الثورة العربية الجديدة تطرح أسئلة عديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في سلسلة الحوارات مع المثقفين المغاربة، التي شرع «الاتحاد الثقافي» في نشرها منذ الأسبوع الماضي، هو أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا. في هذا العدد يحاور «الاتحاد الثقافي» المفكر محمد المصباحي. يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟ يتميز «الحراك الجماهيري»، الذي تشاهدُه البلدان العربية منذ فجر الثورة التونسية، بكونه حدثا فريدا في نوعه، حدث لا يقاس على غيره، ومن ثم فهو غير قابل للتصنيف ضمن القوالب الجاهزة التي استعملت لوصف الانتفاضات والانقلابات والثورات السياسية والاجتماعية التي مرت في التاريخ الحديث بعامة. هل هي حركة احتجاجية، هل هي انتفاضة اجتماعية، هل هي هبة ثقافية، هل هي ثورة سياسية، فهي كل هذا وغيره لأنها «حدث كلي» أو «حدثان» بلغة ابن خلدون. إنها هبّة شبابية تلقائية جرفت معها كل الجماهير، وأنزلت المثقفين من أبراجهم العالية، بعد أن نفذ صبر الجميع من انتظار الإصلاح الديمقراقي، ويئست من أن تحظى برؤية فجر الحرية والكرامة والعدالة. موازاة لذلك، صادفت هذه العاصفة البشرية استنفاذ الحكم الاستبدادي كل أنفاسه وقدراته على الإغراء والإقناع وحتى على القمع. وكأن الظلم مُنهِك للمظلوم والظالم معا. سقط جدار الخوف، فبانت ركاكة الأنظمة الأُسَرية، وانهارت قدرتها على الإخافة والتخويف، وانفضح أخطبوطها الذي يبتلع كل من وما صادفه في طريقه. يمكنك أن تكذب على شعب ما شئتَ من الوقت، ويمكنك أن تزوّر الأرقام كيفما يحلو لك لإثبات الصدارة في التنمية والنجاح في الحكامة، ولكن عندما يصل الكذب مداه الأقصى، ويفيض كأس الظلم والغصب والوقاحة، ينقلب إلى سلاح الكذب على الكذّاب. ولأمر ما أثبتت اللغة شيئا من القرابة بين الكذب والظلم. وعندما يُفرغ الظَّلمة دولهم من الحق، يفقدون حقهم في الوجود. إنه قانون السياسة الأعظم الشبيه بقانون الجاذبية. هذا هو معنى هبوب هذه العواصف البشرية التي تقتلع في طريقها كل شيء حتى تتمكن من تنظيف الفضاء السياسي من سالبي أهل الحقوق حقوقهم، المخربين للعمران والبلاد والتاريخ. بدأت ثورة تونس بقصيدة (إرادة الحياة) لأبي القاسم الشابي إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب؟ ثورة تونس في حد ذاتها شعر بليغ، ولا تحتاج إلى قصيدة بعينها لتقدح شرارة نارها. أقصد بالبلاغة هنا الإنجاز فعلا لا قولا، إخضاع القدَر للقُدرة (الإرادة). والشعر يصبح فعلا متى «الشعب يوما أراد الحياة». بهذا النحو يصبح الشاعر ناطقا باسم الآلهة، لأن الكلمة تنقلب بين يديه وجودا. ومن هذه الزاوية فقط يمكن اعتبار هؤلاء الفايسبوكيين شعراء. فقد استطاعوا أن يقلصوا المسافة بين الإرادة والقدَر، بل أن يحوّلوا الإرادة إلى قدَر، أو أن يرغموا القدَر على الاستجابة. هل تظن أن الانفعال العميق والشامل الذي اجتاح قلوب الشباب (بالمعنى الواسع) وعقولهم وأجسادهم في تونس ومصر، ويهز الآن مشاعر الجماهير في سوريا وليبيا واليمن، كان صادرا عن غير طاقة الشعر؟ أبدا. الشعراء الحقيقيون كانوا دائما أنبياء أزمنتهم لأنهم ينطقون باسم الوجود، باسم الحق ولو مجازا. ولذلك تهابه العقائد والإيديولوجيات. قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟ ما قام به التونسيون والمصريون، وما يقوم به الليبيون والسوريون واليمنيون وباقي الشبيبات العربية الآن، هو الثقافة بمعناها الحق، أقصد بها تلك الرؤية المضادة للثقافة السائدة التي تطوّق الإنسان بالجمود والجحود. لقد تحررت الثقافة العربية من عقالها، فانطلقت نشوى مكسرة القيود التي كانت تقيّد العقلَ والقلب والخيال والجسد. في هذه الثورات جرت مصالحة بين الفعل والقول من أجل استرداد الذات. واسمح لي بالقول بأنه من غير اللائق إثارة مسألة القمم الثقافية في سياق هذا الحراك الجميل، لأن القمم بطبيعتها وفي أصلها مضادة للثقافة. متى كانت الثقافة رسمية؟! متى كانت الثقافة تتكلم باسم التقاليد؟! لا نريد مؤتمرات للثقافة، نريد تحرير الثقافة منها. أليست غاية المؤتمرات هي الخروج بتوصية، أي بوصاية وحجر؟ كل ما يريده المثقف أن يتركوه هو وشأنه حتى يمكن من تبديل جلده. نريد أعمالا ثقافية لا بلاغات وتوصيات ثقافية. لقد حققت هذه الثورات أعظم إنجاز ثقافي قدمته الشعوب العربية إلى العالم وهو «النموذج العربي للثورات»، وهو نموذج ثقافي وحضاري بامتياز. حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له، كيف تقرؤون هذه المفارقة؟ كم من جَزْر كان أفضل من مدّ؛ في الجزْر تسترجع الأمواج نفَسها وطاقتها للاندفاع من جديد أكثر قوة وعنفوانا. الجَزْر علامة على مدّ آت لا ريب فيه! أجمل ما في هذه الثورات أنها تخلت عن التأطير والاستئناس بالمرجعيات العتيقة. الثورة مؤنثة؛ لذلك تأبى الخضوع لمنطق العتاقة! الثورة ليست خمرا تسعى لتخدير الناس بالماضي. الثورة يقظة، صحوة، مدٌّ للعينين إلى الأمام. والغريب في هذه الثورات العربية الآن أنها أثبتت فشل المرجعيات التي أسست ما يسمى بالثورات (الانقلابات العسكرية) الرديئة التي أفرغت الشعوب والأمم من مضمونها الثوري الذي هو العقل والحرية والكرامة. شباب الثورة الرقمية لم يعد يثق بالمرجعيات. مرجعية الإنسان هي الإنسان؛ هي شوقه إلى الحرية والكرامة والصدارة في كل القيم والمعايير. ومن هذه المرجعية يمكن استخلاص المرجعيات الأخرى التي ينبغي أن تكون نتيجة مداولة وتفاوض، نتيجة نقاش حر في الساحة العمومية، لا نتيجة تحنيط وتفسير وتأويل في جنح الظلام. لو تدخلت المرجعيات السابقة لأفسدت كل شيء في هذه الثورات. المرجعية معناها أن الحقيقة في حيازة جماعة من البهاليل الذين نصبوا أنفسهم فوق شعوبهم، والذين لا همّ لهم سوى استرقاق الجماهير والشعوب وإذلال دولهم. لهذا نجد أن ما يميز هذه الثورات أنها غادرت منطقة الحقيقة إلى منطقة المعرفة، التي تصنعها بالسؤال والنقد والشك، رغبة منها في أن تبقى طرية بقلب مفتوح على الحياة وعلى التجديد. المرجعية معناها إغلاق باب الاجتهاد في اللائحة المطلبية. والحال أن ما يميز عالمنا اليوم، عالم الثورة الرقمية، هو إلغاء فكرة إغلاق الأبواب والحدود. هل نحن أمام طوباوية جديدة؟ لِمَ لا، ولكن بشرط أن تكون على أنقاض الطوباويات القديمة. فأن تعرف الثورة العربية الحديثة كيف تحتل الفضاء العمومي، افتراضيا كان أو واقعيا، معناه أنها قادرة على صياغة معالم عدالة جديدة. من يعرف استعمال الثورة الرقمية والصورية لإحداث الثورة الواقعية، قادر على صوغ لوحة جميلة لمستقبل مشرق يكون فيه للمواطن حقه في إبداء رأيه وفعله في بناء مستقبل البلاد. تتسم هذه الثورات بالتلقائية «والعفوية» وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية؟ إذا فهمنا «تلقائية» أو «عفوية» هذه الثورات بمعنى أنها استطاعت أن تتحرر من المرجعيات المسبقة، وأنها لم تعد تستند في تفكيرها إلا على نفسها، فإنه يحق لنا وصفها بالعفوية. لكن إن فهمنا من «العفوية» أن هذه الثورات جاءت من دون مداولة وتفكير، دون حوار ونقاش علني في الساحة العمومية للانترنت، دون شعور جدي بالمخاطرة والمجازفة، وأنها مجرد «رد فعل» طائش وساذج، فإن وصفها بالتلقائية مخل بنبل مقاصدها. فمَن له هذه الطاقة التفكيكية لأعتى الأنظمة تماسكا وصلابة لا يتحرك بالخاطرة بدون عزم وتصميم وتخطيط. لذلك فمثل هذه الثورات لا تحتاج إلى مثقفين من النوع التقليدي. ما يريده هؤلاء الشبان هو أن يكونوا هم أنفسهم، لا غيرهم. أن يكونوا زمانهم لا زمان غيرهم. والحال أن دور الثقافة بمعناها التقليدي، والذي عبّر عنه سؤالك «بتأطير وتشكيل»، هو تحنيط الفورة الخلاقة وصبها في قوارير صَدِئة، وتعبئة الفُتُوة الجامحة في قوالب متحجرة. «العفوية» ضمانة الصدق في هذه الثورات. وهذا الصدق هو الذي يعطيها القوة في وجه الأنظمة الغاشمة القائمة على الكذب والغش والبهتان. هؤلاء الشباب يريدون بناء نظام قولي وفعلي جديد قائم على الصدق لا على الأراجيف. وشتان بين الكذب والصدق، بين الباطل والحق، بين الظلم والعدالة، بين الاستبداد والديمقراطية. ليس لهؤلاء رهانات وراء فعلهم. إنهم لا يقامرون بشيء على شيء. فقط يريدون تفكيك نظام فاسد وإقامة نظام سليم صالح للجميع، للبلد ككل من غير إقصاء. باختصار هذه الثورات لا تحتاج إلى تنظير، لأن التنظير قتل للتلقائية بمعناها القوى الذي هو طاقة للتفكيك وإعادة البناء. دأبت الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية؟ لهذه الثورة (الشجرة) المباركة عدة ثمرات. من بينها تجاوزها لهذه الثنائيات المقيتة التي تم استبطانها من قبل دهاقنة من أهلنا على شكل ما سمي «بالخصوصية». إذا وجدتَ إنسانا في الدنيا يقبل بالاستعباد مطلقا، فهو قطعا ليس إنسانا، اللهم إلا إذا كان ذلك من باب الحيلة والمكر، عملا بجدل السيد والعبد. نعم، لا ننكر أن الشعوب العربية والإسلامية قبلت بالعبودية للسلاطين والرؤساء والزعماء زمنا طويلا لأنها كانت أمما متحضرة، فوقعت ضحية تبرير للاستبداد إما عبر تأويل مُغرض للعقيدة، أو انبهار بإيديولوجية تحريرية، أو اقتناع بخطابة جذابة تغدقه بوعوده المعسولة. كانت البلاغة والخطابة والتأويل من أسباب سقوطنا في فخ الاسترقاق من وقت لآخر. تتفق البلاغة والخطابة والتأويل في صفة واحدة، وهي إخفاء الحق بالباطل. في زمن الثورة الرقمية لم يعد مكان لهذا التزوير القبيح للحقيقة. صارت الحقيقة تطرح طرية طازجة في سوق الانترنت الكبير. في زماننا هذا لم يعد مكان للبلاغة والتأويل، فأحرى للمستشرقين الأجانب والمحليين ذوي اللحى من مختلف الأشكال والأصناف. في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين؟ أنا من أصحاب الرؤية الأولى، بل أكثر من ذلك أعتقد أن الغرب كان خارج التغطية. ولم يستطع التقاط إشارات الثورة إلا بعد وقت طويل. لأول مرة نرى الغرب يتم استبلاده من لدن الشرق. من يقول بالمؤامرة هم جماعة من أهل الكهف بكلبهم الذي لا يتوقف عن النباح وراء قافلة باهرة تسير برشاقة نحو الأمام. المقرف في الأمر أن أكبر دولتين ملهمتين في الماضي بمثل الحرية والإنعتاق صارتا أشد المدافعين عن أنظمة الاستبداد ومصاصي دماء شعوبهم. حتى بالنسبة لهؤلاء «انتهت اللعبة»، ويجب أن يرحلوا. لقد سئمنا منهم! عند الحديث عن «عدوى» الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يجري الحديث عن «الاستثناء المغربي» ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت؟ بداية، أنا لا أتفق معك في توصيف هذا الحراك الديمقراطي بمجاز العدوى، لأن الأمر لا يتعلق بوباء ينتقل انتقالا سريعا إلى الجماهير فيدمرها في رمشة عين، بل الثورة أمر شريف، إنها بالأحرى نور يضيء الجميع من الأعالي، وليست عدوى وبائية تتسرب خفية إلى مفاصل الإنسان بدون استئذان منه. أعود إلى سؤالك لأقول إن الثورة العربية، بلغة ابن خلدون، حَدَثان، وليس مجرد حدث بسيط. ولذلك فهي بالضرورة سيعم المعمورة برمتها، ولا يمكن أن يكون هناك استثناء. فكما أنه لم يعد ممكنا أن تَمنع الشعوب والأفراد من نعمة التليفون والتلفزة والانترنت، فكذلك لا يمكنك أن تمنع الناس أن يهبوا ضد الاستبداد والفساد. غير أنه لمّا كان للاستبداد معان متعددة، فإن علاجه لا يمكن أن يكون بدواء واحد. بعبارة غير مشفرة، المغرب كغيره من بلدان المعمور مطالَب هو الآخر بالتغيير، ولا يمكن أن يكون استثناء أبدا، لاسيما وأن معدلات ووتائر الفساد لم تعد قابلة للاحتمال. الثقة في الشعب والمواطن ضرورية. لم يعد بالإمكان القول بأن الشعب، عن طريق ممثليه من الشعب، غير مؤهل لتحمل مسؤوليات البناء ومحاربة الفساد. وبالفعل، المغرب، على أعلى مستوياته، كان سباقا للإنصات إلى تطلعات الشارع. هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا ستؤهل المغرب إلى الانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمد انتظارها؟ انطلق مسلسل الإصلاحات الدستورية في عملية للإنصات إلى كل من هبّ ودبّ، ليقول رأيه في مدى رشد الشعب المغربي لتحمل مسؤوليات التفكير والتدبير والحكامة على كل المستويات. بعض التنظيمات أبانت عن جبنها وخشيتها من الإعلان عن رُشد الشعب المغربي، اعتقادا منها أنه ما زال قاصرا ويحتاج إلى وصاية دائمة. ولكنها لا تعلم أن الأوصياء قد يسقطون ضحية وصايتهم! وهذا ما حصل في تونس ومصر وسوريا وليبيا. وبعض التنظيمات الأخرى تؤمن برُشد الشعب إلى درجة أنها لا تتردد في ترويج شعارات شعبوية ليست في مصلحة تقدم البلاد واستقرارها. الحكمة تقتضي، من جهة، الكف عن دفع الشعب عن طريق مؤسساته (الأحزاب، البرلمان الخ) نحو العطالة التامة، لأن البلاد لم تعد قابلة لأن تسير بيد واحدة. كما أن الحكمة تقتضي من جهة ثانية الكف عن الكلام باسم الشعب والزج به في حركية لا أفق لها. الديمقراطية تتحسن عبر الممارسة. ولا تنتظرْ من شعب لم يعرف سوى ديمقراطية «الشكارة» والأحزاب المفبركة مخزنيا أن يكون ديمقراطيا بين ليلة وضحاها. لو أنجزنا من الديمقراطية شيئا واحدا: هو الحق في مراقبة المنتخَبين ومعاقبتهم سياسيا إن لم ينجزوا برامجهم، لكان ذلك أفضل إنجاز للأمة. ولكن هذا لن يتأتى إلا إن راجعنا منظومتنا الأخلاقية الفاسدة، وأعدنا بنائها على أسس احترام المسؤولية والواجب والقانون وحب الوطن. لم يعد للقانون في المغرب حرمة، لأن من هم مؤهلون لكي يلعبوا دور القدوة لا يحترمونه ويدوسون مؤسساته. كان الشرطي إلى زمن قريب له الصلاحية لإيقاف أي مسئول خالف قوانين السير مهما علت مكانته، أما اليوم فيمكن لابنة قاضي صغير أن تصفع الشرطي دون أن تقوم القائمة وتطالب هذا القاضي من أين لك كل هذه السلطة والمال وأنت مجرد موظف متوسط. المدرسة لم تعد تعمل كما يجب، والمؤسسة القضائية لم تعد تعمل كما يجب، والمؤسسة الصحية لم تعد تعمل كما يجب، وهلم جرا، ولا عقاب لمن كان سببا في تخريب هذه المؤسسات، أي تخريب الدولة. فكيف يمكن أن تقوم دولة قوية وهي عاطلة أخلاقيا وقانونيا. من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاج لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية؟ أهم ما يميز حركة 20 فبراير أنها خلخلت البناء المعرفي للخطاب السياسي بخطاب حداثي عقلاني. كانت النخب تَعتبر نفسها أنها وحدها القادرة على التفكير والاقتراح وتشكيل الرأي العام. فخرج هذا المولود العجيب من حيث لا تحتسب ليثبت أنه هو الأقدر على تشكيل الرأي العام وتعبئته بوسائل غاية في البساطة والتواضع. إنها بالفعل ثورة ثقافية بشعاراتها الجريئة، بمطالبها المدهشة، بأفقها المفتوح والرصين في نفس الوقت، بانفتاحها على الحوار مع الجميع بدون إقصاء. لقد تحققت الثورة الثقافية بأحد معانيها. وعلى السياسيين أن يتعلموا من هؤلاء «البراهش». لكن على هؤلاء في المقابل أن لا يفرطوا في الطابع الحداثي والعدالي لحداثتهم وفي ولائهم لبلدهم وتعلقهم بشعبهم، وإلا فإنهم سيفقدون مصداقيتهم ورمزيتهم وتطالبهم نفس الجماهير بالرحيل! يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي؟ من الصعب إرجاع ظاهرة الإسلام السياسي إلى عامل واحد هو عجز أحزاب الحركة الوطنية والتقدمية عن تجسيد أحلام المغاربة في إقامة مجتمع عادل حر وديمقراطي. كما أنه من حسنات الثورات العربية الجارية أنها تجاوزت «مؤقتا» التقاطب الثلاثي بين أنصار الإسلام الراديكالي وأنصار اليسار الراديكالي وأنصار الليبرالية الراديكالية. تجاوز نموذج هذا التقاطبي سيؤدي حتما إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية بكيفية شاملة وعميقة. من جهة ثالثة، ما يحتاجه المغاربة اليوم ليس هو خطاب هوياتي ضيق يحصر القضية السياسية في بعض المظاهر الفولكلورية السطحية التي تتعلق بشكل اللباس واللحية والتحية عند هذا الجانب أو ذاك؛ بل ينبغي الذهاب إلى العمق: وعمق المسألة السياسية هو المواطن من جهة، بأن نعمل على إعادة تأهيله لكي يصبح مسئولا قادرا على تحدي الزمن المعاصر، والبلد من جهة ثانية، بأن نرفعها إلى مصاف البلدان المتقدمة، وتمكنها من مناعة قوية. المطلوب أن تظل هذه الثورات مكانا مشتركا لكل الحساسيات والقوى، لكن بشرط أن يكون المكان المشترك حداثيا، يرنو بطموحه إلى المستقبل لا إلى الماضي. لا نريد لهذا العرس الحضاري أن ينغّص بأصحاب الإيديولوجيات المرتدة إلى الماضي مهما كان لون هذا الماضي، ولا بالذين لا يعترفون بأي شيء إلا بأوهامهم المستحيلة. إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟ أنجز الشباب العربي قفزة ناجحة من قفص القصور والوصاية نحو الرشد والنضج. نفض عن نفسه ثقل الوصاية وغبار الاتهامات التي كانت توجه له. في النهاية، ظهر أن العزوف السياسي كان علامة على احتقان ينتظر الفرصة السانحة للتعبير عن نفسه. ولم تأت هذه الفرصة من الداخل، بل من الخارج، من هذه الموجة العارمة التي انطلقت من تونس المنيعة، مما يدل أن أكبر صمام للأمن والأمان هو الديمقراطية الحقيقية باعتبارها أداة للحرية والتنمية في نفس الوقت. فالثقة في رشد الإنسان وتحميله مسئولية بناء بلده هو أكبر ضمانة تجاه الهزات غير المنتظرة!