الثورة العربية الجديدة تطرح أسئلة عديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في سلسلة الحوارات مع المثقفين المغاربة، التي شرع «الاتحاد الثقافي» في نشرها منذ الأسبوع الماضي، هو أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا تتسم هذه الثورات بالتلقائية و«العفوية»، وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية ؟ يمكن الحديث عن غياب جميع المؤسسات والأفراد والجماعات التي كان التوقع والتوجس، يضعانها في موقع القادر على فعل التغيير أو منبعه، سواء من ذلك الأحزاب السياسية أو المنظومات العسكرية أو الاتجاهات السياسية (الإسلامية) أو مختلف الإديولوجيات، وبذلك فالمثقفون أيضاً يسجل غيابهم سواء كقادة أو كمنظرين إيديولوجيين بالنسبة لما حدث ويحدث الآن، لكن ذلك لا يصدق على المثقفين باعتباره غياباً للثقافة، بل إن الثقافة بمعناها العام والخاص فاعل حاضر، وهي المحرك في ما جرى ويجري، وهي ثقافة في العمق وإن بدت في آلياتها ووسائلها مجرد تشبيك أفقي، ويبدو أن المؤسسات التقليدية بمن فيها «المثقفون» في مؤسساتهم الحكومية وغير الحكومية، وفي تنظيراتهم ومحاكماتهم التاريخانية المقارنة واللاتاريخانية جميعاً، لم يفقهوا أبعاد الثقافة الناشئة من حولهم وفيهم، وهي ثقافة وسائل التواصل والاتصال، وروح الانعتاق من كافة الرقابات الأبوية الاجتماعية والأسرية والسياسية والدولتية في الأجيال الشبابية؛ ذلك أن ابتكار العجلة في تاريخ الإنسانية، وقبلها اكتشاف وابتكار النار وغيرها من المخترعات والمكتشفات، لم يكن ليتأتى ولا كان ليمضي دون تخليق وتعميق ثقافة التحول والتغيير، أفكان ما لم يصح على مخترعات وابتكارات موغلة في القدم، ليصح على مخترعات ومبتكرات عصرنا، وكأنها مجرد «كادجيات» وهْم لا تخلق ثقافتها ولا تتأتى من ثقافة؟ غياب مثقفين؟ نعم، كغياب غيرهم مؤسسات وأفراداً، لكن بحضور ثقافة رغم ذلك. دأبت الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية ؟ مثل هذه النظريات الحتمية والتعميمية أثبتت وتثبت عدم علميتها، وغالباً ما تنم عن دوافع خاصة، وهي من قبيل نزعة ادعاء تفوُّق بعض الأجناس كالآري، أو الجرماني كما هو لدى النازية على وجه التحديد ولدى غيرها على العموم، مما يحفل به تاريخ الإنسانية منذ عهود العبودية في الأحقاب الغابرة؛ ومن جهة أخرى، ما لاشك فيه أن نمط الاستبداد الذي مرت ولا تزال تمر به المنطقة العربية، يحيل إلى التساؤل والاستغراب بشأنهم، خاصة وهم يقعون قاب قوسين أو أدنى من مراكز الإشعاع والتفوق الحضاري في أوربا، ويعزى ذلك إلى الجهل والتخلف الاجتماعي العام الذي استسلمت له المنطقة العربية، بفعل عوامل كثيرة، مما جعلها تعيش ثقافة الخنوع والتقديس لحكامها وأنظمتها، وهو ما عرفته أوربا نفسها إلى حدود الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، أو على أحسن تقدير، منذ عهد الأنوار وبداية النهضة الحديثة، ومن ثم يبدو الفارق والفاصل الزمني والمعنوي، ما بين درجتي التقدم في كل من أوربا والعالم العربي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن على منطقتنا وشعوبنا في المنطقة العربية، أن تقضي كل عدد تلك القرون قبل أن تحقق ما يجب من تقدم، ولكنه يعني أن علينا بذل جهود أكثر باتجاه المبتكر من الطرق والوسائل والخطط، لتحقيق ما يلزم للالتحاق بالركب، خاصة ونحن نرى شعوب جنوب شرق آسيا، بمن فيها من معتنقو الإيديولوجيات «الكليانية» وكذا ذوو الأنظمة الليبرالية، ومن ذوي المعتقدات الدينية المختلفة من البوذية والكنفوشيوسية إلى الإسلام، وكلهم حققوا التقدم المطلوب بصورة من الصور ودرجة من الدرجات لم تبلغ شأوها المنطقة العربية، ولم تنجز على طريقها قليلا ولا كثيراً؛ وهو ما يعني أن الحديث عن «طبيعة» للإنسان خاملة أو نشيطة، وعن قابلية فطرية للسيادة، أو خنوعية عبودية، وعن بصمة ذكاء أو تبلد غيبية مسبقة، ليس علمياً ولا موضوعياً، إلا في حالات الشذوذ الخلقي والانحراف الوظيفي، ذلك أن المعطيات العلمية في هذا الباب، تسجل للكائن البشري حين ميلاده، استعدادات لا حد لها للتعلم والابتكار؛ والبيئةُ المحيطة من بشرية وطبيعية وغيرها، وكذا نوعية التفاعل مع هذا المحيط وغيره، هي ما يحدد مستوى ونوعية الفعاليات التي تتمظهر بها «الطبيعة» البشرية، وبالتالي تنمو وتزدهر على النحو والدرجة والاتجاه الممكن في خضم ذلك.. في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين؟ أولاً، لا مؤامرة بهذا المعنى ولا معنى لها، وحتى لو أمكن هذا الاحتمال البعيد، فيجب ألا ندخله في الاعتبار، لأنه يدخل في حكم الغيبيات، ولا ننسى أن الأنظمة العربية الاستبدادية والتي يقوم الحراك ضدها، هي ممن يروج لمثل هذه الأطاريح المتهاوية، من قبيل الوصم بالإرهابية وما شابهها؛ هذا لا ينفي أن للغرب مصالح أساسية وأهدافاً استراتيجية في المنطقة، كما في كافة مناطق العالم، لكن هذه المنافع كان جلها إن لم يكن كلها متحققاً في الأوضاع السابقة لهذا الحراك، وهي ستظل تتحقق حتى مع نجاح هذا الحراك، على أنحاء ووجوه قد تختلف، وقد تتحقق فيها بعض أهداف هذا الحراك في الكرامة والتقدم والعدالة، وإن المأمول انتفاؤه مع النتائج الإيجابية المنشودة للحراك الحاضر في منطقتنا، هو أن لا يكون ثمن انتفاع الغرب من المنطقة، ملازماً لوقوع الظلم والانسحاق على ذويها والمنتمين إليها، كما هو واضح فاضح في الوضع في فلسطين على سبيل المثال. عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن (الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت ؟ لا يوجد استثاء بقدر ما يوجد اختلاف، وهو اختلاف ساهمت وتساهم فيه الجغرافيا والتاريخ، فالمغرب اختلف عن سائر الأنظمة العربية بالمشرق في التعامل مع مركزية الخلافة الإسلامية منذ العصر الوسيط على الأقل، ومنذ بداية العباسيين تحديداً، كما أنه كان مختلفاً على النحو نفسه في العصر الحديث وعلى النحو نفسه في التعامل مع الخلافة العثمانية وامبراطوريتها المترامية، وأيضاً كان المغرب ولا يزال له وضعه الخاص في التعامل مع الغرب الأوربي، في علاقة المد والجزر وعبر القرون، يتبادل فيها الطرفان التجاور والتجاوز والاحتلال المتبادل؛ أما الاستثناء المدرك مباشرة، والذي يمكن أن يشكله النموذج المغربي، فهو في تخلفه المريع بالمقارنة مع منطقة (جواره وحواره الأوربية) رغماً عن علاقة لها هذا الجدل الحي المستمر؛ على أن المغرب في انتمائه إلى المنطقة العربية، كان يمكن أن يمثل استثناء حقيقياً، لو أنه انخرط في التقدم المجتمعي مع بداية الاستقلال، إذ أنه كان يبدو قابلا للكثير من ذلك، باعتباره عرف التعددية الحزبية باختلافاتها السياسية منذ مرحلة الاستعمار، وتبنى ذلك سياسياً ومبدئياً في دولة الاستقلال، علاوة على أن المغرب كان يتوافر له ما لم يكن لغيره إذ ذاك، من مؤسسة ملكية شعبية مناضلة، في قيادة عاهله محمد الخامس وولي عهده إذ ذاك الملك الحسن الثاني، لكن ما حصل سواء من قبل القوى الوطنية بمختلف أطيافها، أو المؤسسة الملكية، تمثل في صراع طويل أضاع ما لا يقل عن أربعة عقود، ليصل المغرب إلى العهد الجديد الذي يبدو فيه المغرب محكوماً بقدر تحقيق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية من ضمن غيره ممن لم تتح لهم مثل فرصه، أو لم يصنعوا صنيعه التاريخي بصنعها، وهو ما بدأت بشائره منذ بداية القرن الحالي، واعتراه بعض فتور، لتجدد دورته الطبيعية دينامية الحراك الشبابي في الفترة الحالية؛ ومن هنا يبدو «الاختلاف» المغربي وليس «الاستثناء»، باعتبار المغرب قد أدى ثمن المنعطف الحالي على مدى عقود سابقة، ربما بما يعادل أو يقارب بكيفية ما، ما تؤديه حالياً أو ستؤديه مستقبلا، مجتمعات عربية أخرى، كل بدرجة وطريقة تفرضها شروط وجوده وتفاعله. هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا ستؤهل المغرب، إلى الانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمدها ؟ إنها فرصتنا الملائمة والموعد الذي ليس من حقنا أن نخلفه، وذلك باعتبار الإرهاصات بل الخطوات الجريئة التي جاء العهد الملكي الجديد، معبراً عنها منذ بدايتها، وكذا الإنجازات التي حققها على هذا الطريق مهما تكن غير كافية، أو لم تؤت كامل ثمارها إلى اليوم لسبب أو آخر؛ لذلك فالإصلاحات الدستورية المرتقبة يجب أن تؤهل البلاد لعصر آخر، مخالف ومختلف، وهو ما أوضح معالمه الكبرى الخطاب الملكي ليوم 9 مارس الأخير، وحدد مختلف جوانبه وأبعاده، بحيث يبدو متجاوزاً في دلالاته وامتداداته، لسقف كل ما كان يرفع من شعارات قبل وبعد وأثناء حراك 20 فبراير. وبطبيعة الحال، يبقى المأخذ والعبء على لجنة مراجعة الدستور، لتكون في مستوى الموعد، ثم يقع العبء والمسؤولية على مختلف مكونات المشهد السياسي والمدني المغربي، أثناء وبعد ذلك، لترجمة بنود الدستور إلى حياة يومية عبر المؤسسات والآليات، ولا ننسى هنا أن الدستور الحالي نفسه، يشتمل على بنود ومؤسسات لم تفعل أو لم تترجم إلى صيغ عملية على أرض الواقع، وهذا ما يحتم عملا متواصلا من قبل الجميع للارتقاء بالبلد والمجتمع، إلى مراقي الدول والمجتمعات الديموقراطية حقاً، والمتقدمة حقاً كذلك. من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاجا لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية؟ أشرت آنفاً إلى أن وراء هذا الحراك ومعه، أو خلفه وتحته ثقافة، لكنها ليست بالضرورة تلك التي تلقنها مناهجنا ومدارسنا بالضرورة، لكنها أيضاً ليست بالدخيلة كلياً، إلا إذا اعتبرنا عقول أبنائنا الذين هم منا، هم في الآن نفسه لا ينتمون إلينا ولا إلى عقولنا، لمجرد أنهم تجاوزونا في الفكر والعمل، بثقافة اكتسبوها أجزاء منا ومن غيرنا، بصوالحها وطوالحها، لكنهم طوروها باتجاه التغيير، بينما كان أغلبنا يرى أنها مجرد لهو أو عبث عابر، ويجب ألا ننسى هنا، أن في شبابنا السالف ومراحل تطور مجتمعنا السابقة، مفاصل ثقافية مختلفة بالطبع والطبيعة عما يجرب ويجري الآن، لكنها كانت انتماءنا وهويتنا في تلك المراحل، وتحقق بها ما تحقق، رغم أن هناك من كان ينكرها في مرجعياتها المزيجة إذ ذاك (والهجينة قدحياً من وجهة نظر البعض إذ ذاك)؛ من هنا فالغياب المسجل للفعاليات المعهودة في الساحات الثقافية والسياسية عن الحراك الحالي، وفي قيادته وريادته على الخصوص، إنما هو غياب لمن احتكروا تلك الساحات، واعتبروها بمثابة ملكهم الخاص ومجال الانتماء والائتمان المقصور عليهم، من منظور أن لا شئ من سياسي أو ثقافي أو غيره، يكون له اعتباره إذا لم يمر عبرهم وفي نطاق هوامش تحركهم؛ ليأتي ما يجري الآن، متجاوزا المألوف وليفرض على القادة الثقافيين والسياسيين والاجتماعيين أن يستوعبوه على أنه جزء منهم، لأنه يحمل بصمة الأجيال الجديدة وبمؤشرات ثقافية جديدة، وليتبلور أهم ما يجمع حول هذا الحراك ويدعو إلى الحفاظ على نهجه: وهو أنه لخير الأمة والمجتمع بكامله، وأنه ربما الموعد الأخير الذي يجب ألا نخلفه مع الديموقراطية ومجتمع الكرامة والمؤسسات الفعلية الحقيقية، فالحراك الحالي بقدر ما هو ممثل لثقافة، هو أيضاً بالضرورة، حامل ثقافة أيضاً، وخالق ثقافته الخاصة في الحاضر والمستقبل، وذلك بالقدر الذي لا يحتمل تدخلا تعسفياً لاصطناع ثورة ثقافية، لأنها تتخلق هنا والآن بآلياتها التكوينية الداخلية، مع المجريات والمستجدات. يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي ؟ ظهور الإسلام السياسي مألوف في مراحل عديدة من تاريخ العرب والإسلام، سواء توصل إلى السلطة أو لم يصل، كل ما يمكن قوله إن حضور الإسلام السياسي في الفترة الحالية، جاء في مرحلة تعتبر نظرياً غير مؤهلة لاستنبات إيديولوجيات دينية أو تستند إلى الدين بهذه القوة وهذا الاكتساح، ويمكن أن نلحظ أن الإسلام السياسي كمختلف الإيديولوجيات الأخرى غير المستندة إلى الدين واليسار العربي منها على الخصوص تبرعم في الفترة المعاصرة بالذات متزامناً متوازياً، مع تبرعم التيارات اليسارية والعلمانية وحتى اللادينية على قلة شأنها في المنطقة العربية وكان من شأن تفاعلات المرحلة مادياً وموضوعياً، أن أعطت الامتياز بمعيار ميزان القوة العالمي، إلى التيارات اليسارية والمجاورة لها والمشابهة ليعلو شأنها، بينما تأجل البروز القوي للتيارات الإسلامية، إلى أن قوّتْ من فرصة ظهوره خيبة الآمال والصدمات الاجتماعية والسياسية، المتولدة عن تسلط أنظمة الاستبداد الدعية المدعية للديموقراطية واللاشتراكية والانتماءات الشعبية، دون تحقيق سوى العكس من ذلك كله. والثورة الديموقراطية الحالية، إذا صحت لها هذه التسمية، فهي صمام أمان من كل تطرف كيفما كان لونه وطعمه، ومهما كان اللباس الذي يكتسيه رداء، دينياً كان أو مدنياً أو عسكرياً، لأن أهم ما تؤكده ظاهرة الثورة الحالية، أن لا أحد وحده يمتلك الحقيقة، وأن تحليل الواقع متعدد الجهات والجوانب، كما أن المستقبل حمال أوجه، علاوة على ما تدحضه تجربة الثورة العربية الحالية، من ادعاءات من يهمهم الحفاظ على الواقع الاستبدادي بمختلف التبريرات الواهية المغرضة، وما تسقطه من أقنعة ومشاجب الكذب والبهتان التي طالما هُضمت حقوق المواطن العربي بتعلق بها، وعلى رأسها التضحية بضياع الحرية الفردية والجمعية ومختلف الحقوق، في سبيل القضية المصيرية وهي تحرير فلسطين على سبيل المثال، فكيف يحرر فلسطين أو غيرها، من لا يحرر شعبه أولا؟ إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟ العزوف عن السياسي بمعنى الانصراف عن «الانتخاباتي» وعضوية الأحزاب السياسية وحتى الجمعيات المدنية، ظاهرة ثابتة مثبتة بالأرقام والدلالات الإحصائية، إلا أن الأمر في ذلك يعود إلى الممارسة الانتخابية كما تعود المواطن العربي على نتائجها المطبوخة سلفاً في المختبرات الأمنية للدولة، والتي أصبحت الأحزاب السياسية بدورها نسخة منها في انعدام الديموقراطية الداخلية، وفي التسابق على المنافع الآجلة والمصالح وحتى في توريث المسؤوليات الحزبية أو توزيعها على الأقارب والحاشيات، لذلك كان من نتائج مثل هذا «الحراك المعكوس» شعور المواطن بأنه غير معني بما يجري، وما لا جدوى منه بالتالي، ويكفي أن ننظر في التفريخات الحزبية المتتالية في مشهدنا السياسي والانشقاقات التي لا يبررها إلا مفهوم أنها «مقاولات سياسية»، تُركب سبيلا للاحتراف السياسي، وسلوك أقرب طريق وأقصره إلى الاغتناء على حساب الشعوب. بيد أن هذا العزوف عن الانتخابي والحزبي بهذا التصور، لا يعني الانصراف عن السياسي بمعني هموم واهتمامات الوطن والمواطن، ولذلك يمثل الحراك الثوري الحالي وهو شبابي بدون لافتة حزبية أو إديولوجية أو دينية، تجسيداً لهذا الاهتمام بالسياسي قي هذا المعنى الاجتماعي الإنساني، المتسامي عن الانتماءات الضيقة، والمنفتح على التغيير من أجل الجميع، بمساهمة الجميع، بدون أي تحديد إلا الانتماء للوطن والقيم الإنسانية.