الثورة العربية الجديدة تطرح أسئلة عديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في سلسلة الحوارات مع المثقفين المغاربة، التي شرع «الاتحاد الثقافي» في نشرها منذ الأسبوع الماضي، هو أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا. في هذا العدد يحاور «الاتحاد الثقافي» المفكر محمد سبيلا. يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟ لقد أطلقت على هذه الأحداث عدة تسميات: الثورة - الانتفاضة العربية - الربيع العربي - الحراك - الرجَّة... إلخ. لكن المصطلح الذي شاع أكثر هو الثورة وهي بالفعل ثورة لكن على مستوى نية أو متخيل الفاعل. ومن ثمة فهي لا تخلو من بعد تزييني أو تمجيدي لفعل الفاعل أكثر مما هي مصطلح وصفي أو تشخيصي، أو لنقل أنها تتضمن بذور ثورة لأن الثورة في التعريف السوسيولوجي هي تغيير كامل وشامل للمجتمع تغيير للنظام الاقتصادي (أي لنظام الملكية والعلاقات بين المالك والأجير..). وللنظام الاجتماعي (القائم على الأبوية والولاء ودونية المرأة نحو نظام مختلف) وللنظام السياسي من الشرعية الدينية أو التاريخية نحو شرعية التمثيل والإنجاز. فالكثير من المصطلحات السياسية هي مصطلحات وتسميات يطلقها الفاعل لتبرير أو لتمجيد فعله، في حين أن الباحث أو الملاحظ يتجه إلى استعمال مصطلحات وتسميات وصفية أكثر حيادية. وبالنظر إلى أن هذا الحراك الاجتماعي العدوائي لم ينبثق من خطة أو من تصور معد مسبقا، ولم يرتبط بنخبة ثقافية أو سياسية بعينها، ولم يكن لديه تصور متكامل عن الاتجاه المقصود بقدر ما كان احتجاجا ورد فعل على اللامساواة وعلى التفاوت وعلى البطالة والتهميش والاستبداد الحزبي أو العائلي... وبالتالي فإنه يظل حراكا ثوريا على مستوى النيات والأهداف والمقاصد البعيدة التي تتبلور تدريجيا مع الممارسة. ويجب الاعتراف بأن هذا الحراك في صيغته الفجائية الأولى (في تونس ومصر) قد أدى إلى إسقاط رأس الهرم السياسي وإلى اعتقال العديد من أطره، وإلى حل الحزب الحاكم وإلى «حبس» الرئيس المصري وأبنائه وتغريمهم بمعنى أننا أمام مسلسل متدحرج من التحولات التي يتوقف زخمها على دينامية الفاعل ومدى استجابة المجتمع إنها سيرورة طويلة المدى. بدأت ثورة تونس بقصيدة (إرادة الحياة) لأبي القاسم الشابي إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب؟ البيت الشعري هو صيغة سحرية متعددة الوظائف والدلالات فهو - خلاصة مركزة لفكرة ( الحرية والتحرر) - هو شعار تعبوي: من أراد الحرية فليتعبأ لها، فالقدر التاريخي (أو الميتافيزيقي) يضمن له النجاح. يكفي أن تريد ليكون أو أرد تجد. فالاستجابة الإيجابية للقدر تتوقف فقط على وجود الإرادة، إرادة التحرر أو بعبارة أخرى أن الاستجابة تتوقف فقط على الطلب - هو أنشودة جميلة تعبر عن البعد الجمالي أو الاستتيقي في الفعل التاريخي مما يعني أن الشعر ليس فقط فكرة وحافزا بل هو أيضا أنشودة ومتعة جمالية ونغمة إنه بمثابة وتيرة (Rythme) للتاريخ، ما يضفي نغما وجمالية على التاريخ، هو تعبير عن ثقافة أدبية وشعرية فالجموع الغاضبة والمحتجة لا تصرخ فقط بحناجرها بل تلتقط وتوظف الإيقونات الثقافية. استعمال البيت الشعري هو تعبير عن رقي ثقافي وعن ارتفاع نسبي للمستوى الثقافي. فكل متظاهر يردد بيت شعر أو يرفع كاريكاتور أو شعار مكتوب أو صورة. بارتباط مع العنصر السابق عنصر ارتفاع المستوى الثقافي استقبالا وإرسالا هناك البعد الفردي. فكل فرد فرد له أقانيمه المشتركة مع الآخرين لكن له إضافة فردية خاصة (ارحل، فقد اشتقت لخطيبتي) من خلال صورة أو بيت شعر أو نكتة أو... وقد استطاع هذا البيت الشعري أن يكون بيتا للجميع بمختلف الدلالات المذكورة مما يجعل الشابي ربما هو البطل الحقيقي أو الافتراضي الأكبر لهذه الثورات العربية. قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟ أكيد أن هذا الحراك العربي هو نتيجة حيوية ديمغرافية من جهة وحركية ثقافية من جهة ثانية أي تعبيرا عن حاجات اجتماعية وعن اختيارات ثقافية، ولكنه من جهة أخرى سيولد أو يطور ثقافته الخاصة وسيطلق العنان لتحولات ثقافية أكثر جرأة. فنحن نعرف أن هناك أسانة ثقافية قارة وراسخة نتيجة إعادة إنتاج المجتمع العربي لنفسه على المستوى الثقافي ونتيجة ظهور حراس الأورثوذوكسية مما حجَّم التحولات الثقافية والفكرية ولجمها في إطار التقليد والتكرار والوفاء للأجداد ولثقافة الأجداد. هذا الحراك سيكون بمثابة قوة دفع وحفز على التطور الفكري والثقافي لموازاة التحولات السياسية والاقتصادية الجارية، وللانخراط في زمن العالم الحديث. التحولات الثقافية هنا ذات وجهين، حافز وتابع، سابق ولاحق. وافترض أن هذه التحولات التاريخية الجارية ستزيد من جرأة الفهم والنقد وكسر الجمود الفكري والثقافي الذي يلجم المجتمعات باسم ماض نموذجي تليد. أفترض أن هذا الحراك سيوفر الأرضية التاريخية لتطور ثقافي يقوم على التحول من ثقافة الاستعباد والخنوع إلى ثقافة التحرر الشخصي والكرامة الشخصية والحقوق الشخصية. كما أفترض أن هذا الحراك يحتاج إلى تطوير ثقافة عصرية تحقق الاندماج في العصر والخروج من الحجر السلطوي ومن الاستثناء التاريخي الذي جعل العرب نشازا في التاريخ العالمي الحديث. حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له، كيف تقرؤون هذه المفارقة؟ غياب المرجعيات أو المرويات الكبرى في هذا الحراك ناتج عن فشلها الجزئي في تحريك التاريخ العربي وذلك بالنظر إلى أن التنظيمات والأحزاب التي تنتمي إلى هذه المرجعيات تحولت إلى مرجعيات كاريكاتورية بسبب تآكلها وتقادمها وغياب نسغ الحياة منها إما بسبب الرتابة أو بسبب القمع الشرس الذي تمارسه الأنظمة الاستبدادية العربية، إما عبر الإبادة الفيزيائية أو الإبعاد أو التهجين أو التدجين. لغياب المرجعيات الكبرى وجه آخر، هو الاختفاف. فحركة التاريخ هنا كانت تعبيرا عن واقع الاستبداد والتهميش وتكميم الأفواه والإقصاء والاستئثار بالسلطة والثروة. غياب المرجعيات الكبرى هنا عامل إيجابي لأنه يعني خفة الحركة وعدم وجود تثاقلات كبيرة ، بيروقراطية/وفكرية مثقلة بأكياس الرمال. تتسم هذه الثورات بالتلقائية «والعفوية» وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية؟ إذا كان المد الثوري (الاشتراكي منه والإسلامي المرتبط بالثورة الإيرانية) قد خبا فإن هناك مدا آخر أو مدين آخرين صامتين: مد ثقافة الحداثة الذي هو بمثابة نهر عميق يشق طريقه تحت الصخور وثقافة الحداثة التي تتغلغل تدريجيا هي ثقافة الحقوق والحريات، ثقافة الحداثة هي ثقافة قدسية الكائن البشري وأساسية حقوقه الاجتماعية والسياسية والثقافية، وجذرها هو حق الاحترام أو الحق في الكرامة التي هي جذر الحقوق أو حق الحقوق، أي حق الفرد في الوجود وحقه في الحقوق بعيدا عن أي تمييز عرقي أو ديني أو إيديولوجي أو لغوي أو حسب المستوى الاجتماعي. فثقافة الحداثة هي ثقافة المساواة المطلقة بين الناس واعتبارهم سواسية، سياسيا واجتماعيا وثقافيا. لكن هناك نهرا عميقا آخر يجري تحت الجسر، وهو النموذج الحي المتمثل في انتشار مظاهر الاستهلاك وتوسع دائرة المجتمع الاستهلاكي، هذا دون أن نحلل الديناميات الكامنة خلفه والمتمثلة في التوسع المستمر للرأسمالية، بما تعنيه من حفز على الكسب، وبما يرتبط بها من ثقافة دنيوية، ثقافة الإشباع واللذة والمتعة. هذه العناصر هي الفواعل الدينامية التحتية التي تتفاعل وتتناغم لتحرك السواكن. دأبت الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية؟ الأحكام من قبيل: «القابلية للاستبداد» و»القابلية للعبودية» والقابلية للاستعمار هي مثل القول بالاستبداد الشرقي، أو عضوية التخلف الفكري، أو العقلية ما قبل المنطقية، أو غيرها من الأحكام القيمية المسبقة التي هي في النهاية أحكام إيديولوجية، ذات نكهة عرقية أو استعمارية أو غيرها. صحيح أن الشعوب العربية عاشت لدهور التخلف الثقافي والحضاري والعلمي والسياسي... مما أوحى بأن ذلك من طبيعتها، فبدا كأن الظرف أو الشرط التاريخي هو شرط طبيعي. وهذا أمر غير دقيق. وعلى المدى القصير نلاحظ أن الشعوب العربية بعد تحقيق الاستقلال السياسي في منتصف القرن العشرين، سقطت تحت أنظمة سياسية استبدادية إما باسم استكمال التحرر السياسي وبناء الدولة الوطنية أو باسم التحرر القومي وتحرير فلسطين أو باسم مقاومة الإرهاب. فقد تم استغلال كل المثل: الحرية، التطور، التقدم، تحرير فلسطين، مقاومة الإرهاب لإرساء نظم قمعية شرسة أمنوقراطية، حولت الدولة إلى جهاز بوليسي قمعي. ففي هذه الفترة تصدت العسكريتاريا لهذه المهمات أو الشعارات، وأقامت أنظمة استبدادية مطلقة لم يعرف التاريخ البشري نظيرا لها، إلا في ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية، لكن بشعارات قومية أو وطنية أو أممية... في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين؟ هناك فعلا مراوحة وانبهام في فهم هذا الحراك العربي، بين قطبين: الأمل والمؤامرة. وكلا القطبين مشروع، فالحراك العربي يعكس طموح شعوب وفئات اجتماعية نحو التحرر والانخراط في العصر وجذوة أمل، لكنه يحدث في عالم تحكمه القوى الكبرى والتي تهمها مصالحها المباشرة، أكثر مما تهمها الشعارات الإيديولوجية المنسوبة إليها أصلا: الحرية-الديمقراطية-الإصلاح... الغرب تهمه الثروة العربية والانقسام العربي جغرافيا وسياسيا بما يخدم سيطرته. فالمحلل النبيه هو الذي يراعي حضور هذين المعطيين معا: اليوتوبيا المأمولة من جهة والمعطيات المحيطة من جهة أخرى وهي معطيات يهمها ترويض هذا الحراك ووضعه على السكة المرسومة من طرف الغرب. يتعين إذن تتبع الخيوط المضيئة لهذا الأمل، مع مراعاة سياقاتها وشروطها التاريخية على المستوى العالمي، بما فيها من مصالح وخطط سياسية وما ارتبط بها من «غرف العمليات الإعلامية» وكذلك على المستوى المحلي أي المقاومات الداخلية التي تبديها القوى الاجتماعية المحافظة أو الرافضة للتغيير. عند الحديث عن «عدوى» الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يجري الحديث عن «الاستثناء المغربي» ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت؟ إذا سمحنا لأنفسنا بالحديث عن استثناء مغربي فإنه استثناء تجربة، لا استثناء مبدأ أو استثناء في القاعدة. فالمد الديمقراطي العربي، هو مد عدوائي كاسح، ومن الصدف التاريخية أن المغرب اضطر إلى المصالحة التاريخية مع المعارضة واستدماجها، في السلطة عبر تجربة التناوب وإقامة تجربة الحوار والمصالحة عبر هيئة الإنصاف والمصالحة وتبني ثقافة حقوق الإنسان والموافقة على تنظيم جزء من الحركة الإسلامية ضمن حزب سياسي مشروع وغيرها من الإجراءات التي أدت باكرا إلى تنفيس الكثير من مظاهر الاحتقان السياسي، إضافة إلى أن العهد الجديد وجد نفسه سياسيا وجيليا خارج الصراعات الطاحنة التي عصفت بالسياسة المغربية بين ستينات وتسعينات القرن الماضي، وكما قال الأستاذ محمد العمري في حوار سابق مع الاتحاد الثقافي ، إن الأحقاد الشخصية التي كانت توجه إلى رأس الدولة لم تعد تجد موضوعا تتعلق به. فالكل مجموع على أن الملك الجديد غير معني بسنوات الرصاص، لأنه لم يكن طرفا في هذه الصراعات السياسية الطاحنة التي شهدها المغرب بعد الاستقلال. أضيف إلى ذلك الاستجابة المسبقة للمطالب الديمقراطية وكذا تواتر هذه المطالب عبر تجربة الأحزاب الوطنية الكبرى. المهم أن هناك رهانا تاريخيا على استباق المطالب الشعبية وعلى الرغبة في الخروج من عنق الزجاجة التاريخي. هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا ستؤهل المغرب إلى الانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمد انتظارها؟ الإيجابي في حركية الإصلاح الدستوري هو الروح والإرادة السياسية التي حفزته، لكن اختزاله في مجرد إصلاح النصوص هو من جهة ضبط وترسيم للإصلاح، لكنه من جهة أخرى، اختزال له في مجرد إصلاح نصوص. ويبدو أن هناك مناطق عتمة لا يشملها الإصلاح: - إصلاح الممارسة أو الممارسات السياسية - تقوية الديمقراطية الداخلية في الأحزاب - تجديد النحب السياسية والإدارية - التأطير الأخلاقي للمارسات السياسية، تأطيرا قانونيا، للحد من كل التجاوزات التي أصبحت بمثابة قاعدة عمل، لأنها مبنية على الولاء لا على الأداء والإنجاز - الجرأة على تبني الثقافة السياسية الحديثة لإرساء الإصلاحات على قاعدة ثقافية ملائمة إن خطوات الإصلاح الدستوري أساسية ومهمة، لكن هل يجوز تطبيق الإصلاح بأدوات وآليات يتعين أن تكون هي أيضا محط إصلاح. من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاج لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية؟ ما يحدث في المغرب وفي العديد من البلدان العربية هو نتيجة مجموعة من العوامل أهمها: تراكم مظاهر التفاوت الاجتماعي بما يصاحبه من إقصاء وتهميش تراكم آليات القمع والإرهاب السياسي، الذي تمارسه الأنظمة الرسمية العربية سواء تعلق الأمر بالاستبداد التقليدي أو بالاستبداد العصري، الذي يعبر في أغلبه عن حكم العسكر، والذي يتدثر ويتستر وراء إيديولوجيا وطنية أو قومية. هذا فيما يتعلق بالعوامل السلبية الفاعلة، أما الوجه الآخر، فهو التحول الثقافي البطيء المتمثل في ارتفاع مستوى التعليم وفي تمثل الثقافة الحديثة، التي هي ثقافة حريات وحقوق وخاصة من طرف الشباب، الذي وجد نفسه في نوع من الانفصال عن المجتمع وعن السياسة السائدة بما فيها الأحزاب المندمجة والمروضة. فثقافة الحقوق والحريات والكرامة الفردية تسري اليوم تلقائيا في المجتمعات العربية كالنار في الهشيم، إما بشكل مباشر عبر الاطلاع والتكون والتعرف أو بشكل غير مباشر، عبر وسائل التواصل المتاحة بوفرة اليوم. نعم قد نكون فعلا في حاجة إلى تفعيل هذا التحول الثقافي ودعم تلقائيته، إلى تأطيره من طرف الفئات الرائدة أو الاستشرافية في المجتمع ،أي من طرف المثقفين بالمعنى الواسع: جامعيين-كتاب-صحافيين-نخب عصرية اقتصادية وسياسية مختلفة. يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي؟ الإسلام السياسي نتاج لعدة عوامل فاعلة فهو ( تعبير عن المكون الثقافي الأساسي أي الدين في المجتمعات العرب ) هو تعبير عن رد فعل النخب المتشبعة والمتشبثة بالفكر الإسلامي ضد فشل الأنظمة الحديثة وضد فشل النخب التحديثية وضد مظاهر تغلغل الاستعمار والغرب في المجتمعات العربية الإسلامية، فهي ليست نتاجا للركود والجمود بقدر ما هي رد فعل حيوي على تجارب أخرى ترى أنها فشلت أو تواطأت أو استلبت. وهي ترى أنها هي البديل الأمثل للحكم ولديها الحلول الملائمة. هذا هو رهانها الأساسي. ومن ثمة يبدو أن التحولات الديمقراطية الجارية هي تعبير عن حاجات اجتماعية وسياسية ضاغطة، كما هي تعبير عن اقتناعات فكرية بالرؤية الحديثة التي يلخصها لفظ الديمقراطية. إن ما يجري هو تعبير عن صراع رؤى واختيارات وأفكار. ومبدئيا الديمقراطية، إذا ما تم تطبيقها بقدر من الوفاء، هي النظام السياسي الأفضل من غيره والذي يوفر لكل الاتجاهات فرص التنافس في مجال تدبير وقيادة المجتمع وإيجاد حلول (غير سحرية) لجل مشاكله، خاصة في هذا السياق الدولي المتسم بتسارع وتيرة حركة التاريخ وبالتنافس غير الرحيم. إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟ لم يكن عزوف الشباب عن السياسة كذبة أو رأيا مصطنعا بل هي واقعة ثابتة وحية. لكن الفرق هو في تفسير الظاهرة، فعزوف الشباب عن السياسة ذو شقين: الشق الأول هو انشغال الشباب بالأشكال الثقافية الجديدة: ( الثقافة الإلكترونية ( ثقافة المتعة واللهو وتزجية الوقت المرتبطة بالصنف الأول . ثقافة الجسد، أي الرياضة أو الرياضات المختلفة وعلى رأسها ثقافة القدم أو كرة القدم ومفعولها السحري كلعبة تنافس وتفريغ جسمي ونفسي. أما الشق الثاني في التفسير فهو النظر إلى عزوف الشباب عن السياسة من حيث هو تعبير عن رفض المجتمع ورفض السياسة والسياسيين إنه هروب قصدي واحتجاج قصدي يعبر عن بحث الشباب عن متنفس خارج الواقع الذي يرفضهم كشباب أي كفئة اجتماعية. فبحكم تباطؤ التطور الاجتماعي والاقتصادي وتراكم أزمات التشغيل في مجتمع لا يتلاءم فيه إنتاج الشهادات مع إنتاج الوظائف تتولد بالتدريج لدى فئة الشباب مشاعر الإقصاء والتهميش. فمثلا نحن في جيلنا أي الأجيال الأولى للاستقلال كانت هناك سيولة بين إنتاج المدرسة والجامعة وإنتاج الوظائف سواء من طرف الدولة أو في القطاع الخاص فكان اندماجنا في المجتمع سريعا وتلقائيا لكن بعد ذلك أصبح من العسير على الشباب المتخرج العثور على عمل وبالتالي تعثرت حياته أي شغله وزواجه أي تكوينه لعائلة وتملك شقة... إلخ. هذا الوضع أو الاختناق الاجتماعي المتمثل في تباطؤ قدرة المجتمع على استيعاب واستدماج الأجيال الجديدة خلف نوعا من التفاوت العميق بين الأجيال. وما أن وجد الشباب في الأدوات الإلكترونية وفي المعلوماتية وسائل للتثقف وللتواصل وللتعبير أو خشبة نجاة حتى استثمرها في إيجاد حركية اجتماعية وسياسية حركت الكثير من السواكن. فالمعاناة المرة والحاجة والضرورة ، ولدت هذا الوعي الجيلي الجديد الذي فهم السياسة وانخرط فيها بطريقته.