مقدمة باتت الديمقراطية في عصرنا وكأنها ترياق الحياة للشعوب والأنظمة،والطريق الذي لا محيد عنه للتنمية والتحديث والتطور وكل ما هو نقيض التخلف والفقر والاستبداد،ليس لأنها كذلك بالضرورة ولا لأن البعض قال بنظرية نهاية التاريخ وأوقف التاريخ السياسي عند حد الديمقراطية والليبرالية الغربية الذي ما بعده إلا العدم أو شريعة الغاب[1]،وليس لأن كل من يقول بها يؤمن بها، بل لأن ساحة الوغى في الفكر و الممارسة السياسية لم تشهد منذ انهيار المعسكر الاشتراكي وقبله الفاشية والنازية،منافسا جديدا للديمقراطية كنظام حكم. فلم نلمس نمطا جديدا للحكم غير الديمقراطية أو التشبه بها،ولم نقرأ لمفكر أو كاتب تنظيرا لفكر جديد بديلا للديمقراطية،باستثناء نقاد غربيين للديمقراطية ينتقدونها ولكن من داخل ثقافتها وقيمها، أو نقاش مخضرم حول البديل الإسلامي لم يجد تطبيقا ناجحا يدعمه، أو بقايا أنظمة ما زالت تتمسك بآخر خيوط الشمولية. هذا التسيد للأنظمة القائلة بالديمقراطية في عالم اليوم لا يعني بالضرورة أن الديمقراطية كتطبيق ستكون كما يراها التواقون إليها، أو أن طريقها مفروشة بالورود دائما،بل لاحظنا أن انتشارها بدلا من أن يؤدي لصيرورتها أكثر وضوحا وتحديدا لمفرداتها ومكوناتها،أصبحت أكثر إثارة للجدل.تراجع سؤال: هل الديمقراطية ضرورة؟ إلى السؤال: ما هي الديمقراطية التي نريد ؟ ذلك أن تعميم و انتشار الديمقراطية في مجتمعات متباينة أدى لكثير من التحويرات والتعديلات على مفهومها وتطبيقاتها،حتى باتت الديمقراطية بمفهومها التقليدي غريبة في دول الغرب ذاتها فما بالك في دول العالم الثالث أو دول الجنوب. من مفارقات المشهد الديمقراطي في العالم الثالث وفي العالم العربي على وجه التحديد انه بالرغم من أن الديمقراطية تعني حكم الشعب فأنها في العالم العربي مطلب نخبة وإن وُجِدت فهي حكم نخبة، فيما الشعب مجرد جموع توظفها النخب والجماعات المتصارعة على السلطة ومغانمها أو منشغلة بأنشطة سياسية بعيدة عن الممارسة الديمقراطية وثقافتها كالانخراط بالجماعات الأصولية وبالجماعات الطائفية والإثنية المغلقة ،ومن المفارقات أيضا أن هامش الحرية الذي أتاحه التحول الديمقراطي بدلا من أن يعزز المواطنة أحيا وعزز القبلية والطائفية والإثنية وكأن الديمقراطية كانت الرياح التي ذرت الرماد عن جمر انتماءات ما قبل الدولة.مع ذلك ما زالت الديمقراطية الايدولوجيا والمؤسسات الأكثر قبولا والأكثر انتشارا ،ربما لأنها الأقل سوءا من الأنظمة السياسية التي عرفتها البشرية أو لأنها تتيح للناس درجة من الحرية تسمح بان يكتشفوا ويتعرفوا على عيوبهم بما يسمح بتصحيحها أو لأنها تمنح المواطن شعورا وأملا ولو كاذبا بأنه سيد نفسه وبأنه يمكن أن يكون حاكما ومحكوما... أو لهذه الأسباب مجتمعة .قد تكون السمعة الطيبة التي راجت عن الديمقراطية والمستمَدة غالبا من مستوى الرفاهية التي تعرفه الديمقراطيات الغربية، هو ما جعل شعوب دول الجنوب الفقيرة و التي عانت طويلا من الاستبداد والظلم تتطلع للديمقراطية كمُّخلص ليس من الاستبداد فحسب بل من الفقر أيضا[2]. الفصل الأول الديمقراطية :ثباتها لغويا وتغيرها مفهوميا واغترابها ممارسة كقانون عام يوجد تفاوت ما بين الفكر والواقع أو بين تصور الشيء وحقيقته المستمدة من الواقع أو تثبته الممارسة، وقياسا هناك تباين كبير بين تصور الديمقراطية وواقعها كممارسة.فقد وقَرَ بالعقل السياسي الشعبي كما ثَبَتَ بالنص المدرسي والأدبي السياسي بأن الديمقراطية democracy تعني حكم الشعب أو حكم الأغلبية للأقلية حيث كان الشعب سيد نفسه لأنه كان يحكم مباشرة ، هذا هو الأصل اللغوي والتاريخي المستمَد من تجربة الحكم في دولة المدينة في أثينا حوالي القرن السادس قبل الميلاد[3]،هذا المعنى المثالي والأخلاقي-حكم الشعب- بالإضافة إلى ترافق الديمقراطية المعاصرة مع مجتمعات الحداثة والثورة الصناعية ومجتمعات الرفاهية، كان وراء توق كل الشعوب للديمقراطية معتقدة بأنها المخلص مما هي فيه من تخلف وقهر، وكان وراء عدم قدرة الأنظمة على معارضة التوجهات الديمقراطية وإلا ستبدو وكأنها ضد إرادة الشعب ومع استمرار حالة الفقر والتخلف وانسداد أفق التغيير. وحيث أن لا فكرة تجد كل تعبيراتها وتفاصيلها على أرض الواقع فإن بونا شاسعا ما بين التصور النظري والمدرسي للديمقراطية وحال الأنظمة الديمقراطية من حيث مفهوم حكم الشعب وقدرة الديمقراطية على تحقيق الرخاء الاقتصادي.مفهوم الشعب الذي يمكن أن يحكم نفسه بنفسه الذي كان سائدا زمن دولة المدينة -أثينا- لم يعد متطابقا مع مفهوم الشعب اليوم ،كما أن علاقة الفرد بالدولة وتعَقُّد وتشعب العمل السياسي وكيفية اتخاذ القرار ...ليس هو ما كان عليه الحال قديما، سواء من حيث كثرة عدد أفراده أو مفهوم الحقوق والحريات[4]،هذا ناهيك عن أن الانشغالات الحياتية للمواطنين التي تبهظ كاهلهم ووجود مجالات أخرى غير السلطة يمكن للمواطن من خلالها التعبير عن ذاته والدفاع عن مصالحه،أضعفت من رغبة المواطنين أخذ مسؤولية العمل السياسي على عاتقهم،أيضا فإن الرخاء الذي عرفته الديمقراطيات الغربية لا يعود فقط للديمقراطية. المحور الأول:من ديمقراطية الشعب سيد نفسه إلى ديمقراطية الشعب يصنع سيده كثير من الناس يصدرون أحكاما على الديمقراطية من خلال واقعها في الغرب ولا يكلفوا أنفسهم عناء العودة للطريق الشاق والصعب الذي مرت به المجتمعات الغربية حتى وصلت لما هي عليه،هذه العودة ستبين أن الليبرالية سبقت الديمقراطية التمثيلية وان الثورة الديمقراطية ما كان لها أن تكون دون الثورات السياسية التي أكدت على مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة ،ودون الثورة الدينية التي فصلت بين الديني والدنيوي في العمل السياسي،والثورة الصناعية التي حققت للمواطن الحياة المادية الكريمة.ولذا إن كانت الديمقراطية تتيح فضاء من الاستقرار والمنافسة الحرة والإبداع بما يسمح بالإقلاع الاقتصادي والتنمية ،إلا أن التنمية الاقتصادية والرخاء لا يتأتيا حتما وتلقائيا بمجرد قرار الانتقال نحو الديمقراطية،فدول ديمقراطية عرفت حروبا وصراعات سياسية مدمرة وأزمات مالية واقتصادية عاصفة-أزمة 1929 والأزمة الحالية -وأنظمة غير ديمقراطية-الصين مثلا- عرفت ازدهارا اقتصاديا فاق ما حققته الأنظمة العريقة بالديمقراطية.أيضا يجب الإشارة إلى أن دولا من خارج المنظومة الغربية المسيحية أخذت بالديمقراطية وحققت نجاحات باهرة كاليابان مثلا دون أن تنسخ التجربة الغربية كمؤسسات وثقافة بل مزجت وكيفت وأبدعت في ذلك حيث وفقت ما بين آليات الممارسة الديمقراطية والثقافة الديمقراطية مع ثقافتها الوطنية ومع التجربة التاريخية وخصوصية الجغرافيا السياسية،فالتجربة التاريخية والخصوصية الثقافية-وحدة اللغة والثقافة والدين- لليابان ساعدتها على الإقلاع الديمقراطي. لان الديمقراطية انسلخت اليوم عن أصولها وعن البيئة الاجتماعية والإطار الدولاني الذي التي نشأت فيه- دولة المدينة- وقيض لها التطبيق في مجتمعات مغايرة، فإن الأمر يستحق مقاربة مختلفة للديمقراطية تؤسس لفهم جديد لأنظمة الحكم وما هو نظام الحكم الأفضل ولآليات الممارسة ومشتملات الثقافة الديمقراطية وما استجد على الديمقراطية فكرا وممارسة، وكذا الإلمام بواقع الديمقراطية في الدول الديمقراطية الغربية. أيضا فإن الرجوع للجدل الفكري حول الديمقراطية وخصوصا من طرف نقاد الديمقراطية في الغرب نفسه أمر مفيد لان أولئك ليسوا ضد الديمقراطية من حيث المبدأ ولكنهم يرومون تبديد الوهم عند الشعوب بان الديمقراطية هي حكم الشعب و أنها عالم الحرية والرفاهية ،هذه الإحالة لنقاد الديمقراطية ستساعدنا على مقاربة واقع الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية دون كثير من الأوهام. ضمن فلسفة الديمقراطية المثالية فإنه كلما كثر عدد المشاركين بالحكم وبعملية إتخاذ القرار كان هذا مؤشرا على مزيد من الديمقراطية وبالتالي الحكم الصالح ،أما اليوم وفي ظل عالم متغير على كافة الصعد فقد أصبح السؤال أيهما أكثر فعالية، حكم نخبة مؤهلة ومنظمة أم أكثرية جاهلة أو غير مبالية؟ بناء الدولة القومية وخلق الاستقرار والتنمية أم مؤسسات شكلية للديمقراطية؟هذه هي تساؤلات رواد نظرية النخبة أو الارستقراطيون الجدد و تساؤلات القائلون بالحكم الصالح والحكامة ،الذين لا يهتمون بعدد المشاركين بالحياة السياسية بل بنوعيتهم،أو بصيغة أخرى بالكيف والنوعية وليس بالكم،إنه الانتقال من حكم الشعب حيث الشعب سيد نفسه إلى حكم يصنع فيه الشعب قادته بما يتضمن ذلك من إقرار بعدم اهلية الشعب للحكم . المحور الثاني:من ديمقراطية الكم –كثرة عدد المشاركين- الى ديمقراطية الكيف – فاعلية المشاركين-. داخل الديمقراطيات الغربية[5] وُجِد نقاد يشككون بان الشعب في الأنظمة الديمقراطية القائمة هو الذي يحكم بل يقولون بأنه ليس من الضروري أن يحكم الشعب لنكون امام نظام الحكم الأصلح.سنتوقف قليلا عند نظرية النخبة وروادها لأنهم كانوا أول من حلل واقع الانظمة الديمقراطية و علاقة هذا الواقع بالنظرية التقليدية للديمقراطية.هؤلاء يرفضون بالمطلق مقولة حكم الشعب لنفسه ويقولون بأنه لا اليوم ولا عبر التاريخ كان الحكم للشعب أو للأغلبية بل كانت الأقلية أو النخبة هي التي تحكم،ولكنهم يقرون بأن النخب الحاكمة اليوم توظف الشعب للوصول للسلطة ولكنها تراعي مصالح الشعب وهي في السلطة [6]. من رواد النخبة المعاصرين نجد جيوفاني سارتوري في مؤلفه (نظرية ديمقراطية) Democratic theory، وفي هذا الكتاب ينتقد المفاهيم الكلاسيكية للديمقراطية التي تُضخِم من أهمية ودور الشعب في الممارسة السياسية،وهو يرى أن الخطر على الديمقراطية لا يأتي من الدكتاتورية أو الأرستقراطية، بل من تدَّخل الشعب في عمل النخبة السياسية، وعرقلة قيامها بحقها الطبيعي في الحكم، و عليه، يطالب ببقاء السلطة السياسية بيد النخبة الحاكمة ما دامت تتوفر على عناصر الامتياز والتفوق الذي يعترف لها به الجميع[7].ومن هنا يرى سارتوري أن دور النخبة في المجتمع يجب أن يكون كبح جماح الأغلبية، فترك العنان للشعب باسم الديمقراطية سيؤدي للغوغائية التي تطيح بالاستقرار السياسي ،وفي رأيه لا تعارض ما بين حكم النخبة و الديمقراطية، فالديمقراطية في نظره هي:"عملية اتخاذ قرارات يستجيب فيها القادة لتفضيلات المقودين -المحكومين-"[8].فالمهم بالنسبة له ولكل منظري النخبة ليس حكم الشعب بل ضمان الاستقرار السياسي في المجتمع حتى تتمكن الدولة من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية[9] .في نقس السياق يرى كارل مانهيايم K. Mannheim أن وظيفة المواطن العادي تنحصر في قيامه باختيار الحكام، وليس من الضروري أن يشارك مباشرة في ممارسة السلطة.[10] مفكر آخر من نفس المدرسة ويعتبر من أشد المعارضين لفتح المجال أمام الشعب للمشاركة السياسية بلا ضوابط، إنه الاقتصادي وعالم الاجتماع جوزيف شومبيتر،ففي كتابه (الراسمالية والاشتراكية والديمقراطية) وفي محاولة لإغناء النقاش حول ازمة النظام الرأسمالي انتقد المفهوم الكلاسيكي للإرادة العامة الذي صاغه روسو، مشككا بقدرة الشعب على إدارة الشؤون العامة للدولة، وهو يقترح بدلا من ديمقراطية (حكم الشعب) ديمقراطية (حكم معتَمَد من الشعب) أو حكم (لصالح الشعب).تحت عنوان (هل تستطيع الرأسمالية البقاء) يقول شومبيتر Schumpeter بإن الديمقراطية ليست غاية في حد ذاتها ولكنها طريقة أو نمط من التنظيم تكفل الوصول إلى قرارات سياسية تشريعية وإدارية صائبة، أو هي تقنية للحكم أكثر فعالية من غيرها،وقد ركز اهتمامه على حصر حق المواطن السياسي في انتخاب القادة والحكام، والحق في النقاش، دون أن يصل الأمر إلى التدخل في الأمور السياسية التي أسندت للحكام وحدهم، فالحكم على فعالية النظام السياسي الديمقراطي لا يقاس من خلال نسبة المشاركة الشعبية بل من خلال وجود قيادة سياسية ناجحة وفعالة، وكأن شومبيتر يريد القول ان الديمقراطية كنظام حكم ليس غاية بل وسيلة وهو كلام صحيح.وحدد شروط النظام الديمقراطي الناجح فيما يلي: 1- جودة النخبة السياسية. 2- عدم توسيع المدى الفعال لقرار السياسيين أكثر من اللازم. 3- قدرة الحكومة على السيطرة وعلى توجيه الجهاز البيروقراطي وضمان فعاليته. 4- التعامل بروح سلمية وبمرونة ما بين النخب وبعضها البعض، ووضع حد لتدخلات الهيئة الناخبة في العمل السياسي بعد اختيارها للهيئة الحاكمة. أما تعريفه للديمقراطية فهي:(اتخاذ التدابير المؤسساتية من أجل التوصل إلى القرارات السياسية التي يكتسب الافراد من خلالها سلطة اتخاذ القرار عن طريق التنافس على الأصوات).[11] على أرضية نفس المنطق في التحليل سار جيوفاني سارتوري الذي استنتج أن الحديث عن دور الجماهير في المجتمعات الغربية المعاصرة هو مرد خرافة، فالجماهير ليس لها دور سياسي ويجب ان لا يكون ، وأقصى ما تقوم به هو كفالة عمل الآلية الانتخابية بفعالية، بل ذهب به الأمر إلى القول إن ما يهدد الديمقراطية هي الأغلبية التي تعرقل عمل الصفوة السياسية وتمنعها من القيام بممارسة حقها الطبيعي في الحكم، وعليه يطالب سارتوري ببقاء السلطة بيد النخبة الحاكمة المتوفرة على كل أسباب الامتياز المعترف بها من الجميع، حتى لو تمت التضحية بديمقراطية حكم الشعب، فالانتخابات ليست دائما حكما عادلا، لان هناك عوامل متعددة تؤثر على نزاهتها[12].ولذا يقلب سارتوري المعادلة، فالسلطة أو مركز القرار لا يتجه من أسفل إلى أعلى كما تقول الديمقراطية المثالية بل من أعلى إلى أسفل:" إن الناخب العادي لا يقوم بفعل، بل برد فعل، إن التوصل للقرارات السياسية لا يتم من قبل الشعب "السيد" إنما تقدم هذه القرارات إليه إذ أن عملية تكوين الآراء لا تبدأ من الشعب، بل تمرر من خلاله".[13] في نفس السياق يذهب أوستروغورسكي،ففي كتابه: (الديمقراطية والأحزاب السياسية) يقول: "إن الوظيفة السياسية التي تضطلع بها الجماهير في ديمقراطية ما لا تقوم على حكمها لهذه الديمقراطية بل الأرجح أنها لن تكون قادرة على ذلك على الإطلاق... فسواء كنا حيال ديمقراطية أو حيال أوثقراطية فإن الحكم لن يكون إلا من قِبَل أقلية ضئيلة العدد، والميزة الطبيعية التي تختص بها السلطة مهما كان نوعها هي مركزيتها، شانها في ذلك شأن قانون الجاذبية في النسق المجتمعي. لكن من الواجب الوقوف في وجه الأقلية الحاكمة. فوظيفة الجماهير في ديمقراطية ما لا تقوم على تولي الحكم بل على تخويف الحكومات".[14] كما نجد كاتبا معاصرا هو روبرت دال[15] الذي يرى أن الحكم الأفضل هو حكم الأوصياء أو حكومة المؤهلين لأنهم أكثر قدرة على فهم مصالح المجتمع وتحسس احتياجاته وحل مشاكله، بينما الغالبية من الناس يجب أن تُستَثنى من حق ممارسة السلطة لأنها إما جاهلة بالمصلحة العامة وبالأمور الاستراتيجية (كالطاقة النووية مثلا) أي أنها غير مؤهلة أو كفئة لممارسة الحكم، أو أنها منشغلة بهموم الحياة العادية وغير مكترثة بالأمور العامة والسياسية. ويتساءل روبرت دال "من هم الأفضل تأهيلا لتولي الحكم؟ هل تتم حماية مصالح الناس الاعتياديين من قِبَلهم شخصيا وعن طريق ما يتخذون من إجراءات خلال العملية الديمقراطية. أم من قِبَل مجموعة من القادة الأخيار القديرين الذين يتمتعون بقدر غير عادي من المعرفة والفضيلة؟"[16] وهو يرى بأن ليس على الديمقراطية أن تقتل مواهب المتفوقين أو عدم إسناد الأمور المهمة للنخبة المتفوقة والمتخصصة فيها، حيث يقول: "وكما يعلم الجميع فإن معظم القوانين والسياسات في البلدان الديمقراطية والحديثة لا يتم إقرارها من خلال اجتماعات المجالس البلدية، أو الاستفتاءات العامة، أو استطلاعات الرأي، أو غيرها من أشكال الديمقراطية المباشرة، إن السياسات لا تأتي مباشرة نتيجة الانتخابات. إن ما يحصل بدلا من ذلك كله هو أن المقترحات التي تطرح يتم النظر فيها وتمحيصها من قبل لجان متخصصة تابعة لهيئات تشريعية، وكذلك من خلال جهات أو وكالات تنفيذية وإدارية يكون أعضاؤها بصورة عامة من ذوي الكفاءات والخبرات العالية. إن للخبرة والمهارة أهمية بالغة في الواقع بحيث أن أنظمة حكمنا عرفت بكونها كيانات حكم تجمع بين الديمقراطية (حكم الشعب) والميرتوقراطية (حكم المؤهلين)".[17] مما سبق نلاحظ أن شروط نجاح الديمقراطية المعاصرة لم تعد تقاس بنسبة المشاركة السياسية او بعدد الأحزاب القائمة أو بوجود انتخابات دورية حتى وإن كانت نزيهة،بل بالقدرة على خلق التوافق بين مكونات المجتمع وبعضها البعض من جهة وبين المجتمع والحاكم من جهة أخرى وبمدى فعالية مؤسسات النظام السياسي وخصوصا مؤسسة القيادة،ومن هنا فقد تعددت شروط قيام نظام ديمقراطي من مفكر إلى آخر والمشترك بينهم هو استبعاد فكرة المشاركة السياسية الشعبية الواسعة كعنصر إيجابي وحيد للقول بوجود ديمقراطية. أما ريمون آرون فقد حدد ثلاثة شروط لنجاح الديمقراطية المعاصرة. وهي: 1- قدرة السلطة الحاكمة على فض المنازعات التي تحدث بين النخب، وفي نفس الوقت أن تكون قادرة على فرض وتنفيذ القرارات الضرورية لتحقيق المصلحة العامة المشتركة. 2- أن تتوفر للهيئة الحاكمة إدارة اقتصادية فعالة. 3- إقامة كوابح تضمن تقييد نشاط كل من يسعى إلى تغيير البنية الأساسية للمجتمع. المحور الثالث:الديمقراطية في مجتمعات مختلفة منذ السبعينيات أخذ المفكرون يولون اهتماما بالتحولات الديمقراطية في الأنظمة خارج إطار الديمقراطيات الغربية التي أنتجتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية،واتجهوا بأنظارهم لما يجري في النظم الدكتاتورية ،فنجد المفكر الأمريكي صمويل هانتغنتون يعالج خصوصيات الانتقال من النظم الدكتاتورية إلى الديمقراطية متجاوزا بذلك الجدل الذي أثاره أنصار نظرية النخبة الذين ركزوا على ما اعتبروه أزمة الديمقراطية الغربية في المجتمعات الديمقراطية الغربية ،ليولي اهتماما لازمة النظم الدكتاتورية التي بدأت تتفاقم وظهور ملامح تحول نحو الديمقراطية.فبعد أن تناول هانتغتون تاريخ الديمقراطية بدءا من دولة المدينة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية قال بأن العالم يشهد الموجة الثالثة للديمقراطية [18]وهو بذلك يستحضر ما جري 1974 في البرتغال ثم إسبانيا واليونان من انهيار لأنظمة الحكم العسكرتارية والدكتاتورية حيث يقول : (بدأت الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي في العالم الحديث بعد خمس وعشرين دقيقة من منتصف ليلة الخميس 25 أبريل 1974 في لشبونه بالبرتغال ) [19]وهو يشير للانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الديكتاتوري لمارشيلو كاتيانو ،والملاحظ هنا أن هنتنغتون يرى أن الانقلاب العسكري يمكنه أن يكون مدخلا للديمقراطية[20]. إن كان هنتنغتون لا يرى تعارضا ما بين الديمقراطية والانقلاب العسكري- وهي قضية سنتطرق لها عند الحديث عن التحولات الديمقراطية في المجتمعات العربية -،فهو يربط ما بين الديمقراطية والتحولات الثقافية وخصوصا موقع الدين أو الكنيسة في المجتمع ،وما بين التحولات الديمقراطية والليبرالية بمفهومها السياسي والاقتصادي ولكنه لا يرى أن الليبرالية تؤدى تلقائيا للديمقراطية :( قد تقوم أنظمة الحكم المتجهة نحو الليبرالية بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفتح قضايا معينة للنقاش العلني وبتخفيف حدة الرقابة وإجراء انتخابات لمناصب ذات سلطات بسيطة والسماح بتجديد بعض جوانب المجتمع المدني واتخاذ خطوات أخرى باتجاه الديمقراطية ،دون التنازل عن مناصب اتخاذ القرار على القمة لاختبار الانتخابات .وقد يؤدي التحول الليبرالي إلى التحول التام إلى الديمقراطية وقد لا يؤدي إلى ذلك)[21].ربط هنتنغتون ما بين الديمقراطية والليبرالية مهم عند مقاربة التحول الديمقراطي في الأنظمة العربية التي تعتمد على الاقتصاد الريعي. يرى هنتنغتون أن خمسة متغيرات لعبت دورا في إحداث الموجة الثالثة للديمقراطية وهي:- 1- تآكل شرعية النظم الشمولية . 2- النمو الاقتصادي غير المسبوق الذي عرفته الستينيات. 3- التغيرات في دور وعقائد الكنيسة الكاثوليكية والدين بشكل عام. 4- المتغيرات الخارجية ومنها دعم حقوق الإنسان. 5- "كرات الثلج" أو التداعيات التي نتجت عن تطور وسائل الاتصال.[22] من الموجة الثالثة إلى الموجة الرابعة والحكم الصالح ولأن المجتمعات والنظم السياسية لا تعرف السكون بل هي في حالة تحول ،سواء كانت النظم موسومة بالديمقراطية أو النظم غير الديمقراطية،ولأن التحول نحو الديمقراطية في كل مرحلة يتأثر بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات ،فقد نعت بعض المفكرين التحولات الجديدة نحو الديمقراطية بالموجة الرابعة للديمقراطية ، وهو إقرار بصحة ما ذهب إليه هنتنغتون من أن الديمقراطية تترى على المجتمعات على شكل موجات .أرتبط الحديث عن الموجة الرابعة ببعض الأسماء أهمها لاري ديموند Larry Diamond ومايكل ماكفول Machael McFaul [23]فهذا الأخير درس بعمق التحولات التي تشهدها دول المعسكر الاشتراكي سابقا وكذا تعثر الديمقراطية في الشرق الأوسط [24]،فبعد أن أشار إلى أن الموجة الثالثة لم تنتج بالضرورة أنظمة ديمقراطية مستقرة بل أوجدت أحيانا أنظمة هجينة تجمع ما بين ديمقراطية شكلية وبعض مظاهر الاستبداد،ولا يخفي ماكفول تحيزه للسياسة الرسمية الأمريكية ورؤيتها لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بل يعتبر زميلا ومشاركا في الرؤية لفرنسيس فوكوياما وأنجزا أعمالا فكرية مشتركة لصالح المؤسسة الرسمية وخصوصا دعمهما لمشروع الشرق الأوسط الكبير.يخلص ماكفول إلى أن الانتقال إلى الديمقراطية يحتاج لشروط بعضها خاص بطبيعة النظام القائم والبعض خاص بقوى المعارضة وقد حدد هذه الشروط بما يلي:- 1-نظام شبه قمعي 2- تلاشي شعبية رأس النظام 3- اتحاد المعارضة 4- فريق مستقل لمراقبة الانتخابات 5- عدد من المنافذ الإعلامية المستقلة 6- تعبئة الجماهير 7- انقسام وسط قوات الأمن الديمقراطية والحكم الصالح Good governance تواكبا مع تنظيرات الموجة الرابعة ظهرت في السنوات الأخيرة مصطلحات جديدة كالحكامة Governance والحكم الصالح Good governance،ولأول مرة لم تعد النظم والمجتمعات تصَنَف ما بين ديمقراطية وغير ديمقراطية ،بل بين حكم صالح وحكم غير صالح وأصبحت الديمقراطية مجرد مكون من مكونات الحكم الصالح. كانت الهيئات والمنظمات الدولية الأكثر استعمالا وتعريفا للحكامة والحكم الصالح وخصوصا في تعاملها مع دول الجنوب من حيث الحكم على مدى أخذها بقيم الحداثة والانفتاح واحترام حقوق الإنسان.لم تعد الدول المتقدمة والمنظمات الدولية تعتمد التصنيف التقليدي للنظم السياسية ما بين ديمقراطية وغير ديمقراطية بل تأخذ بمقاييس ومؤشرات أكثر شمولية، إن كانت تمثل اعترافا بخصوصية مجتمعات دول الجنوب واستعدادا لتفهم هذه الخصوصية وتسهيل عملية الانتقال المتدرج نحو الديمقراطية إلا أنها لا تخلو من خبث سياسي أو مصلحية سياسية حيث تسعى هذه الدول والمنظمات لتوجيه عملية التحول بما يتوافق مع قيم ومصالح الغرب وبما يجعل المجتمعات الثالثية ونخبها السياسية والاقتصادية أكثر ارتباطا واعتمادية على الغرب.وهذا التوجه هو (الحكم الصالح) Good Governance.أو الحكامة،صحيح أن الديمقراطية مكون رئيس في هذا الحكم ولكنها ليست الوحيدة لقيام هذا الحكم بالإضافة إلى تعامل مفهوم المجتمع الصالح مع الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعوب . يبدو أن توجه المنظمات والهيئات الدولية لتجاوز التقسيم التقليدي للدول والنظم السياسية إلى أنظمة ديمقراطية وأنظمة غير ديمقراطية أنبنى على حقيقة وجود عشرات المجتمعات وخصوصا في دول العالم الثالث تواجه تحديات داخلية وخارجية تحد من قدرتها على التجاوب مع الاستحقاقات الديمقراطية –ثقافية واقتصادية-كما يعرفها الغرب المتقدم وبالتالي سيكون من الظلم تصنيفها تلقائيا كأنظمة غير ديمقراطية بما يتضمنه ذلك من حكم قيمة سلبي على هذه المجتمعات والنخب الحاكمة وغير الحاكمة التي تناضل من اجل تغيير حياة الناس للأفضل بالإضافة إلى أن كثيرا من النخب السياسية في أنظمة سياسية غير الديمقراطية أسست وبنوع من التلفيق المعتمد على الإعلام وشكلانية المؤسسات والمال السياسي أنظمة تبدو ديمقراطية ولكنها لم تغير كثيرا من حياة الناس ولم توفر حياة كريمة لهم . هذا التوجه نحو اعتماد مفهوم الحكم الصالح أصبح يُعتمد من الدول المتقدمة في تعاملها مع دول الجنوب كما أخذ به تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن الأممالمتحدة،حيث عرف الحكم الصالح بأنه الذي "... يعزز ويدعم ويصون رفاهة الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرًا وتهميشًا". لا يعني اعتماد مصطلحي الحكم الصالح والحكامة تجاوز كليا لمتطلبات الديمقراطية ولكنهما يؤكدان على أن الانتخابات والمؤسسات الديمقراطية لوحدهما لا يحققا التنمية الشمولية ولا يحدثان التحول المطلوب في بنيان المجتمعات وخصوصا في دول العالم الثالث.يرى لاري دياموند أن النظام الديمقراطي الحقيقي هو الذي يأخذ بمتطلبات الحكم الصالح وهي: 1 ) هيئة قضائية فاعلة ومستقلة، أي التأكيد على فصل السلطات. 2) وجود هيئات مستقلة للمحاسبة وضمان الشفافية وتلقي شكاوى المواطنين، أيضا مؤسسات اقتصادية كالبنك المركزي. 3) ضمان أن تمثل الأحزاب والمجالس النيابية الشعب تمثيلا صحيحا وأن تكون أمينة ومفتوحة وتستجيب للمشاركة العامة ومتصلة بالمصالح المجتمعية على اختلاف أنواعها. 4) خدمة مدنية أو جهاز بيروقراطي يتمتع بالكفاءة والإخلاص. 5) أهمية وجود مجتمع مدني حقيقي يجمع ما بين الاستقلالية عن الدولة واحترامها بحيث يكمل بعضهما البعض الآخر لضمان تحقيق التنمية. 6) وجود ثقافة كحاضنة لكل ما سبق تقوم على أساس الالتزام بالشرعية وبثوابت الأمة أو الصالح العام وخصوصا من طرف الحكام والنخب. في نفس سياق العلاقة ما بين الديمقراطية والحكامة يرى الكاتب المغربي يحيى اليحياوي أن الحكامة (تضع الديمقراطية التمثيلية (البرلمانية عموما) في محك من أمرها ليس فقط باعتبارها إياها مركزة لآليات اتخاذ القرار ولا لكونها تحتكر (لدرجة الاستصدار) سلطة الولاية على الشأن العام, ولكن أيضا كونها تحجر على قضايا الشأن المحلي والجهوي التي غالبا ما يكون أمر البث فيها من صلاحيات مجالس منتخبة)، وبالتالي فالحكامة تعتبر تجاوزا بنيويا للمرتكزات الشكلية للديمقراطية وتحديا لها (ولكأن الديمقراطية هي آخر المفكر فيه من لدن الحكامة, بل قد لا تعدو أن تكون مكونا من مكوناتها لدرجة تبدو معها الحكامة هي الأصل والديمقراطية هي الفرع...أي أن الحكامة ("الجيدة" تحديدا) هي التي تقود, نهاية المطاف, إلى "الديموقراطية- الحق" وليس العكس).[25] نستخلص مما سبق أن النظام الديمقراطي الأفضل لم يعد هو الأقدر على إشراك أكبر عدد من المواطنين في الحياة السياسية فقط ،ولا يُعَرَّف من حيث هو مؤسسات وانتخابات فقط، بل هو الأقدر على حسن إدارة النظام السياسي والاقتصادي وحسن اختيار القيادة الأفضل،الديمقراطية لم تعد حكم الشعب بل الحكم الذي يحقق الحياة الكريمة للشعب هذه الحياة الكريمة لا تقاس بمقاييس الغرب ولا بمقاييس ماضوية بطبيعة الحال بل تُستمد وتُحدد من الواقع والشروط الموضوعية للشعب، سياسيا وثقافيا واقتصاديا،أن يكون النظام ديمقراطيا ليس بالضرورة أيضا أن يكون نسخة من أي نظام ديمقراطي آخر.هذا الجدل الدائر حول العلاقة ما بين الديمقراطية والحكم الصالح يذكر بالجدل الذي أثاره علماء المسلمين في عهود سابقة حول الحكم السياسي وعلاقته بالإسلام وما المعايير التي بمقتضاها يمكن الحكم على نظام ما إنه متوافق مع الشرع؟.آنذاك قال العالم ؤبن القيم الجوزية (إذا ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق فتم شرع الله ودينه)[26] واليوم يمكن القول حيث يوجد الحكم الصالح توجد الديمقراطية سواء كان النظام مهيكلا حسب مواصفات الديمقراطية التقليدية أو الديمقراطية في الغرب أم لا. الفصل الثاني الديمقراطية في العالم العربي تجارب فاشلة أم رؤى جديدة؟ المحور الأول:العرب والموجة الرابعة للديمقراطية هذا الجدل حول الديمقراطية والحكم الصالح في الغرب وازاه جدل حول خصوصية التطبيق الديمقراطي في دول العالم الثالث وخصوصا في الدول العربية حيث أُقحِمت الديمقراطية على مجتمعات تطورت في سياقات مغايرة .التغيير الديمقراطي في هذه البلدان لا يعبر عن تغييرات بنيوية في ثقافة المجتمع وليست إحلالا لعلاقات ونخب وأفكار تمثل قطيعة مع مرحلة سابقة، يقدر ما جاءت نتيجة ضغوطات خارجية وإرادة نخب وجدت في الديمقراطية أيديولوجية جديدة يمكن توظيفها لاكتساب شرعية تعوضها عن أزمة شرعياتها التقليدية. وبالتالي فإن الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي تحتاج لمقاربة جديدة تؤسس على الواقع لا على الخطاب والنموذج الجاهز ،والواقع يقول بأن التجارب الديمقراطية تحولت إلى أنظمة حكم وشعارات فضفاضة إن كانت تتضمن بعض مفردات الديمقراطية وثقافتها في بعض المجتمعات، إلا أنه يصعب القول بأنها أنظمة ديمقراطية.صحيح حدث حراك سياسي وتقدم نسبي في منظومة حقوق الإنسان وفي وعي المواطن بحقوقه،إلا أن هذا الحراك تعبير عن ألتوق إلى التغيير ورفض الاستبداد والقمع والسعي للحياة الكريمة بغض النظر إن كان النظام المُراد الوصول إليه مُهيكل حسب النظرية الديمقراطية كما هي عليه في النموذج الغربي أم لا. كل الأنظمة القائمة اليوم إما أن تصف نفسها بالأنظمة الديمقراطية أو بأنها تريد أن تكون ديمقراطية،ولكن على مستوى الواقع القائم سنجد أن أوجه التباعد ما بين هذه الأنظمة العربية التي تقول بأنها ديمقراطية والديمقراطية السائدة في الغرب فيما يتعلق بشكل النظام وآلية إدارته وطبيعة الثقافة السائدة فيه.فما الذي يجمع مثلا ما بين الديمقراطية في العراق وأفغانستان والديمقراطية في السويد؟وما الذي يجمع ما بين ديمقراطية الكويت أو باكستان وديمقراطية فرنسا أو اليابان؟الخ . إن المدقق بواقع المشهد الديمقراطي في المجتمعات العربية سيلمس أن الجانب المؤسساتي الشكلاني للسلطة – وجود انتخابات ودستور ومجلس تشريعي ومنظومات قانونية تتحدث عن الحقوق والواجبات- والخطاب السياسي المدجج بشعارات الديمقراطية ،كان لها الغلبة في توصيف المشهد بالديمقراطي أكثر من توفر ثقافة الديمقراطية ومن انعكاس الديمقراطية حياة كريمة للمواطنين،وبالتالي فإن المقاربة الدستورانية القانونية لا تصلح للحكم إن كان توجد ديمقراطية أم لا. ما يجري من سلوكيات وأنماط تفكير وتطبيقات للديمقراطية يتطلب إعادة النظر سواء بمفهوم الحرية كشرط ضرورة لأي ممارسة ديمقراطية أو بالنسبة للديمقراطية كثقافة أو بالنسبة لعلاقة السلطة بالمعارضة وبالمثقفين وبالحريات بشكل عام وحتى بالنسبة لمقولة أن الشعب يريد الديمقراطية.لا نروم من خلال القول بإعادة النظر التخلي عن الديمقراطية بل إعادة النظر بفهمنا وبممارستنا للديمقراطية والابتعاد عن محاولات استنساخ التجربة الغربية أو الجري وراء أوهام الدلالة اللغوية للكلمة،وأن نأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي تطرأ على علاقة النظم السياسية بالخارج و بالمتغيرات التي تطرأ على المشهد الثقافي في مجتمعاتنا وخصوصا ظاهرة المد الأصولي والعنف السياسي و الإرهاب وبروز الجماعات الطائفية والإثنية ،التي كانت تشكل ثقافات فرعية غير مسيسة وبالتالي لم تكن حاضرة كقوى سياسية عندما بدأت النخب السياسية العربية تتعامل مع ظاهرة الديمقراطية قبل عدة عقود. من خلال تجربة العقود الأربعة الماضية في البحث عن مخارج ديمقراطية لأزمات مجتمعنا العربي ،ومن خلال ما يجري على الأرض اليوم من حراك سياسي يستظل بظل شعارات الديمقراطية، أو ما يجري في فلسطين و العراق من إقامة أنظمة (ديمقراطية) في ظل الاحتلال وفي ظل وجود جماعات وشعب مسلح ،من خلال كل ذلك فأن الحاجة تدعو لإعادة النظر إما في مفهوم الديمقراطية المتعارف عليه أو في توصيف ما يجري بأنه تحول ديمقراطي. إن سؤال: هل توجد ديمقراطية في العالم العربي أم لا؟أصبح متجاوزا أو من الصعب الإجابة عليه انطلاقا من المقاييس والمؤشرات التقليدية حول وجود أو عدم وجود ديمقراطية. الديمقراطية الموجودة في غالبية الأنظمة العربية القائلة بها ليست تعبيرا عن إرادة الأمة بقدر ما هي استجابة-بالمفهوم الإيجابي والسلبي للاستجابة- لاشتراطات خارجية وتحديات داخلية ليست بالضرورة تعبيرا عن توفر ثقافة الديمقراطية،فنادرا ما نرى أو نسمع عن مظاهرات ومسيرات كبيرة للمطالبة بالديمقراطية،فيما تستطيع قوى اليسار أو الإسلامي السياسي إخراج مظاهرات مليونية لنصرة غزة أو العراق مثلا أو للتنديد بإهانة الرسول.باستثناء أربعة أنظمة - العربية السعودية وليبيا وعمان والسودان- لا تدعي بأنها ديمقراطية،بقية الأنظمة العربية سواء كانت ملكية أم جمهورية ثورية أو عسكرية،غنية أم فقيرة... تصنف نفسها بأنها ديمقراطية أو تسير نحو الديمقراطية أو لا تعارض الانتقال الديمقراطي، وفي جميع الحالات سنجد ما يربط كل نظام سياسي بآلية ما أو مظهر ما من مظاهر الديمقراطية كوجود انتخابات أو دستور عصري أو مؤسسات تشريعية أو تعددية حزبية الخ ،ومع ذلك يبقى السؤال: أية ديمقراطية توجد في هذه الأنظمة. قد نبدو مبالغين إن قلنا بان لكل نظام عربي تصوره وتطبيقه الخاص للديمقراطية ،ولكن واقع الحال يقول بوجود عدة مداخل أو نماذج للديمقراطية وبعضها غير مسبوق تاريخيا ويعتبر اختراعا عربيا بجدارة،كما يجب تجنب المبالغة في الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي بشكل عام وكأن العالم العربي دولة واحدة أو مجتمع واحد.بعيدا عن الخطاب الأيديولوجي العروبي ومع عدم تجاهل وجود قواسم مشتركة كاللغة والدين وعادات وتقاليد،فإن الواقع يقول بوجود أثنين وعشرين نظاما وكيانا سياسيا لم تتشكل كلها ضمن نفس الشروط التاريخية والموضوعية،فلا يجوز أن نضع في سلة واحدة الدولة المصرية ذات الخمسة آلاف سنة من الوجود مع دولة الإمارات العربية ذات الأربعين سنة من العمر،كما لا يجوز وضع المغرب بتاريخه وخصوصيته الثقافية والسياسية مع لبنان بخصوصيته وشروط تشكله التاريخي،نفس الأمر بالنسبة للكويت أو الجزائر أو فلسطين الخ. في العالم العربي من تحدث عن الموجة الرابعة للديمقراطية ونسبوا الحراك السياسي في الأنظمة السياسية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين لها.