلاقات الغيرية. إن أصالة « سرفانتيس» لا تمكن فقط في ريادته للجنس الروائي، وإنما أيضا في كونه مبدع الشخصية الإشكالية إن لم نقل الشخصية المفهومية بالمصطلح الدولوزي الدقيق ? على الرغم من تجاهل دولوز لشخصية دون كيشوت و حرصه على إبراز شخصيه أبله دو ستيوفسكي في كتابة المشترك مع غتاري، ما هي الفلسفة؟ - فشخصية دون كيشوت» تقود من حيث غرابتها نحو خلق مفارقات تؤزم و ضع الفرد بالعالم، و تجعله أمام تجربة فكر يغاير الواقع و يكشف هشاشة العلاقات البيذاتية في عالم يسوده الخداع و تتعذر فيه الحقيقة. و هذا ما أضفى على هذه الشخصية جاذبية جعلت الفلاسفة المعاصرين يفكرون من خلالها في إشكالات مغايرة، و يمكن الإشارة على سبيل المثال - لا الحصر - إلى الفيلسوفين الإسبانيين أو نامونو، وأوروتيغا أي كراسيه و إلى الفيلسوف الفرنسي ذي الأصل الليتواني « ليفناس » ثم إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. إن السؤال الذي تقترحه هذه المقاربة يفضي بنا إلى تحليل مختلف التأملات الفلسفية المعاصرة التي استلهمت. دون كيشوت من أجل فهم طبيعة الوجود الإنساني في العالم، و بالتالي الانفتاح على مختلف الأسئلة الشائكة التي ظلت تؤرق الفكر الإنساني من قبيل سؤال الوعي اليقظ و الحمق، المسؤولية تجاه الآخر و العدالة الإنسانية، التماثل و الاختلاف، و غيرها من الأسئلة التي تضع و جود الإنسان في العالم أمام وضعيات استشكالية. إن دون كيشوت كما يزعم «إيمانويل لفناس» يمارس الكوجيتو بطريقة الخاصة، إنه ينطلق من الشك المؤسس ليقين الانخداع، فشخصية دون كيشوت ، إذ تكتشف ذاتها المخدوعة تسعى من خلال انخراطها في فضح واقع الانخداع إلى المحافظة على سلامة و عي الذات. وإذا ما أخدنا هذه التجربة باعتبارها مغامرة متعددة الأبعاد، فإننا و فق هذا المنظور سنؤول شخصية دون كيشوت باعتبارها شخصية مفهومية إن و ضعية دون كيشوت تلتقي هنا بوضعية « ذلك الأبله الذي يقدف بالكوجيتو، ويحمل الافتراضات الذاتية أو برسم السطح (المخطط) le plan فهو المفكر الشخصي الذي يشكل مفهوما بقوى فطرية يمتلكها كل فرد كإمكانية لحسابه. ذلك هو نموذج شخصية غريبة جدا تريد أن تفكر من خلال ذاتها بواسطة بواسطة الضوء الطبيعي، إن الفلسفة لا تكف عن إحياء شخصيات مفهومية و عن منحها الحياة»1 و إذا كانت الشخصية المفهومية شرط لإمكانية المفاهيم، فإن الإشكال الجمالية هي شرط لإمكانية للمفاهيم، فإن الأشكال الجمالية هي شرط لإمكانية المؤثرات الانفعالية و الإدراكية « فالأولى تعمل فوق مسطح المحايثة بينما الأخرى تعمل فوق مسطح تركيبي كصورة للعالم الظاهرة، فتمنح الصور العظيمة للفكر و الرواية مؤشرات تتجاوز المؤشرات الانفعالية و الإدراكية العادية بقدر ما تتجاوز المفاهيم الآراء الاعتيادية. و هذا ما يسمح بأن يكون هناك نوع من التداخل بين الفلسفة و الفن، فكل واحد منها يعبر نحو الآخر في سياق صيرورة تحتويهما معا و تحددهما مشتركين معا، كما يمكن لمسطح التأليف الفني ومسطح المحايثة أن ينزلق احدهما فوق الآخر بحيث أن كيانات من الواحد يمكن أن تشغل جوانب من كيانات الآخر2. و في هذا السياق فإن الشكل الروائي لدون كيشوت سيغدو إمكانية لشخصية مفهومية في الفكر الفلسفي المعاصر لدى «أونا مونو»، و»أو رتيغا أي غراسيه»، كما لدى لفناس و «فوكو» وآخرين. لقد انشغل الفلاسفة المعاصرون بشخصية دون كيشوت، باعتباره شخصية إشكالية تمتلك من سمات الغرابة ما يجعلها أفقا لاستشراف إشكالات العصر المفهومية، و من ثمة فإن تفكيك سمات هذه الشخصية تضع الفيلسوف المعاصر ينحو نحو قراءة مغايرة يقتحم من خلالها حقل المفاهيم التي يؤسس من خلالها لمنظوره الفلسفي. 1- أو نامونو، دون كيشوت أو الحمق المتعقل أ- لقد خصص الفيلسوف الإسباني «ميجيل أو نامونو» Miguelunamuno تعليقا أخلاقيا ? فلسفيا لرواية سرفانتيس تحث عنوان « حياة دون كيشوت و سانشو، حسب ميجيل سرفانتيس «سافيدرا» يتتبع من خلاله سيرة دون كيشوت ليستعيد من خلالها أسئلة العصر التي تضع الفكر في مواجهة استشكالات مفاهيمية، و لعل أهم الأسئلة التي يستشكلها «أو نامونو»من خلال صديقه «دون كيشوت» إنما تتعلق بالعدالة بوصفها سؤالا راهنا يستدعي تفكيرا مغايرا حتى و لو كان يستند إلى شخصية الأحمق الذي يعلمنا أن نكون حكماء. يطرح «أونامونو» في بداية تعليقه علاقة الأرض بحياة دون كيشوت و تأثيرها في تصوراته للعالم التي تعبر عن نوع من الحمق الحكيم، و هذا يفسر ما ذهب إليه «دولوز» حين اعتبر أن الشخصية المفهومية تمتلك دورا في الكشف عن المواطن، و انتشالات الأرضنة و أشكال الأرضنة المطلقة المتعلقة بالفكر3 فحينما يستدعي الفنان أو المفكر و الفيلسوف أرض المولد، فلأن الفلسفة لا تنفصل عن الوطن الأرض. إن الانبعاث الذي تشهد عليه الفلسفة يتجسد من خلال شخصية الأحمق، ذلك الذي يريد أن يفكر بطريقته الخاصة، خالقا من الأرض التي انبعث فيها، فضاء لإبداع الغرابة التي تحكي عن نوع من العلاقة بين الغريب، و بين الموجودات الأرضية لتتخذ حجما تراجيديا ساخرا، كما هو شأن «دون كيشوت» التي تعتبر غرابته الساخرة بالنسبة «لاونامونو» هي التعبير الأصدق عن الفلسفة الإسبانية. وبالنسبة لهذا الأخير، فإن هناك جانبا مجهولا في سيرة دون كيشوت يتعلق الأمر، بالولادة و الطفولة والشباب، « فنحن لا نعرف شيئا عن ولادة دون كيشوت و لاعن طفولته أو شبابه، و لا كيف اهتدى قلب هذا الفارس لا يمان، حيث الحمق يعلمنا أن نكون حكماء، و لا نعرف شيئا عن والديه و لا عن أسرته، و لا عن شجرة أنسابه، ولا كيف ترسخت في عقله الرؤى حول سهل لا مانش، حيث اعتاد أن يصطاد، كما لا نعرف شيئا عن التأثير الذي مورس على روحه، من خلال تأمله لحقول الزرع المنشورة خشخاشا و ترنجانا. Bleuets إننا لا نعرف شيئا عن سنوات شبابه 4 . إن معنى هذا أن نسبه إنما يبتدئ معه، فظهور «دون كيشوت» يقترن باقتحامه سن الخمسين في إحدى قرى المانش الفقيرة. إن فقر دون كيشوت يفسر معظم جوانب حياته، كما أن فقر الشعب يعد مصدرا لعلاته و فضائله في نفس الآن، فالأرض التي غدت دون كيشوت هي أرض فقر جدباء، وهذا الفقرة هو الذي صير سكانها رحلا تائهين بحثا عن لقمة العيش في أراض أخرى بعيدة، و هو الذي جعل دون كيشوت ذلك الفارس النحيف الجسد، ذا الوجه الصارم و الجبهة العريضة - يحب الحياة، و يقيه من الشبع، ويغذيه بالأمل. ومعنى ذلك حسب «أونامونو» أن الضعف أو الاحتياج جعله يفكر في حياة لا تنتهي قط، حياة خالدة، مليئة بالطموح تعبر عن الرغبة في البداية، و من ثمة فالتأمل لا يكاد يفارقه، و هذا التأمل هو الذي غدى حياته، و من هنا فإن حمقه لم يظهر إلا بعد أن نضجت حكمته، فهو الشخص المتعلق أو الحكيم الذي غدا أحمق بعد أن نضج فكره 5 إنها القدرة على الحمق و قد تجسدت في شخصية دون كيشوت، وهو ما نجد تعبيرا عنه لدى « فوكو» في «تاريخ الحمق في العصر الكلاسيكي» حيث يقول: إن الإنسان لا يصير طبيعة من أجل ذاته إلا بقدر ما يغدو قادرا على الحمق 6 . فحقيقة الإنسان لا تتجلى إلا من خلال لغر الأحمق الذي يمتلك هذه القدرة الخاصة في التفكير على نحو الغرابة اللامشروطة بالاعتياد الذي يحمل العقل الإنساني على العجز و الخضوع للواقع المشروط. إن «دون كيشوت» من هذا النوع الإنساني الذي ينخرط في مغامرة فريدة و غريبة في ذات الآن يتحكم فيها أساسا عامل الرغبة في المجد « فمن أجل هذه الغاية اندفع دون كيشوت لقراءة أعمال الفروسية بنوع من الدوق و المتعة، إلى الحدود القصوى، أي إلى حد فقدانه للتعقل، و ليس التعقل هنا حسب تأويلنا إلا اعتياد العقل على مجاراة العادة، و تأويل ذلك حسب أونامؤتر تخليد للأثر، ففقدان العقل هو انكشاف لتخليد نموذج المجد الروحي، فبدون فقدان العقل هل كان بإمكان دون كيشوت أن يكون شجاعا؟ لقد ضحى الفارس بعلقه من أجل مجد شعبه فقد امتلأ خياله بالغرابة الرائعة، فاتخذ الجمال حقيقة، و اقتنع به اقتناعا حيا و نوعيا، فقرر أن يحقق، ما يقدمه له حمقه باعتباره واقعا، فافتقاده للعقل قد منحه أغرب فكر غير مسبوق من طرف أي إنسان آخر في العالم. فقد بداله من الضروري و المناسب أن يغدو فارسا تائها في العالم باحثا عن المغامرات، مقتحما الأخطار لنيل شهرة واسعة و خالدة. وهذه هي قضيته الكبرى، فالإحراز على الخلود يقضي أن يعلي من شرفه، و أن يكرس حياته لخدمة قضايا جمهوريته. لقد اهتدى دون كيشوت من اجل الشهرة الخالدة أن يضع اسمه فوق ذاته نفسها، أي أن يصير آخر ضد ذاته لاغيا اسمه الحقيقي متبنيا اسما للشهرة، إنه حسب «أونا مومو» خضع لفكرته أي لدون كيشوت الخالد، لهذه الذاكرة التي هي أثر له، فمن فقد روحه يكتسبها، كما يقول المسيح، بمعنى أنه يبلغ ما افتقده، أي أن ألونسوكيجانو «Alonsoquijano» افتقد ملكة الحكم من اجل أن يظفر في دون كيشوت Don Quichotte بملكة حكم ممجدة 7 هذا التأويل الذي يتخلل تعليق «أونامونو»، هو الذي يدفعنا إلى اعتبار دون كيشوت « شخصية مفهومية» لها قدرة على خلق الاستشكالات المتولدة عن الرغبة في الانفصال، أي الانفصال عن ملكة الحكم الاعتيادية للظفر بملكة حكم مركبة لا ترتكز على العقل، و إنما على الحمق باعتباره رهانا على الرغبة في مجد الخلود. وهو الرهان الذي يكشف على أن حمقه كان عقلانيا، ومن ثم يتجلى إصراره على ولادة جديدة تقترن بالمغامرة التي تعبر عن الشجاعة، كما تقترن في ذات الآن بالتعبير عن الحب و العشق أي عن الارتباط العاطفي بفتاة قروية سيمنحها اسما جديدا هو «دو لسيني» توبوسو Dulcinée Toboso حتى وهي تجهل بهذا الأمر. ب- إن الشخصية المفهومية التي يستدعيها الفيلسوف بناء على عمل فني تحمل من الصفات ما يجعلها قابلة للاستشكال، و قادرة على إحداث الالتباس، و في هذا الصدد يبدو لنا ما طرحه أو نامونو بخصوص « خطاب كيشوت حول العصر الذهبي الموجهة لرعاة الماعز « إضاءة لطريقة تفكير هذه الشخصية الإشكالية، فما هو مثير بالنسبة لا و نامونو هو ما تطرحه خطبة دون كيشوت من إشكال يتعلق بالفهم أي توجيه خطاب لبسطاء لا يكادون فهم شيء، هنا يكمن عنصر بطولة هذه المغامرة. إن التكلم هو صورة للفعل، إنه الأكثر صعوبة أحيانا لأنه يجب أن يكون لفكر الشخص اعتقاد راسخ من أجل التحدث لأشخاص حاملي الفكر، كما يجب أن يكون متيقنا من أن هؤلاء حتى و هم عاجزون عن فهم الخطاب، فإنهم مع ذلك يرغبون في الفهم. إن الكلام المحض ليس بدون جدوى، فالشعب إذا لم يفهم فإنه مع ذلك يكشف عن رغبة في الفهم، و حينما ينصت للكلام، فإنه يشرع في الغناء، و كما هو شأن خطبة دون كيشوت التي حفزت الرعاة إلى الغناء. أن «أونامونو» ينعت هنا سرفانتيس بالماكر، لأنه يصف خطبة دون كيشوت بكونها عديمة الجدوى، لكنه يضيف بأن الرعاة كانوا يستمعون باندهاش، إن حقيقة التاريخ تفرض نفسها إذن، فإن كان «دون كيشوت» قد خلق هذه الواقعة بخطبته، فإن هذه لن تكون بدون جدوى و الدليل على أنها ليست كذلك، هو أن الفكر ينتج الفكر كما أن الرسالة تنتج الرسالة، أما خطبة دون كيشوت فقد استدعت بدورها أنا شيد مؤداة بالمكان الرعوي. 8 و تعليقا على خلاصة «أونامونو» يمكننا أن نذهب إلى استنتاج تأويلي أبعد و مفاده أن الشخصية المفهومية ليست فقط ما يحمل على الاندهاش الناتج عن استعمالات الخطاب، و لاهي فقط من يخلق الالتباس الذي يعرض للمخاطب البسيط و لكنها هي من يخلق الحدث أي يخلق الرغبة لدى المخاطب في الفهم و بالتالي الانخراط في الغناء بما هو تحفيز على الالتحام بالحياة. إن الرغبة إن الرغبة في الفهم أحيانا أهم من الفهم المباشر للمقول، فالتواصل المبني على المقول le dit أي على التطابق بين المتكلم و المخاطب، هو تواصل محدود الأفق ما دام تحصيلا لحاصل، لكن التخاطب الذي ينبني على القول le dire فيظل منفلتا عن سلطة المقول أي عن المعنى التواصلي المدرك بصفة تحصيلية، فالقول هو يتعذر تحصيله، إنه ما يستدعي الحدث بصفة نوعية. ج- يكشف دولوز جوانب عديدة من السمات التي تشكل شخصية مفهومية، و من بين هذه السمات، هناك السمات الحقوقية، بما يعني أن الفكر لا يكف عن الإعلان و المطالبة بما يرجع إليه من حق، و لا يكف عن مواجهة العدالة منذ أيام الفلاسفة السابقين على سقراط: و لكن هل هي سلطة المدعي أو حتى سلطة المشتكى التي تحاول الفلسفة انتزاعها من المحكمة الدرامية الإغريقية؟ أو لم يحظر على الفيلسوف، و لمدة طويلة أن يكون قاضيا؟ وأكثر من ذلك أن يكون فقيها مطوعا في خدمة عدالة الله، ما دام هو ذاته غير متهم؟ فهل كان لدينا شخصية مفهومية جديدة عندما جعل «لا يبتز» من الفيلسوف محاميا عن إله مهدد في كل مكان، و التجربيون ألم يأتوا بشخصية مفهومية غريبة أطلقوها على نموذج الباحث [المحقق الواقعي] وهاهو كانط أخيرا قد جعل من الفيلسوف قاضيا حكما في ذات الوقت الذي يشكل فيه العقل محكمة، ولكن هل المقصود هي السلطة التشريعية لقاض حازم، أو هي السلطة القضائية، أو هو القضاء لحاكم متبصر؟ تلكما شخصيتان مفهوميتان جد مختلفتين. هذا إذ لم يكن الفكر يقلب الجميع من القضاة إلى المحامين، والمشتكين والإتهاميين و المتهمين، كحال أليس Alice و هي فوق مسطح محايثة حيث العدالة تساوي البراءة، وحيث يغدو البريء شخصية ليس عليها أن تبرز ذاتها تجاهه كحال «سبينوزا» الذي لم يبق أي وهم للمتعالي ألا ينبغي أن يتحد القاضي و البرئ معا، أي ألا ينبغي أن تحاكم الكائنات من داخل؛ و ليس أبدا باسم القانون أو القيم و لا حتى بفضل و جدانهم لكن بفضل المعايير المحايثة تماما لوجودهم (بما يتجاوز الخير و الشر، مما لا يعني ذلك على الأقل ما يتجاوز الطيب والشرير)9. إن دون كيشوت من خلال هذا المنظور يعبر عن شخصية مفهومية لا تكف عن مواجهة العدالة و إعادة النظرية في عدالة القانون، و هذه النزعة الكيشوتية تتجلى في مرآة «أونامونو» الفيلسوف الكيشوتية والذي يطالب بعدالة كيشوتية أساسها الصفح و ليس القانون بما يتجاوز الخير و الشر، عدالة تنتصر للحرية المحايثة للوجود الإنساني. يعتبر «أوأنامونو» أن أكبر مغامرات دون كيشوت وأعمقها دلالة هي تلك التي تتمثل في تحريره لهؤلاء المحكومين بالأشغال الشاقة الذين صادفهم في طريقه، لأنهم اقتيدوا بالقوة و ليس حسب إرادتهم، و هذا واحده كاف بالنسبة لدون كيشوت، من أجل إغاثتهم، ورغم اهتمامه بجنحهم لكن العقاب الذين طالهم يعتبره غير عادل، إنه لأمر رهيب أن يصير عبدا من جعله الله والطبيعة حرا، كما أنه ليس من الخير أن يغدو أهل الشرف جلادين لغيرهم من الناس حيث لا مصلحة لهم في ذلك قط 10 يدعونا «أونامونو» إلى التوقف لتأمل الجرأة الشجاعة التي أبان عنها الفارس هنا «وأونامونو» من اشد المعجبين بدون كيشوت، ويستشهد ليدعم موقفه هذا بصديقه أنجيل كانيفي Angel Oanivet الذي يعتبره أكبر الكيشوتيين الذي يرى كانيفي بأن هذه « المغامرات التي انخرط فيها دون كيشوت- تهدف إلى الوصول إلى العدالة المثلى في العالم، فالحجج التي يعتمدها الفارس من أجل تحرير السجناء الذين اعترفوا بجرائمهم، تتلخص في تلك التي تغدي التمرد في الروح الإسبانية ضد العدالة الوضعية، فيجب المقاومة من أجل أن تحل العدالة في العالم، لكن ليس هناك حق ثابت لمعاقبة مجرم، في حين أن آخرين يفلتون من العقاب من خلال ثغرات القانون، ففي النهاية فاللاعقاب العام يتلاءم مع التوجهات النبيلة السمحة، مهما كان ذلك متعارضا مع الحياة المستقيمة للمجتمعات، عوض أن تكون معاقبة البعض، و إفلات البعض الآخر من العقاب، بمثابة و صمة عار لمبادئ العدالة و للشعور الإنساني معا. إن جانيفيت حسب «أونامونو» يقف على عتبة النزعة الكيشوتية quichottisme حين يفرض بأن عدالة دون كيشوت تجاه السجناء تتأسس على « أنه ليس هناك حق ثابت لمعاقبة مجرم في حين أن آخرين يفلتون من العقاب عبر تغرات القانون» و أن حالة اللاعقاب بالنسبة للكل أفضل من قانون الهوى. 11 يعتقد «أونا مونو» بأن الحجج التي يمكن تبرر سلوكنا ليست في غالب الأمر، سوى حجج بعدية aposteriori، أنها طريقة للتفسير، أي لتبرر لنا و لغيرنا، سبب أفعالنا لكن السبب الحقيقي يظل مجهولا: و من ثم فهو لا ينكر بأن «دون كيشوت» يعتقد مع «كانيفيت»، و ربما مع سرفانتيس، بانه قد حرر السجناء من فظاعة قانون الهوى، و لأنه يبدو له بأنه ليس عدلا معاقبة البعض بينما الآخرون يفلتون من العقاب من خلال ثغرات القانون ذاته، و لكن «أونامونو» يؤكد بان دون كيشوت حينما حرر السجناء فإن لم يكن في الواقع وا ضعا في نفسه اعتبارا من هذا النوع، و إلا فمن أجل أبة حجة، و بأي حق يماس دون كيشوت ذاته العقاب، مع العلم أن جل المجرمين فلتوا من قبضة يده؟ ولماذا يعاقب إن لم يكن هناك عقاب إنساني عادل حقا؟