ستكون هذه المداخلة قصيرة ومركزة، وسأحاول أن أتناول فيها القضايا التالية : أولا، ما هو التصور السياسي العام الذي تعاطينا به، أو من خلاله، مع معطيات وتطورات المرحلة الجارية ؟ ثانيا، بعد هذه التجربة التي غطت زهاء عقد ونيف، كيف هي السياسة اليوم ؟ ثالثا، وما هي ، بالتالي، الآفاق الممكنة، أو ما العمل؟ ستكون هذه المداخلة قصيرة ومركزة، وسأحاول أن أتناول فيها القضايا التالية : أولا، ما هو التصور السياسي العام الذي تعاطينا به، أو من خلاله، مع معطيات وتطورات المرحلة الجارية ؟ ثانيا، بعد هذه التجربة التي غطت زهاء عقد ونيف، كيف هي السياسة اليوم ؟ ثالثا، وما هي ، بالتالي، الآفاق الممكنة، أو ما العمل؟ أولا: التصور السياسي العام : كلنا يتذكر كيف أن مصطلح «الثقافة السياسية الجديدة» صار عنوانا لكل التحولات التي جرت على النهج السياسي الذي سارت عليه القوى الديمقراطية واليسارية بوجه خاص. وتذكيرنا به (أي المصطلح) هنا ضروري، لأنه يمكننا في آن واحد من التعرف عما كانت عليه السياسة من قبل، وما صارت عليه اليوم. ربما كنا من الأوائل الذين أذاعوا هذا المصطلح في التداول السياسي في بداية التحول الذي سيعيشه المغرب مع حكومة التناوب التوافقي، وولوج مرحلة الانتقال الديمقراطي. وكما بينت في مناسبات سابقة، أن ما نعنيه بالثقافة السياسية الجديدة ليس أكثر من مجموعة من الخلاصات المشتركة للتجربة اليسارية في العقود السابقة، فلا هي ترتقي إلى مرتبة النظرية المتكاملة، ولا هي بديل أو تعويض غير معلن عن الأيديولوجيا الاشتراكية، كما حاول البعض أن ينقدها بهذا الشكل أو ذاك. وينبغي أن نعترف بأن هذا المفهوم / المصطلح لم يأخذ بعد حقه في الدراسة النظرية الممنهجة لكافة الخلاصات التي تناولها، والتي بقيت متفرقة هنا وهناك بدون تمحيص نظري عميق ومترابط وشمولي. وكيفما كان الحال، فإني سألمح هنا إلى بعض هذه الخلاصات في علاقتها مع ما كان في الماضي. أولا : التعاطي مع المرحلة الجارية كمرحلة انتقال ديمقراطي بما هي تستهدف توفير الشروط الضرورية لتحديث وترسيخ الديمقراطية في كافة المؤسسات المنتخبة، وفي علاقات السلط ببعضها. وبما يلزم ذلك من شروط مناسبة إنمائية وتحديثية، اقتصادية واجتماعية وثقافية. وبما يراعي على الدوام الحل الأمثل (ولا أقول المثالي) من العدالة الاجتماعية. التحديث والديمقراطية في هذا المنظور لم يعودا، كما كانا، مجرد تفريعين أو تحصيل حاصل في الاستراتيجية الاشتراكية، بل هما صلب المرحلة وجوهر طبيعتها التاريخية. ثانيا : التعاطي بموضوعية وإيجابية (على عكس موقف القطيعة القديم) مع مقتضيات العولمة الكاسحة، بما يعني التكييف المستمر لبرامج التنمية المندمجة مع مستجداتها، وبما يؤهل بلدنا لأن تكون منخرطة من موقع فاعل فيها، وبما يستلزمه ذلك من الانخراط في إنشاء وبناء الاقتصاديات الجهوية الكبرى المغاربية والعربية والمتوسطية والإفريقية وغيرها، والتي غدت ضرورة لا محيد عنها من أجل احتلال موقع قوي في التدافعات الضارية للعولمة. ولا حاجة لي بأن أذكركم بالتحول النوعي الذي أحدث على برامج القوى الديمقراطية واليسارية بين ما كان عليه في الماضي وما هو عليه اليوم بفعل العولمة. ثالثا : السعي إلى بناء توافقات عريضة خلال المرحلة الانتقالية مع مختلف القوى الممكنة، مع التأكيد على التوافق الاستراتيجي مع المؤسسة الملكية على غير النهج الذي كان سائدا من قبل، والذي كان طابعه الرئيسي الصراع والإقصاء المتبادل، بل وحتى الاجتثاث أحيانا. ومع التأكيد أيضا على ضرورة استمرارية تحالف القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية في كل أطوار مرحلة الانتقال الديمقراطي. رابعا : التفكير من خلال تقديم البدائل الممكنة في كافة المجالات والقطاعات المجتمعية، بدل الاكتفاء بالاعتراض الاستراتيجي كما كان في الماضي، والذي كيفما كانت صوابية محتوياته الكبرى في شروطه التاريخية، فإنه كان مع ذلك يبقي على الشعبوية وينميها. إن التفكير بواسطة البدائل الممكنة ينمي الممارسة العقلانية والواقعية، وهي الغاية من هذا الطرح. خامسا: إعادة الاعتبار لكل التراث الليبرالي التأسيسي كجزء عضوي في المنظور الاشتراكي، ومع السعي إلى استنبات وتبييئ هذا التراث ضمن تراثنا الحضاري العربي الإسلامي. وعلى رأس هذه المهمات التحديثية التنويرية «الإصلاح الديني»، باعتباره عصب التحديث الثقافي المنشود. ومن الواضح أن هذه المسألة في مجموعها، (التراث الليبرالي التأسيسي، التراث الحضاري العربي الإسلامي، الإصلاح الديني)، كلها قضايا كانت في ثقافة اليسار سابقا شبه غائبة، أو مهمشة وعفوية في أفضل الحالات. أكتفي بهذا البعض من الخلاصات التي أطلقنا عليها «الثقافة السياسية الجديدة» والتي لم نستوف فيها كل الخلاصات الواردة في أدبيات الحركة اليسارية الديمقراطية، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، طبيعة الحزب اليساري اليوم وأدواره، قضايا المجتمع المدني وأدواره....إلخ. ولا شك أيضا أن كل الموضوعات الواردة في الخلاصات الخمس السابقة تحتاج إلى تفاصيل وتحوي جدلا غنيا لا يسعه المقام. إذا كان هذا هو التصور السياسي العام الذي تفاعلنا به مع تطورات الأوضاع، فما هي إذن حالة السياسة اليوم بعد هذه التجربة الانتقالية والمخضرمة بكل المعاني. وهو سؤالنا الثاني الذي طرحناه في مستهل هذه المداخلة. ثانيا: في حال السياسة اليوم : لن أكرر على مسامعكم ما تم من منجزات خلال هذه المرحلة التي تجاوزت العقد بقليل، لأنني أحسب أنها معروفة من قبلكم جميعا لغزارة ما قيل فيها وعنها. ولذلك سأنتقل مباشرة إلى المفارقة الكبرى التي بتنا نعاني منها اليوم والمتجسدة في : التراجع المخيف للمشاركة الشعبية في الحياة السياسية رغم كل المنجزات التي تحققت في أكثر من مجال خلال هذه المرحلة. وتراجع شعبية القوى اليسارية بالتحديد رغم أنها كانت القوى الدافعة في هذا التقدم ؟ ! عندما أخبرني أحد الإخوة بموضوع هذه الندوة «السياسة اليوم» كنت بالصدفة أقرأ كلمة افتتاح لجريدة «أخبار اليوم» بعنوان «موت السياسة» جاء في مقدمتها : «لو أردنا أن نضع عنوانا في كلمتين لواقع الحياة السياسية اليوم في المغرب، لربما لن نجد أفضل من العبارة التالية «موت السياسة» لماذا هذا النعي لأكثر النوازع قدما في النفس لدرجة سمي الإنسان منذ القديم حيوانا سياسيا ؟ وكيف تموت السياسة وهي لصيقة بالحياة العامة، تمشي بقدميها وتتنفس برئتيها...إلخ» وأذكر أني استعملت هذا التعبير «موت السياسة» كخطر يتهدد تجربة الانتقال الديمقراطي باكرا في ندوة شاركت فيها مع الرفيق خالد الناصري وفي وقت كانت فيه حكومة جطو مازالت قائمة. المهم لدينا الآن ليس الالتباسات التي تحتويها مثل هذه الأحكام «موت السياسة»، «موت الإنسان»، «موت الفلسفة»، «موت الإيديولوجيا». فالأمر لدينا ليس على هذا القياس، إذ هو مجرد تعبير مجازي عن حالة خفوت وضمور نعتبرها مؤقتة وعابرة في مطلق الأحوال. وليس المهم الإطالة في تشخيص المظاهر المتنوعة الدالة على هذا «الموت السياسي»، وإنما المهم والأجدى أن نفكر بعقلانية وبعد نظر في مكنونات هذه الظاهرة وعلى المستويين التاليين، الموضوعي (المجتمع وقواه الاجتماعية) والذاتي (الأحزاب والدولة والنخبة السياسية عامة)، باعتبار أن حيوية الدينامية السياسية هي نتاج لتفاعل هذين العاملين اللذين لا فكاك بينهما إطلاقا، وكل فصل تعسفي بينهما ( كما يجري في جل التحاليل الرائجة) يؤدي إلى مزالق سياسية ارتدادية ومسدودة الأفق. هكذا، فعلى المستوى المجتمعي الموضوعي إذن، يمكن أن نلحظ العوامل المعيقة التالية: أولا : ثقل حجم الأمية وأحزمة الفقر، وتداخل ذلك مع الظاهرة المعروفة ب «ترييف المدن». ونحن نعلم ما تفعله هذه العوامل في إعاقة التطور الديمقراطي، وما تمده بوجه خاص من موارد لتجديد سيطرة اليمين المحافظ والكيانات الانتخابوية على الحياة السياسية عامة وعلى المؤسسات التمثيلية خاصة. ثانيا : التبدل السريع لمنظومة القيم الناجمة عن اكتساح العولمة، وتفشي قيمها الفردوية والاستهلاكية، والأخطر في هذا التبدل ما ينجم عنه من تذرير وتفكيك مضطردين للقوى والروابط الاجتماعية. ثالثا : تجذر ثقافة سياسية دينية تقليدية موروثة شبه بنيوية، وناجمة عن تراكمات تاريخية مديدة من أنماط الاستبداد، وهي بوجه عام ثقافة منافية للمواطنة وحافظة لعقلية الرعية، تعتبر أن السياسة من اختصاص الراعي وليست من شأن «الرعية» وعامة الناس. رابعا : وهذا العامل قلما يتم الانتباه إليه مع أنه الأكثر أهمية من بين كل العوامل الأخرى لدى الفاعل السياسي التقدمي بوجه خاص، بحيث لا يمكن أن نفهم جيدا طبيعة المرحلة الراهنة دون أن نموقعها في مجمل تاريخ تطور الصراع السياسي في بلدنا. خلاصة القول في هذه القضية، أني أزعم أن الانكماش الشعبي المهول والظاهر في الحياة السياسية اليوم، ليس جديدا كل الجدة. إنما هو حصيلة تفاقمت مقدماتها عبر محطات تاريخية مختلفة، ولعوامل متنوعة، كانت قوى التقدم تفقد خلالها أقساما أو شرائح اجتماعية مختلفة، عمال وفلاحون وفئات وسطى ... وأخطرها اليوم، الانسحاب الجماعي للمثقفين من العمل السياسي... والوقت لا يسمح لنا بعرض تفصيلي لهذه الظاهرة، وللتبريرات الإيديولوجية التي يقدمها المثقفون في تسويغ موقفهم السلبي هذا. وما دمت في هذا السياق، أريد أن ألفت نظركم إلى الملاحظتين التوضيحيتين التاليتين: أولا : من المغالطات الديماغوجية الزعم بأن النسبة الضعيفة للمشاركة في الحياة السياسية العامة، وفي الانتخابات التمثيلية، هي ظاهرة عامة حاصلة حتى في البلدان الراسخة في الديمقراطية. ذلك أن هذه المقارنة الشكلية غير المشروعة واللاتاريخية تتجاهل أننا في مرحلة انتقال ديمقراطي، وأننا في بداية السير من أجل بناء دولة الحق والقانون، وهذا لم يتحقق في التاريخ بدون مشاركة شعبية واعية وعارمة. ولذلك تختلف النتائج والمترتبات عن ضعف المشاركة في المقارنة بين النموذجين. لأن ضعف المشاركة هناك لا يؤثر عميقا في استمرار واستقرار الهياكل والعلاقات المؤسساتية الديمقراطية القائمة والراسخة. أما عندنا، فإن ضعف المشاركة الشعبية يترك المجال فسيحا لنمو دولة اللاقانون ولقوى الفساد والإفساد، عدا عن مضاعفاته الاقتصادية والاجتماعية. إن ضعف المشاركة الشعبية لدينا يؤخر ويعيق التطور الديمقراطي ويكرس التخلف والتأخر المجتمعي. ثانيا : لم يكن غائبا عنا ذلك الاختلال الكبير في موازين القوى بين المعارضة الديمقراطية من جهة، والحكم من جهة ثانية لحظة القبول بحكومة التناوب التوافقي والتصويت إيجابا على دستور 96، حتى ولو أن الحكم كان هو الآخر في وضعية أزمة. لم يكن غائبا عنا ذلك، وإلا ما كانت المعارضة لتقبل بتلك «المساومة» وفي تلك الشروط السيئة لها. وإنما كان الرهان أن هذه المساومة الإيجابية للوطن ولجميع الفرقاء ستفضي في راجح الاحتمالات إلى نهوض جماهيري جديد لصالح قوى التقدم من جراء الإصلاحات العملية التي ستقوم بها القوى الديمقراطية من خلال مشاركاتها الحكومية. عملا بشعار (إن شئتم) «خطوة عملية واحدة، أحسن من دزينة برامج على الرف». وهو الرهان الذي لم يتم له كل النجاح كما كان متوقعا! كان حديثنا إلى حد الآن عن العوامل المجتمعية الكبرى، كما أسلفت. أما على الصعيد الذاتي، والذي سأتناوله اضطرارا من جانب واحد فقط، وهو جانب القوى اليسارية التي تهمنا أساسا من وجهة نظر الفعل والممارسة المستقبلية، فيكفي القول، إن القوى الديمقراطية التي تحملت مسؤولية ذلك الرهان الجماهيري، تكاد اليوم تفقد زمام المبادرة المستقلة، بعدما تهاونت وتلكأت وتلعثمت في إيجاد تلك المعادلة الصعبة الصائبة والفعالة بين مسؤولياتها في الحكومة من جهة، ومسؤولياتها تجاه جماهيريها وقواعدها الشعبية وحلفائها الطبيعيين من جهة ثانية. أضف إلى هذا، أنها لم تتحصن جيدا من كل الانعكاسات السلبية التي أصابت المجتمع، ولم تتكيف جيدا بالوعي والتنظيم والمبادرة مع كل ما تتطلبه منها الأوضاع المجتمعية المستجدة. فما العمل إذن، وهو السؤال الثالث الذي طرحناه على أنفسنا في هذه المداخلة؟ ثالثا : الآفاق الممكنة: إن أول ما يتبادر إلى الذهن، أننا بحاجة إلى نهضة مجتمعية وإن جاز لي التعبير، نحن بحاجة إلى الانتقال، في الفكر والممارسة، من الإصلاح إلى النهضة، إذ لا يمكن الركون بعد اليوم لأي تحليل اقتصادوي. فمعضلتنا ليست في وتيرة النمو على أهميتها الكبرى، بل إنها هي الأخرى ذات ارتباط صميمي بمعضلتنا الحق التي هي التأخر المجتمعي العام. ولا يفوتني في هذا السياق أن أحيلكم إلى البحث الصادر عن مركز «عبد الرحيم بوعبيد» حول سؤال الاستراتيجية الاقتصادية، ففيه الكثير من الجوانب النقدية التي نتبناها، وخاصة خلاصته الرئيسية في علاقة التنمية الاقتصادية بالتنمية السياسية، وهي إحدى الروافع الأساسية في الخروج من هذا الاحتجاز الدائم. وثاني ما يتبادر إلى الذهن بعد التأمل في العوائق المجتمعية السابقة الذكر، أن إرجاع الاعتبار للسياسة، كما هو وارد في مصطلحات اليوم، سيحتاج إلى زمن طويل، باعتبار أن أصلب ما في تلك العوائق ذو طبيعة ثقافية إما كاسحة أو متجذرة، فإذا كنا نستطيع التقدم في ميداني محاربة الأمية والفقر، فإننا لا نستطيع بنفس السرعة أو بنفس الحصيلة أن نقاوم الثقافة السياسية التقليدية أو المستحدثة، المستوطنة أو المستوردة. من هذه المقدمات، أريد أن أشير في النهاية إلى أننا بحاجة إلى تعميق الخلاصات التي عبرنا عنها ب «الثقافة السياسية الجديدة»، آخذين بالاعتبار الدروس الإضافية لهذه التجربة العملية، بما يعزز وينمي استقلالية اختيارنا الاشتراكي في كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية. وبما ينمي بالتالي قدراتنا على المبادرة المستقلة وتموقعنا الاجتماعي الأصيل. وفي نفس الآن، نحن بحاجة إلى إجراء إصلاحات سياسية ودستورية جريئة، تسرع من وتيرة النهضة وتخرجنا من ربقة عقلية الرعايا، وبما يؤهل الحكومة لأن تلعب دورها كاملا في رسم السياسة العامة للدولة، وأن تكون الإدارة فعلا لا مجازا تحت رقابتها ووصايتها. وفي هذا السياق، وفي انتظار ما ستفضي إليه عمليا الإصلاحات المرتقبة، ينبغي للقوى اليسارية أن تكون على استعداد للقيام «بتراجع تكتيكي» يروم تصحيح أوضاعها الذاتية من جهة، وتقويم الخلل البين مع قواعدها وجماهيرها الشعبية من جهة ثانية.