هل سيختلف الدخول الثقافي هذه السنة، عن سابقيه؟؟ خصوصا ونحن نعيش تحولا سياسيا جذريا يؤسس لمرحلة جديدة في العالم العربي؟ هل يلتقط الثقافي هذه المرة، زخم السياسي كي ينخرط في مجمل حركية المجتمع؟؟ هل تستطيع الثقافة العربية اليوم أن تكتب تاريخها الجديد، من خلال خصوبة ما نعيشه في راهننا اليوم. الراهن مما يمور فيه من أسئلة وحراك مجتمعي شبابي، من ثورات أطلقت تونس شرارتها الأولى ولا زالت مستمرة اليوم؟ من جهة أخرى، ولأننا لم نؤسس يوما لتقاليد الدخول الثقافي، ولم نستطع كمجتمعات عربية أن نحافظ على صيرورة الحضور والإنتاج الثقافي إلا في ظل موسمية معروفة، هل يحق لنا التساؤل اليوم عن مدى حضور السؤال الثقافي في مجتمعات تعيش اختلالات هيكلية، ويخيم عليها الفقر والجهل وترتفع فيها نسب ألامية والفساد ومنظومات الاستبداد، ألم يكن الثقافي دائما مرتبطا بأسئلة مجتمعه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؟ فلماذا غاب في ظل ما نعيشه من ربيع الثورات المتواصل، أين تلك القدرة على التحليل والمقاربة واستشراف المستقبل؟؟ ألم يحن الأوان اليوم، كي نؤسس لقيم ثقافية جديدة توازي هذا الحراك المجتمعي الزاخر بالأسئلة؟ وفي ظل هذا التحول العميق الذي يمس بنيات السلط هل يمكن التفكير اليوم في تأسيس أدوار ثقافية جديدة، وتحويل العديد من الاستراتيجيات الدفينة الى أفق للمرحلة التي نعيشها..مما سيساهم في تكريس لمقولة مركزية للسؤال الثقافي نابض بحركية مجتمعه؟ في ظل هذا اللادخول الثقافي اليوم، كيف ترون كفاعل ثقافي هذا الوضع؟ وكيف تفكرون فيه؟ تلك كانت مجموعة من الأسئلة التي وجهها هذا الاستبصار لمجموعة من المثقفين والمثقفات العرب، محاولة في تأمل اللحظة التاريخية الراهنة بما تحمله من زخم. وأيضا محاولة لقراءة هذا الحراك من رؤية المثقف واستنكاه دلالاته.. الناقد د. محمد بوعزة: من سياسات النخبة إلى سياسات الناس ما يجري اليوم في العالم العربي انبثاق وجودي، عالم جديد في طور التخلق والتشكل. على شكل المفاجأة واللامتوقع ينبثق الحدث، يتجاوز النخب والإيديولوجيات القائمة، ويهدم أسطورة الإطار التي ظلت تروج لفكرة عدم قابلية المنطقة العربية للتغيير، بفعل سيادة ثقافة «الاستمرارية « واستقرار الأنظمة التي ظلت قادرة على إعادة إنتاج بنياتها التسلطية، رغم الرياح الديمقراطية التي عصفت بالأنظمة الشمولية المشابهة لها في أوربا الشرقية، وأمريكا اللاتينية . فجأة وبدون توقعات، وعلى عكس كل السيناريوهات المتشائمة، تنفجر المنطقة العربية، وتحتل صورة المشهد العالمي. ولأول مرة تتغير سياسات التمثيل، بحيث انتقلنا من صورة العربي السلبية التي يختزلها الإعلام العالمي في صورة الإرهابي إلى صورة العربي الذي يثير الإعجاب بثورته المدنية السلمية على السلطة. بالطبع من المنظور الثقافي، للحدث سياقه الثقافي والمعرفي الجديد. له علاقة بامتدادات العولمة، حيث استفاد الفاعلون الجدد بكثافة من امتيازات الشبكة العنكبوتية في نشاطهم. فالطفرة التي تحققت في مجال الاتصال، تكشف لنا الوجه الآخر للعولمة، بحيث يمكننا ملاحظة ما تقدمه «العولمة من تحث» بحسب» ريتشارد فولك» من حيث الطاقة والتجديد، وليس فقط جانب التنميط والهيمنة. لقد سهلت وسائل الاتصال سرعة تبادل المعلومات والاشتراك في مواطنة عالمية . وهو ما وفر للشباب وسائل أكثر فعالية للتعبئة وحشد الناس، من الوسائل التقليدية للأحزاب (المنشورات، المقرات الحزبية..) يعكس إذن استخدام الأنترنت البديل الثقافي الجديد العولمي الذي أفرزته صيرورة الربيع العربي على خريطة المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي، حيث ألقت الضوء على ظواهر سوسيو ثقافية جديدة مثل « المواطن الرقمي»، الذي تتشكل هويته بواسطة الفايسبوك والتويتر، والمدونة الشخصية، وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي، التي خلقت شبكات للمواطنة والانتماء والتثقيف جديدة عابرة للحدود ، كما ولدت أشكالا جديدة للتعبئة والاستقطاب، بما يوفره هذا الفضاء الافتراضي من إمكانية لتفادي منظومة الرقابة التقليدية، من أجل التواصل والتفاعل دون اعتبار للحدود. في هذا السياق العولمي، أفرزت الثورات العربية نخبا جديدة شابة، شباب في عمر الزهور، يشتغل بأدوات ثقافية مغايرة ما بعد حداثية، في الوقت الذي ظلت فيه النخب التقليدية معزولة عن دينامية المجتمع، أسيرة أسطورة الأكاديميا المتعالية التي مفادها « أن النظرية هي بالضرورة تلك اللغة النخبوية التي يلهج بها أصحاب الامتياز الاجتماعي والثقافي.» وأن بناء النهضة والتحرر مرهون ب» مثقف كبير واحد، هو بمثابة شيخ مفكرين يتمتع بموارد فريدة لفكره المتميز». على خلاف ذلك، قدمت الثورة العربية بدائل جمعية للعقل الفردي، وللمثقف الكبير، إنه نموذج العقل الجمعي ، حيث نستطيع أن نتحدث عن مفهوم «المثقف الجمعي» بمعنى أوسع من تعريف عالم الاجتماع «بورديو» الذي يقرنه فقط بالنخب التي تشتغل في وحدات تعاونية أكاديمية متخصصة. الثورة العربية تعطي للمثقف الجمعي مفهوما أكثر دينامية وانفتاحا ،لا يقتصر على النخبة بمفهومها التقليدي، بل ينفتح على حركية الحيز العام، ليحتوي نشاطات فاعلين متعددين، لا يمثلون بالضرورة النخب المعترف بها من طرف المؤسسة الثقافية أو السياسية، ولا يعترفون بالتقسيمات المألوفة بين «النظرية» و» الممارسة»، بل ينخرطون في الفعل الإنساني من منظور عملي يجمع بين الفكرة والعمل، بين «النظري» و»الناشط»، بين النخب والناس العاديين. وهذا ما رأى فيه البعض على صعيد النظرية تحولا من سياسات النخبة إلى سياسات الناس، أو سياسات الشارع. كما كشفت الثورة العربية عن تحول في الأدوار تمثل في ظهور النخب المحلية الهامشية، وبروز دورها على صعيد التأطير والقيادة، في مقابل صمت النخب المدينية . سيكون على الثقافة العربية إعادة بناء مفاهيمها وأدوارها في ضوء هذه التحولات. أكثر من ذلك، لقد غيرت الوسائط الجديدة للاتصال دور الكاتب (المثقف).فلمن يكتب في زمنية الأنترنت؟ هل يكتب لجمهور فعلي أم جمهور افتراضي؟ لقد أصبح مفهوم «الجماعة المتخيلة حقيقة، اكتسب برأي «إدوارد سعيد» بعدا حرفيا فعليا وإن يكن افتراضيا. حيث أصبح بإمكان الكاتب والمثقف بفضل الانترنت الوصول إلى أعداد من الناس لا يمكن حصرهم. أصبح الجمهور غير محدد بزمان أو مكان، وهو ما يفرض تعديل أفكارنا عن الجمهور والثقافة والخطاب والنص، وبالتالي مفهوم النصية والكتابة. الباحث محمد أبو العلا: الجيل الجديد الثائر في حاجة إلى خطاب جديد للمثقف هل يستوي الحديث عن دخول ثقافي هذه السنة، بعد خروج المثقف {كما يشاع }،عن حراك أجهز في ظرف وجيز على أنظمة طاعنة في القمع؟ هل تصح محاسبة المثقف عن بهوت الانخراط، بعد شرارة البوعزيزي أم قبله ، مذ تهافت طروحات التغيير، وعجز التنظيرات الفكرية عن مقاربة للمآزق الحافة بالأمة جراء انتكاسات قومية ووطنية ؟ هل يصح إلزام المثقف بالانخراط في تململ تم خارج مفكرته، ليقوم بدور الإسناد الخلفي بدل التأطير؟ هل دور المثقف هو النزول اليومي للشارع، لإثبات مصداقية خطاب التنظير، احتذاء برموز التغيير في الغرب : فوكو ، بورديو...؟ أعتقد أن المثقف العربي غير ملزم اليوم بكل هذا، بقدر ما هو ملزم و نحن على أبواب دخول ثقافي جديد، بإعادة النظر في مقاصد خطابه، و توسيع مادته بقوة الاقتراح، ورسم مسافة للإمعان في سياقات الثورة من حيث: آليات الخطاب، العفوية ، و سلاسة التواصل الكوني المفضي إلى المباغتة و رعب التمدد؟ إن الجيل الجديد الثائر اليوم، في حاجة ماسة بعد حسم الصراع في مصر و تونس، و في الدول التي تشهد مخاض التغيير، إلى رِؤية بعيدة ، حيث نجاعة الحراك، منذورة بتحريك خطاب جديد للمثقف، يتنازل من خلاله مؤقتا عن شعريات و متعاليات خطاب نخبوي، للإمعان في سياقات المرحلة و تداعياتها. أكيد أن ربيع الثورات قد أزهر ياسمينا بعد فصول قاسية ، لاذ فيها الجميع لبيات شتوي رهيب، إلا أن تأبيد هذا الفصل الجميل، و صون بهائه لا يتحقق بالشدو اليومي لأشعار الشابي، و رفع العقيرات انتشاء بالتغيير ، بل بعمق التفكير في ما يشرعه المنجز من مسارات، و ما يفتحه من تدبير لأسئلة و قراءات هادئة لصخب اللحظة. و هذا في اعتقادي لن يتم، إلا بتجاوز حالة الاحتقان و الارتياب بين الفاعلين السياسي و الثقافي، و إرساء ثقافة الانصات، ليتفرغ المثقف لما توقف عنده السياسي، أو ما غاب عنه في خضم الحماسة وتسارع الأحداث ، مع شرط اعتراف المثقف بعيدا عن كل نرجسية بما شرعه له الشارع الآن، من شغب كتابة مغايرة متحررة من قهر الرقيب، و ما انتزع من بنود الدستور المغربي نموذجا تقر من خلال حجة المكتوب بالدور الاعتباري للمثقف، مع إدماج رأسماله الرمزي في التنمية، و تحصينها من احتمالات التجاوز . إن المثقف المفكر فيه في هذه الورقة، ليس هو من يكتب مرتجلا الحلول، ليخلع على نفسه صفة المنظر المسكون بقضايا شعبه، بعد أن خلع تحت الإكراه سرا ، نياشين و رتبا في سلم المتزلفين و البصاصين ، المتكسبين و المتمسحين بالأعتاب. ليس هو من يتظاهر بالتظاهر، و يعمر الساحات، دون أن يبرئ ساحته أولا، مما اقترفه يراعه المسخر من تلطيخ لحرمة الوطن و الأدب سيان. ليس هو من يوهم بحثا عن تزكية سياسيا مبتدئا، بالذوذ عن الثورة، في زاوية جريدة بئيسة يقرؤها هو، متنبئا بفعل كراماته الفكرية، بربيع لم يزهر في مخيلته منذ أن شيع أخر سنونو خريفه الفكري، و كنس أوراق مرجوعاته المصفرة أخر ناشر مغمور ومغفل. إن هذه الكائنات الهشة و الطافية بيننا، هي أنذل ممن صلبت أسماؤهم على الهوائيات، و في ساحات التحرير، حين خرجوا في الوقت بدل الضائع ، بما يشبه الركلات الأخيرة للميت، للهمس ضد جهر الشعب بإرادة الحياة . أعتقد أن المثقف الحقيقي مطالب أيضا، من خلال الدخول الثقافي القادم، باستعادة التفاصيل والجزئيات المواربة لإنضاج متخيل باذخ، باستعارات و تيمات و شخوص على مقاس القامات المديدة للجيل الثائر تمنحه إشراقات الولوج لرحابة الكون الأدبي و تمنح الأديب قوة الانخراط في السياسي من خلال الاستعاري. الناقد محمد أقضاض: لم يرتبط المثقفون بالثورات الحالية إلا بعد اندلاعها يبدو أن المثقف العربي قد فوجئ بالحراك العربي الحالي، ليس لأنه راض على ما يجري في المجتمعات العربية، أو لأنه يجهل الواقع، بل لأنه كان يعاني نوعا من الإحباط بل واليأس أمام الصمت الشعبي المهيمن إلا من بعض الإحتجاجات المنفصلة والقطاعية والخبزية في غالبها، تقمع في المهد فتستكين، أو تترك لاحتجاجها إلى أن تتراخى فتصمت... وفي نفس الوقت كان كثير من المثقفين العرب قد اندمجوا في مسار التعامل مع الأنظمة التي تشجعهم على الابتعاد عن السوق السياسية، فتنفحهم بعض المال، إلى درجة أصبح هاجسهم هو التمكن من «العطايا»... ورغم هذا التعامل فإن تلك الأنظمة لم تتمكن من إملاء الأفكار والمواقف والرؤيات على المثقف لسبب بسيط هو أنها، بشكلها السلطوي، لا منظومة فكرية لها ولا رؤية للحاضر ولا للمستقبل، وهو ما ترك للمثقف هامشا من الحرية يتحرك فيه.... فكتاباته الإبداعية، شعرا ورواية وقصة، والفكرية قد تسلطت على مأساوية الواقع وأسالت مياها تحت الجسر وتلقاها القارئ وأثرت فيه بشكل غير إرادي، خاصة وأن شباب الثورة العربية هو شباب متعلم قاؤئ. وكان المثقف يترجى أيضا مثل هذه الثورة لذلك اندمج فيها مع بداية انطلاقها... لم تمهد الثقافة العربية الحديثة والحداثية بشكل مباشر للثورات العربية الحالية، ولم يرتبط بها المثقفون إلا بعد اندلاعها، وكانت الوسائط المعلوماتية أكثر فعالية فيها، وبدا الجيش أسبق أحيانا من المثقفين إلى دعم الثورة، خاصة في تونس ومصر. وقد أدرك المثقفون أنفسهم أنهم فقدوا ريادتهم في التشكيل المباشر للوعي الشعبي والشبابي على الخصوص، إلا ماكان من ارتباطهم بجمعيات حقوق الإنسان العالمية والجهوية... ستطبع وضعية المثقف العربي تلك الدخول الثقافي القادم في العالم العربي بسمات الارتباك والقلق والاضطراب. وسينطلق هذا الارتباك بمحاولة عودة الثقافي إلى التفاعل مع السياسي... *** خلال فترة الارتباك تلك لابد أن يندمج المثقف في الفعل المجتمعي عموما وفي الزخم السياسي الذي انفصل عنه منذ أواخر السبعينيات تحت سياط القمع ولمعان الإغراء... بل سيمد السياسي ظلاله على الثقافي لفترة لا تقل عن عقد من الزمن، وهذا في حد ذاته إيجابي، لأنه سيجعل المثقف يألف التحرك في حقول الحوار الحر والديمقراطي، وسيدفعه نحو الإسهام في تقريب مفاهيم الحداثة والديمقراطية وإشاعة أجواء التفاؤل بإبداعه وأفكاره ويعمل على تطوير ذهنية الشعب وتجسير الهوة بين فئاته. لقد اعتبرت الأنظمة المتسلطة الثقافة مجرد ديكور في المجتمع وأحيانا رأت فيها إزعاجا لابد من إسكاته على الأقل بإحباطه، فعوض أن تجعل الثقافة تسهم في تطوير الذهنية الشعبية، ساهمت (الأنظمة) في إشاعة وتكريس حالة اليأس والإحباط ورؤية «ليس في الإمكان أفضل مما كان»، فدفعت بالشباب نحو «ثقافة» الماضي وتقديسها، «ثقافة» تحرم التفكير والإبداع والحوار... أما بعد الثورة، وفي جو الحرية والديمقراطية المنتظر، سيدرك الجميع أن الثقافة هي من أهم مقومات الأمة والشخصية الوطنية وأكثر العناصر في تطوير هويتها (الأمة) وجعلها تنخرط في الخلق الإنساني... وستقلص في المستقبل من ثقافة التكفير والانكفاء العقيم على الذات، بل ستدفع إلى الاجتهاد حتى في حقل الدين... وتكون سنة 2011 تاريخ ميلاد ثقافة جديدة، لا تخلو من أبعاد إيديولوجية وهي ضرورية في الوضعيات الانتقالية... ستتحرك الثقافة، بكافة أشكالها وأنماطها، بفعالية بعيدا عن المراوغة والقلق والفقر والإخضاع... *** والحقيقة أن لكل مرحلة شكلها الثقافي، لابد أن تركز الثورة على إصلاح التعليم وعلى أولوية البحث العلمي، كما ستشكل ثورة لا هوادة فيها على الجهل والأمية، لأنهما عاملان خطيران في محاصرة الخلق الثقافي وخنقه... لابد أن تعمل الثقافة على محاولة اللحاق بالعالم المتقدم والعالم في طور النمو، ووسائط هذه المحاولة متوفرة الآن أكثر من الماضي، عبر الإعلاميات والترجمات والتنقلات والاستضافات والمناظرات، من خلال التركيز على الأولويات االمؤسساتية بما فيها المؤسسات السياسية والعلمية، وتقلص من النزيف العلمي والمعرفي عبر تشجيع أطر البلاد على الاشتغال في وطنهم ولوطنهم، وتركز على المعضلات الأساسية التي لها الأسبقية... وهذا الفعل لا يمكن أن يعرقله الفقر والفساد... لأن الفقر في البلاد العربية انتشر أساسا نتيجة هيمنة حفنة محدودة من الناهبين على ثروات البلاد، أولا، وارتباط بعضها بالمراكز المالية والإنتاجية العالمية، ثانيا، فحولت الشعب، تحت ضربات السياط، إلى أشباه عبيد... أما الفساد فينبع من التفقير والتجهيل واحتكار السلطة واحتقار الشعب، واعتبار موارد البلاد ملكية خاصة للحاكم وعائلته وحاشيته. والثورة العربية الحالية هي، أساسا، نتيجة هذا الثنائي المدمر، الفقر/التفقير والفساد/الإفساد... كانت الثورة حلما عند المثقف رخم خنوع جزء كبير منه، وقد تحقق نصيب من ذلك الحلم ولكن بقيت أنصبة أخرى تنتظر، منها: أولا، حماية الثورة من الردة المتربصة داخليا. ثانيا، تسييجها من التدخلات الخارجية، خاصة تدخلات العولمة والاحتكارات العالمية ومن الانقلابات العسكرية أيضا. فقد جربنا انقضاض هذا الرباعي على كل محاولة ثورية أو إصلاحية داخلية في البلدان العربية... ومن حقنا أن نحلم أيضا، والحلم مشروع ومفتوح، من حقنا أن نحلم لأن بوادر حماية الثورة غالبة على نذر الانتكاسة... *** حين تتمكن الثورة من استقرارها النسبي، ويندمج فيها المثقفون بوعي وإرادة وبرؤيات مستقبلية، ستتداعى لديهم أسئلة فكرية واسعة من أهمها: أولا، علاقة الثقافة بالديمقراطية. ثانيا، كيف يمكن للثقافة أن تحمي الديمقراطية وتطورها وتشيعها، وكيف يمكن للديمقراطية أن تسهم في تطوير الثقافة وتنويعها. ثالثا، العمل على إعادة الثقافة إلى وظائفها المبدئية والحقيقية، باعتبار الثقافة مؤسسة متحركة وتوسع الوعي السياسي والحقوقي والوعي بعمق الإنسان كهدف وكوسيلة. رابعا، احتلال الثقافة العربية لموقعها ضمن الخريطة الثقافية في العالم، اعتمادا على الهوية الذاتية والدينامية وعلى تفاعلها مع العصر واستقلال رؤيتها للعالم. خامسا، لابد أن يفكر المثقف في إنتاج ثقافة لانخبوية، ثقافة لكل الشعب وفي متناول الشعب... *** ليست الثقافة سلعة استهلاكية يمكن توفيرها عبر الاستيراد أو الاقتراض بين يوم وليلة، فكما أشرت سابقا، لابد من فترة تأمل وتوتر وقلق بل واضطراب، وهي سيمات حيوية، لكي ينطلق المثقفون في بلورة مشاريعهم التي يتطلبها مجتمعهم الجديد... ولابد أن يعملوا بكل ما أوتوا من قوة على حماية ثورة الشعب، لأنها فرصة إذا ضاعت لا يمكن أن تعوض إلا بعد عقود... لابد أن يتخندق المثقف في الوقت الحالي في معسكر حماية الثورة، ولو بتأجيل فعله الثقافي نفسه... الباحث إدريس كثير: الثقافة وربيع الثورات العربية إن من يتحدث عن الدخول الثقافي و تسريع الثورة الثقافية لا يدرك بأن هذا الربيع العربي هو ثورة ثقافية اندلعت منذ مدة وعلى المثقفين التقليديين استيعاب هذا الأمر والانخراط فيه لفهم ما يجري. لا نملك في الوطن العربي تقليدا يمكن تسميته بالدخول الثقافي. فكل البلدان العربية الوازنة على المستوى الثقافي كلبنان والكويت ومصر لا تدعي هذا التقليد. وحتى معارض الكتاب والثقافة كمعرض الدارالبيضاء(المغرب) معرض لبنان ومصر لا تشكل دخولا وافتتاحا ثقافيا كما نلمسه في فرنسا مثلا حيث تتنافس دور النشر على عرض مختلف منتوجاتها الأدبية والفكرية بدءا من شهر سبتمبر ( أيلول) في كل سنة حيث ترصد جوائز عدة للتباري والتسابق. وتنظم وزارة الثقافة وجمعيات المجتمع المدني لقاءات ومحاضرات في ذات الشأن. ثقافتنا لا تسير وفق هذه الروزنامة. يبدو أنها تخبط خبط عشواء. فما علاقة هذه العشوائية بربيع الثورات العربية. الحراك الجماهيري الأخير يتعلق بثورة شعبية شبابية.(نجحت في اقتلاع رموز الفساد بتونس/ ومصر). خميرة هذه الثورة هي الشباب المتعلم المثقف و العارف بالتكنولوجيا، والتواصل عبر النيت:( يوتوب فايسبوك، توتير..). شباب يتواصل عبر كل اللغات يضغط على الكلمات ويختصرها..ولا يؤمن بالزعامة الكاريزمية، ويعتقد أن التنظيم أيا كان يجب أولا أن يفسخ، (إرحل) ليعاد بناؤه من جديد وبشكل آخر لأمد طويل..أكبر خطر يهدد هذه الثورة هو الإلتفاف على مطالبها وآفاقها..(كما جاءت المحاولات الفاشلة إلى حد الآن في مصر وتونس، وكما يبدو أنها نجحت في الإمارات..). انطلاقا من الحكرة أو الاحتقار ( البوعزيزي) وانطلاقا من « الحريك» ( إحراق الذات كاحتجاج)..جاءت الثورة العربية الشبابية. فهي نتيجة « النايضة» وهو مفهوم لا يترجم النهضة فقط كما فهمها وطبقها رواد النهضة( الطهطاوي قاسم أمين، محمد عبده..) وإنما يتجاوزها نحو « نهضة « جديدة تتعدى البعد السياسي بله الإيديولوجي لتتبنى ثقافة موسيقية تنهل من الهيب هوب والراب العالميين مصادر فنها، ومن الغناء أو « الحايحة» دواعي تأجيجها ( يا مصر هانت وبانت..) ( امنين فهمتنا..) و من الفايسبوك أسباب تواصلها. لا معنى إذن للحديث عن الدخول الثقافي ولا للحديث عن تقليد عربي ثقافي الآن ، والحراك الشبابي في بدايته..بداية حراك لا يني يعيد النظر في كل المفاهيم والبراديغمات بما فيها الثقافة وجواراتها.. لقد غاب المثقف الكلاسيكي رغم حضوره ( جابر عصفور)، وحضر مثقف شاب يتقن لغة النيت والبرمجة والتواصل.. وواكب مثقف آخر الحراك وانخرط فيه (علاء الأسواني) واستوعب المثقف العضوي بعض الصور الحية في مظاهرات 20 فبراير بالمغرب، ومنها صورة إحدى المتظاهرات، من عشرين فبراير ومارس على قميص أبيض بأحرف سوداء: I dont need sex Gouvernment fuck me ! Every day لست بحاجة إلى الجنس... الحكومة تضاجعني في كل يوم! ييس! الحكومات بكل الوزارات تضاجعنا منذ القدم، والسلطات كلها الآن وأمس. الشاعر إدريس الملياني: تحقيق ثورة هادئة خاضعة لدوافع المستقبل ومنفلتة من روادع الماضي لم يعد التأطير وتشكيل الوعي والمد الثوري يقوم به فرد واحد ولا قيادة موحدة إنما هي مفاهيم كلاسيكية نخرتها الإنتهازية والوصولية والهرولة وقلب القيم: بحيث بات الجلاد مناضلا والمثقف مخبرا ومنظم الحفلات مثقفا- لذا فشعار المرحلة الذي هو « إرحل» لا يتوجه إلى الآخر ( الإستعمار، العولمة...) إنما يتوجه إلى الذات أو إلى ذلك الجزء من الذات الذي يحكمنا(الزعيم، الفساد، المحسوبية..) يجب التحرر مما يكبل الذات لتستطيع التحاور مع الآخر فيما بعد. لقد اتضح بالملموس أن الآخر( أوربا خصوصا) لا يتعامل معنا إلا بقدر إحترامنا لأنفسنا.. وبقدر مصلحته (وهذا أمر مفهوم..) فحين ننادي بقيم الثورة الفرنسية( الحرية، المساواة، الأخوة) لا يمكن لفرنسا أن تتنكر لإنسيتنا وكونيتنا (رغم أن فلول الإستعمار حاولت ذلك في بداية ثورة تونس: أليو ماري مثلا..).. فالنزعة الإستشراقية نالت حضها من النقد والفحص (إدوارد سعيد، الخطيبي..) والإعتراف بنا لا كأنظمة وإنما كشعوب بدأ مع هذه الثورة الشبابية: على مستوى السينما: ( في المهرجان الأخيرالعاشر لمدينة كان تم الإعتراف بيسري نصر الله من مصر)، وعلى مستوى الموسيقى هناك أهمية الراب العربي (في فرنسا و هولاندا..) ثم ترجمة الأدب العربي ( أولاد حارتنا/ عمارة يعقوبيان).. وعليه إما أن نكون مع أو ضد هذا الحراك الثوري. كل الأنظمة الكليانية العربية تقول بأطروحة المؤامرة والدسائس وتفتعلها. ولا أحد يصدقها ( كاميرات المحمول تكذب ذلك) ولا يمكنها أن تستجيب لمطالب شبابها لأن في الإستجابة إزاحة وسقوط لأركان الفساد والبيروقراطية، التي حاولت وأد هذه الثورات ( البلطجية، افتعال التعصب الديني، التدخل السافر(السعودية). مقابل ذلك هناك بارقة أمل حقيقي..للقطع مع الخوف والإهانة مازال اليمنيون والليبيون والسوريون يحملون مشعلها.. أجل لكل بلد خصوصيته، فثورة تونس ليست هي ثورة مصر ولا ثورة اليمن ولا ليبيا.. إلا أن الذي ميز التجربة المغربية هو أنها عرفت انتقالا هادئا للسلطة ( ساهم فيه الاشتراكيون) ثم طرح مفهوما جديدا للسلطة بالمغرب وتمت ممارسته، وتعرض المغرب لتجربة قاسية (الإرهاب الغاشم على البيضاء) ثم فتحت أوراش كبرى( اقتصادية، بنيات تحتية) وواكب ذلك اقتراح إصلاحات كبرى( التعليم، المرأة، الدستور..) ثم ضربة غاشمة جبانة (مراكش). لقد كنا ومازلنا رغم المثبطات في إطار تحقيق ثورة هادئة خاضعة لدوافع المستقبل ومنفلتة من روادع الماضي. لكن ستبقى هذه الإصلاحات غير كاملة إن هي لم تطل مجالات وطابوهات: كالقضاء والأمن والتعسف والاعتقالات والحد من هيمنة العائلات والجماعات و وتوزيع الثروات..والمخزن وتغيير الدهنيات ثقافيا. ونحن نعرف أن الانتقال إلى الديمقراطية يجب أن يتم بعد رحيل كل الفاشلين وبعد تشبيب الأجهزة السياسية( في الأحزاب والنقابات والجمعيات والحكومة والاتحادات الأدبية والفكرية...) إن من يتحدث عن الدخول الثقافي و تسريع الثورة الثقافية لا يدرك بأن هذا الربيع العربي هو ثورة ثقافية اندلعت منذ مدة وعلى المثقفين التقليديين استيعاب هذا الأمر والانخراط فيه لفهم ما يجري. إن عزوف الشباب وجزء كبير من المثقفين كان عن السياسة التقليدية وعن التنظيم المضجر، وعن اللقاءات النمطية وعن الهرولة نحو المناصب وعن الخصومات الماكيفيلية..وإن استمر جزء من المثقفين في مقاطعتهم؛ فقد عثر الشباب على وسيلة للتواصل (فايسبوك) وانخرط في شبكة تواصلية وأبدع لنفسه غناء جديدا كونيا والتحم مع غيره كأصدقاء، وبات الراب لسان حاله، إنها إذن ثقافة جديدة وتنظيم جديد ولقاءات جديدة، أدهشتنا لأنها باغتتنا. الشاعر علي العلوي: المثقف العربي الأصيل مطالب بمزيد من التماهي مع روح التغيير لا شك في أن عديدا من المثقفين العرب لم يكونوا بمعزل عن الأحداث والتحولات التي نشهدها اليوم في العالم العربي ، حيث إنهم انخرطوا منذ زمن بعيد في رصد ملامح انحطاط معظم البلدان العربية وتخلفها على جميع المستويات، وكذا استشراف معالم المستقبل، وذلك إما عبر الدراسات والكتابات التي تعكس سؤال: لماذا تقدم الغربُ وتأخر العربُ؟ وإما عبر النصوص الإبداعية التي زاوجت بين مشاعر الاغتراب، وملامح الثورة، وبخاصة في الشعر العربي الحديث والمعاصر، الذي يصور في كثير منه أن سر الحياة الكريمة يكمن في الإقبال على الموت بالشجاعة والتضحية اللازمتين، وأن أول خطوة للخروج من واقع الفساد والاستبداد، تتمثل في تحطيم القيود التي تكبل الإنسان، وتحول دون توافقه مع ذاته، ومع الآخرين؛ ذلك التوافق الذي يزرع الثقة في النفس، ويوسع مجال الآمال والطموحات، ويعيد التوازن إلى الذات المنهارة. وما يصنع التغيير هو نار تخرج من الذوات لتشعل ما يعترض طريقها فتحرقه حرقا، ليطلع بدله نبات يانع مزهر؛ نار تحرق الشوائب كلها، وتؤسس واقعاً جديداً. إن ما يحدث في العالم العربي من تحول وتبدل ما زالا مستمرين لحد الآن، لا يمكن فصله عن المعطى الثقافي باعتباره شرطا ضروريا لكل تغيير حقيقي سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي. وهنا أشير إلى أنني أتحدث عن المثقف العضوي الفاعل في مجتمعه، الناطق باسم الشعب، وليس مثقف السلطة الذي يكرس كل انشغالاته واشتغالاته الفكرية والثقافية من أجل استبقاء الوضع على ما هو عليه، ويردد ما يريد أن يسمع الحاكم المستبد، بدل انخراطه في هموم الوطن، واستشراف أحلام المواطنين وآمالهم، التي تؤسس لقيم المواطنة الحقيقية. ومن ثم، فدور المثقف في ظل هذا الحراك العربي هو المساهمة في تكسير حاجز الخوف، وتبديد الأوهام العالقة بالأذهان، لإيقاف الظلم والعدوان، وبسط قيم الحق والعدل بدل القيم الزائفة، وتغيير الوضع القاتم إلى ما هو أفضل، وذلك بالشكل الذي بوسعه أن يبدد مشاعر الحزن والأسى التي سيطرت على النفوس، أو على الأقل يخفف من حدتها، ومن وقعها القاسي على الذات العربية الجريحة. من جانب آخر، فالدخول الثقافي هذه السنة سيكون مختلفا عن سابقيه نوعا ما، حيث إنه سيشكل فرصة لتعميق النقاش حول الربيع العربي الذي كان لحظة تاريخية فاجأت معظم الناس، كما أنه سيشكل أيضا مناسبة لتأريخ نجاحات الحراك العربي المتمثلة في التخلص من بعض الأنظمة الاستبدادية التي كانت جاثمة على شعوبها، والتي كانت أيضا سببا مباشرا في تأخر انطلاق قطار التنمية، والمضي قدما إلى الأمام. ولعل سقوط النظامين المصري والتونسي هو أبرز تجلٍّ لهذا التحول الذي لا شك في أنه سيعيد السيادة للشعب، وسيرفع لواء العدالة والحرية، ويحقق الكرامة لجميع المواطنين دون استثناء، وغيرها من القيم الإنسانية الرفيعة التي تحقق للإنسان العربي إنسانيته بالشكل المطلوب. إن الربيع العربي الحالي هو انبعاث للأمة من رماد العجز والوهن الذي يحيط بها، قصد الوصول إلى التغيير المنشود. ولقد شكل الحراك الاجتماعي عاملا ملهما للشعوب، في توطيد أركان أوطانها، وتحقيق الأمن والاستقرار، وإرساء أسس العيش الكريم الذي يصون الحقوق، ويضمن حرية الأفراد والجماعات، ويحث على أداء الواجبات عن قناعة وإيمان. ولعل المثقف العربي الأصيل مطالب بمزيد من التماهي مع روح التغيير، واعتبار ذاته امتدادا لها، من أجل أن يساهم في مواجهة الأسى الذي تسرب إلى الذات العربية من خلال الانتصار على كل ما يدعو إلى الارتكان إلى ما هو كائن، وإلى التسليم بمقولة أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان. الناقد إدريس الخضراوي: الدخول الثقافي على إيقاع الحراك الشعبي العربي أكثر من علامة تدّل على أن الدخول الثقافي العربي سيكون مختلفا هذا الموسم بعد تداعي الأسس التي قامت عليها مجتمعات ما قبل الربيع العربي، في مقدمة تلك العلامات، يبرز الحراك الشعبي وما أفرزه من ثورات في تونس أولا ومصر ثانيا وليبيا ثالثا، وتغييرات جوهرية وأساسية في دول أخرى، كما حصل في المغرب، قد تمهد لممارسة ديمقراطية فعلية تقطع مع كل أشكال الفساد والتضييق على الحريات، وتوفر الشروط المادية والمعنوية لممارستها، بما يكرس حق كل مواطن أو فرد في المجتمع في المشاركة في عملية اتخاذ القرارات العامة. وإذا استحضرنا فكرتين أساسيتين ناظمتين لمطالب هذا الحراك الشبابي العربي، أقصد فكرتي الحرية والكرامة وما تبسطانه من ظلال وارفة على الوجود الإنساني، أمكننا القول بأن الثقافة العربية لا بد أن تعرف ولادة جديدة تؤدي فيها فكرتا الحرية والكرامة دورا أساسيا في الرؤية للعالم. لا يعني هذا أن الثقافة كانت بعيدة عن الهمّ الإنساني أو غير ملتحمة بالجدلية الاجتماعية، فمنذ أن أفتى أفلاطون بطرد الشعراء من جمهوريته والثقافة بمعناها الواسع في قلب الطموح البشري إلى التغيير نحو الأفضل، كما أن الثقافة العربية لم تكف عن التقاط نبض مجتمعاتها، وهي إن لم تكن في مقدمة عوامل التغيير في الواقع العربي الراهن فإن دورها في التحريض على مجابهة بنيات الاستبداد والتسلط فيه لا يمكن نكرانه. لذلك فما يهمني التأكيد عليه ها هنا هو أن مفهوما جديدا للثقافة آخذ في التشكل والتموضع من جديد للتعبير عن هذا المناخ المختلف الذي يغتني بالإيمان بالتعددية الثقافية واللغوية والفكرية باعتبارها دعائم ومرتكزات للموقف الإنساني، مما سيعطي للثقافة مشروعية النهوض بأدوار جوهرية في تقديم الحياة الجيدة بدل الاقتصار على إمتاع الذات. أعتقد أن مفهوم الثقافة بالمعنى الذي تكرس مع الرومانسية ومع ما بعد الحداثة حيث اشتغال نسق الوجود على مسافة من السياسة، سيكون موضع نقاش عميق، باتجاه الفاعلية والارتباط بأسئلة الإنسان والانخراط في الإجابة عنها بدل التخلص منها. وهذا ما يعد سؤالا ثقافيا راهنا، لا يستوعب الثقافة وفق رؤية تفاعلية بين مختلف خطاباتها وفنونها بعيدا عن التفضيل بين ما هو رسمي وما هو شعبي شفاهي، وإنما يطول كذلك فئة المثقفين، ويعيد لفكرة الالتزام ألقها وتداوليتها. أتصور أن الثقافة العربية في ظل أسس ورؤيات جديدة، ستبرز ذاتيتها في اختلافها، وبنبرة تميزها وتقربها من هذا السياق الجديد الذي تكونت فيه، سواء على صعيد التقاط عناصر التجربة اليومية المعيشة أو على مستوى التجربة الإبداعية والفكرية بشكل عام، ليس فقط بين الفئات القليلة العدد من المثقفين وإنما كذلك بين جمهور واسع من المواطنين المعنيين بقيم ترتكز على احترام كرامة الإنسان وحقوقه. بالطبع لا أقصد بذلك ارتهان الثقافة لواقع يوجد خارجها، وإنما أعني إمكانية تبلور رؤية جديدة للثقافة لا ينفصل فيها معنى الإبداع، فكريا أو جماليا، عن دلالة الحياة. وهذا في حد ذاته يأخذ شكل قيمة مغايرة لا يحقق عبرها الفعل الثقافي خصوصيته وحسب، وإنما يبرهن بها أنه موجود ولا يمكن تجاوزه. الكاتب عزالدين الوافي: الحراك السياسي الذي يفرض علينا صيرورة التغيير مند نهاية الاستقلال والمجتمعات العربية ترى في التحرر مرادفا لتأسيس جيل من السياسيين وفكر يتجاوز محن الاستعمار بنشر ثقافة بديلة وطنية. كان شعار هده الثقافة يمرر أساسا عبر المحافل السياسية وبعض المراكز الاقتصادية والاجتماعية على اعتبار أن التحرر والازدهار لا ينبني إلا على قاعدة اقتصادية وسياسية وبمجرد الحصول على الاستقلال ساد اعتقاد خاطئ طبعا أن مهمة الثقافة قد انتهت بخروج المستعمر وبالتالي فثقافتنا متجدرة في عاداتنا وسلوكياتنا وديننا. فتحت شهية المناضلين ممن كرسوا حياتهم لبناء المجتمع الجديد للوصول إلى المناصب وكأن المثقف الإداري مرادف بطبيعة الحال للساهر والمنظم للحركية الثقافية. لكن تبين أن الوزير أو المندوب بعدما سطر لهما المخزن المهام والخطوط التي يجب نهجها أن دلك مجرد فقاقيع تنتج شكلا من الثقافة البورجوازية الفارغة من كل محتوى إنساني. هذا المسار الذي اتخذته الأنماط الثقافية من حيث الإنتاج والاستهلاك حاد بها عن مسارها الحقيقي كدينامو للتنوير والديمقراطية والسمو بالروح وخلق ما يسمى بالرأسمال الرمزي. من هنا يمكننا أن نتساءل عن أية ثقافة نتحدث في ظل مجتمعات لا يؤمن قياديوها بالمفهوم الثقافي بل هناك من يعتبره مجرد هدر للمال العام ويذهب آخرون إلى تحريمه أو فرض شروط أخلاقية ودينية شريطة تمويله السائد حاليا أن الدخول الثقافي سيتراجع أمام الهم السياسي والاقتصادي. ولكن المفاهيم الثقافية ستخضع لنوع من التطور من الداخل في عقول الناس من محض إرادتها لكونها تتفاعل مع الحراك السياسي الذي يفرض عليها صيرورة التغيير.