يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟ أميل إلى اعتبار ما تعيشه الأقطار العربية ، منذ دسمبر 2010، انتفاضات ثورية لأنها تُترجم غضبا ورفضا عميقيْن تراكمت أسبابهما على امتداد عقود ، وهما مرتبطان بالحكم المطلق والأنظمة الاستبدادية التي تسعى إلى تجميد الأوضاع، وممارسة النهب والفساد،والاتكاء على إيديولوجية تمويهية، تلفيقية، تعاند رغبة الجماهير في الديمقراطية، وتؤول إلى أنظمة تابعة ، فاقدة للقرار والقدرة على التقدم . وعلى رغم الدور الأساس الذي يلعبه الشباب في هذه الحركة التغييرية، فإن الحدث لا يشكل ثورة ترتكز على تصورات بديل متكاملة . هي حالة انتفاض تتطلع إلى أفق ثوري، يتطلب مساهمة القوى الحية بكل فئاتها، لبلورة المبادئ والمؤسسات الضرورية لضمان حرية المواطن وحقوقه، ولاستثمار قوى الشعب وثرواته في تشييد مجتمع المساواة والعدالة. بدأت ثورة تونس بقصيدة (إرادة الحياة) لأبي القاسم الشابي، إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب ؟ لم تبدأ ثورة تونس بقصيدة الشابي، فهذا تفسير لا يخلو من سذاجة وإسقاط رومانسي . ثورة تونس وبقية الأقطار العربية ناجمة عن أسباب عميقة، متولد أساسا عن انحرافات الدولة الوطنية التي جاءت ، بعد الاستقلالات فانحرفت، وتحولت إلى التسلط والقمع، فأوجدت شروط الرفض والانتفاض...ولا أظن أن الشعر اليوم هو ديوان العرب ، ولا أي جنس أدبي آخر ، لأن المجتمعات العربية تعيش ظاهرة الخطاب « النثري » ذي المكونات المتعددة، حيث يتجاور التحليل والتبشير والفلسفة مع الوعد والوعيد والإحصائيات ولغة الأنترنيت ...لا مفر من خطاب العولمة الذي يخترق جميع المجتمعات من دون استثناء . قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟ انتهى عهد القمم العربية ومهمة الجامعة العربية في شكلها القديم الفاقد للسلطة والرؤية . والثقافة لا تحتاج إلى قمة ، لأنها اعتمدت دوما على جهود المثقفين والمفكرين والمبدعين، في شروط طالما تميزت بالقمع والرقابة والمحاصرة . ومستقبلها مرتبط بالتحولات التي ستحققها قوى التغيير العربية، باتجاه الدمقرطة والحوار وإعادة صوغ الأسئلة والإشكاليات على ضوء ما تُفرزه اختيارات المستقبل. الثقافة تتفاعل تلقائيا مع التحولات ولكنها ، في الآن نفسه ، استمرار وتعميق لما شيدته ثقافة التنوير في حقب تاريخية سابقة . حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له، كيف تقرأون هذه المفارقة ؟ السياق الذي أعلنت فيه هذه الانتفاضات عن نفسها لم يكن فيه « المدّ الثوري » متقلصا أو فاقدا لمرجعياته، لأن ردود فعل الشعوب العربية على الاستبداد لم تتوقف ، ولأن الكتابات والتحليلات والانتقادات ظلت حاضرة باستمرار؛ لكن قوى التغيير، وخاصة أحزاب اليسار والمعارضة ، فشلت في استثمار الغضب والاحتجاج، كما فشلت في إيجاد الشكل والخطاب الملائميْن . وجاء الشباب ، وهم نواة مثقفي المستقبل، فعرفوا كيف يشعلون فتيل الاحتجاج والتصدّي . تتسم هذه الثورات بالتلقائية و«العفوية»، وهذا يؤكد «غياب» المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية ؟ هذه الثورات لا تتسم بالعفوية وغياب المثقفين ، بل هي تستحصد أسبابا وعوامل وشروطا منغرسة في صلب مجتمعاتنا . وكما قال توكفيل (Tocqueville) « حدَث مّا، هو ناتج عن أسباب كبرى وحوادث عارضة صغيرة ». أي أننا عندما نأخذ حالة تونس ، سنجد أن حرق البوعزيزي لنفسه كان حدثا صغيرا حرك الأسباب العميقة التي تستدعي نبذ استبداد نظام « سيد الهاربين » . وفي مصر، نجد الاحتجاجات والمظاهرات والاصطدام مع السلطة ، لم يتوقف طوال العشر سنوات الأخيرة ... دأبت الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية ؟ هذه آراء لا قيمة لها ، لأن تاريخ الشعوب العربية والإسلامية حافل، منذ قديم ، بمقاومة المستبدين والطغاة. في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين؟ الرؤية الأولى ، في نظري ، هي الصحيحة لأنها تأخذ في الاعتبار حقائق التاريخ ومقتضيات التغيير المستجيبة لطبائع الناس وتطلعهم الدائم إلى العدالة والديمقراطية والتقدم ... أما الرؤية الثانية القائلة بالتآمرية ، على نحو ما يشيعه النظام السوري البوليسي ، فهو كلام مختلَق يرمي إلى تبرير تقتيل المواطنين والاستمرار في خنق الحريات ، وإطالة عمر الحكم الأوليغارشي ... عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن (الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت ؟ أظن أنه ، على رغم تشابُه البلدان العربية في ابتلائها بالاستبداد والحكم الفردي ، فإن هناك شروطا تُمَايِزُ بينها وتعود إلى التاريخ الخاص، والتركيبات المجتمعية ، ودرجة الوعي، والموقع الجيو-سياسي... وما يحدث في ليبيا واليمن والبحرين وسوريا ، يجسد هذه الاستثناءات . وأيضا المسار الذي عرفته حركة الشباب المغربي يعكس ملامح من هذا الاستثناء المتمثل في استعداد النظام للحوار، وفي كون مسألة الإصلاح طُرحتْ من قبل من لدن بعض القوى السياسية،فضلا عن أن المغرب توفّر منذ الاستقلال على أحزاب وهيئات معارضة ، لم تستطع « أزمنة الرصاص» أن تلجمها أو تسكت صوتها ...لكن على رغم هذا الاستثناء، فإنه لا شيء معطى أو مضمون التحقق، ومن ثم ضرورة اليقظة والاستمرار في المطالبة بالإصلاح والمؤسسات الديمقراطية . وأظن أن حركة الشباب عندنا قد حررتْ الأحزاب من خوفها وتردّدها ، وهو أيضا ملمح من هذا الاستثناء. هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا ستؤهل المغرب للانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمدها ؟ إصلاح الدستور أو تغييره هو وسيلة مسعفة على تنظيم الصراع الديمقراطي الذي هو ، بطبيعته،مفتوح لا يعرف نهاية يستقر عندها . ذلك أن الممارسة تولد الاختلاف ، ومن ثم وجَبَ أن يراقب الفكر السياسي والدستور، الممارسات والأفعال حتى لا يكون هناك انحراف يمس جوهر الاختيار الديمقراطي . وكما قيل، كل سلطة هي ممارسة للعنف ؛ ولذلك لا مناص من مراقبة الممارسات لكي لا تطغى سلطة على أخرى . من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاج لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية ؟ تطوّر الوعي مسألة طبيعية ومطلوبة وشبهُ حتمية، نظرا لتوافُر وسائل المعرفة والاستخبار والتكوين. وكل حدث مهمّ يعمل على زحزحة الوعي القائم ، والتنبيه إلى « الوعي الممكن » . أما مسالة « التسريع بثورة ثقافية » فهي فكرة لا تخلو من ضبابية بلاغية . ذلك أننا سنواجه عدة إشكالات : مَنْ يتخذ القرار بالتسريع؟ هل ندرك المحتوى المطلوب الذي يجعل ثقافة مّا ثورية ؟ ما المدة المطلوبة لتكون سريعة ؟ أظن أن تغيير الثقافة يتمّ من خلال تفاعل مكوناتها العديدة والمتشابكة ، ومن خلال الحوار والصوغ المتأني للأطروحات والقيم ، ومن ثم لا يمكنها أن تخضع لزمنية كرونولوجية . ثم : ألا يجوز أن تكون هناك منجزات فنية وثقافية ، مغربية وعربية ، متقدمة على المنجزات السياسية ، وتحتاج إلى أن يُفكّ عنها الحصار لتساهم في تعميق ما تنادي به قوى الشباب التغييرية ؟ يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي ؟ أسباب استفحال توظيف الإسلام لأغراض سياسية كثيرة، ومن بينها ذلك الجمود الذي فرضته الأنظمة ؛ لكنني لا أميل إلى القول بأن تحقيق النظام الديمقراطي سيضع حدا للتطرف الديني وتنظيماته ، لأن هذه القوى استطاعت أن تستولي على العواطف والوعي لدى فئات واسعة ، وهو ما يستدعي الصراع الطويل لتحويل هذا الوعي المغلوط وتصحيح استراتيجية بناء مجتمعات عربية تستجيب لأسئلة العصر، وتؤمن بتداول السلطة والاحتكام إلى الطرق السلمية في التغيير . إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟ لا أرى أن المثقفين العرب استهانوا بدور الشباب، لأنهم سرعان ما تجاوبوا معهم وشاركوهم في تظاهراتهم. لكن يمكن القول بأن بعض المثقفين والمناضلين « القدامى» لم يسلموا بوجود وعي شبابي قادر على تحويل الجمود إلى حركة، والاستسلام إلى رفض واحتجاج ...وهذا يعود ، في ما أظن ، إلى روح الوصاية المتأصلة في نفوس «الآباء» تجاه أبنائهم الشباب . وأجد من الطبيعي أن يبادر الشباب إلى الإعراب عن مطالبهم ووعيهم المتميز، ليستحقوا ثقة « الآباء » وثقة الشعب . أجري الحوار في 11-5-2011