المصادقة على 216 نصا قانونيا خلال سنة 2024    الغموض يحوم حول مصير اشتراكات وتعويضات 3 ملايين منخرط سيتم ترحيلهم عنوة لنظام AMO الحكومة صادقت على نسخة معدلة تضحي بمنخرطي كنوبس مقابل إنقاذ التعاضديات من الانقراض    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    لقاء يجمع وهبي بجمعية هيئات المحامين    هولندا.. إيقاف 62 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بشغب أحداث أمستردام    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        نقطة واحدة تشعل الصراع بين اتحاد يعقوب المنصور وشباب بن جرير    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد الداهي ل «الاتحاد الثقافي» نجاح الثورات العربية سيحدث فصلا بين زمنين متناقضين

الثورة العربية الجديدة تطرح أسئلة عديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في سلسلة الحوارات مع المثقفين المغاربة، التي شرع «الاتحاد الثقافي» في نشرها منذ الأسبوع الماضي، هو أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا.
{ يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟
ما نعاينه في العالم العربي ، خلال الشهور الأخيرة، هو ثورات شعبية تروم نفض الغبار عن عقود من الاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي، وتسعى إلى جعل الإنسان العربي يسترجع مواطنته، ويتمتع بحريته، وينعم بخيرات بلاده. ومن خلال تجربتيْ تونس ومصر يتضح أن الثورة غير متوقفة عن إزاحة رموز الاستبداد السياسي ، بل مازالت مستمرة إلى حين اجتثاث منابت الفساد والظلم والميز بمختلف تجلياته ومظاهره، وإقامة صروح ديمقراطية تداولية(démocratie délibérative ) تضمن الفصل بين السلط واقتسامها وتداولها بطرق نزيهة وشفافة ومسؤولة. وفي هذا الصدد ينبغي تثمين مواقف الشباب الحريص على حماية مكاسب الثورة التي تحتاج إلى وقت طويل وصبر متواصل لمواجهة العوائق التي تعترض سبيلها. لا يمكن، مؤقتا، أن نطمئن على ما تحقق، فما هو إلى بداية لإرساء دعامات الديمقراطية مع الحرص على الحيلولة دون عودة المستبدين في صور جديدة وبأساليب مغايرة، وعلى التصدي لمن يحاول إطفاء جذوة الثورة، أو الالتفاف عليها ، أو سرقتها لخدمة أغراض ومأرب ضيقة. إن الميسم العام لهذا الحراك الاجتماعي والسياسي، الذي يمس بلدان العالم بأسره، هو « ثوروة البرونيتاريا La révolution du pronétariat «. ويعني بها جول دو روزناي صراعا طبقيا من نوع آخر، يحتدم بين مالكي وسائل الاتصال الجماهيري الذين يحرصون على ممارسة « الديبلوماسية العمومية» للتأثير في أكبر عدد من الناس بواسطة التلفاز أو الإذاعة أو الفن الموجه وبين طبقة جديدة « البرونيتاريا Pronétaires على مقاس البروليتاريا» ( مكونة من مستخدمي الشبكات الرقمية) تكد من أجل دمقرطة وسائل الاتصال، وتيسير خدماتها بالمجان إلى جمهور عريض، وممارسة التطويع المضاد لدحض ما تروجه الطبقة الأولى. وبمقتضى ذلك أضحى الانترنيت بمثابة تلفاز ضخم (télévision géante) ينشر فيه كل شخص ما يحلو له بواسطة قناته الخاصة. إن هذه الثورة ، إن أحكمت في شموليتها التنموية وليست في جزئياتها الاحتجاجية فحسب، ستسهم في إرباك البنيات التقليدية، وخلخلة الأنظمة الهرمية للحكم والمراقبة والتسيير.
{ بدأت ثورة تونس بقصيدة (إرادة الحياة) لأبي القاسم الشابي إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب ؟
مما استُثمر في الثورة العربية ترداد قصيدة أبي القاسم الشابي « إرادة الحياة» التي تجسد التحام الأمة لمناهضة الظلم والحيف أيا كان مصدره وزمنه وحجمه. ولما كنا مناضلين في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب كنا نردد نتفا من هذه القصيدة وغيرها سعيا إلى تكسير القيود التي كانت تكبل الكلمة الحرة والمسعى النبيل لإقامة مجتمع ديمقراطي وتقليص الفوارق الطبقية والاجتماعية. ومن ميزات الثورة العربية أنها استثمرت مختلف الأشكال التعبيرية الملتزمة ( الغناء والنشيد والشعر والقصة القصيرة والرقص) للصدع بمطالبها المشروعة سواء في ساحات عمومية أو عبر مواقع ومدونات الكترونية. كان المناضلون فيما سبق يكتبون على الجدران عبارات للتنديد بالظلم، وهذا ما كان، رغم محدودية الأثر التي كانت تخلف مثل هذه الكتابات، يستنفر السلطات المحلية. الآن هناك إمكانات هائلة لكتابة على «جدار» الفايسبوك ما تشاء (شعارات وأشرطة فيديو وقصائد وتعليقات ومقترحات..) دون الخوف من الرقابة أو العقوبة. ويكون لمفعول ما ينشر أثر محمود مع أفراد «القبيلة الافتراضية» الذين يتقاسمون نفس المشاعر والرؤى ، وينسقون خططهم ومشاريعهم الفردية والجماعية رغم تباعد مناطقهم أو أقطارهم.
{ قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟
أحدثت الثورة العربية مسافة مع ما كان يجري في القمم العربية، و ما يصدر عنها ويظل في غالبه حبرا على ورق.
إن نجاح هذه الثورات سيحدث فصلا بين زمنين متناقضين، وسيحفز الدول الديمقراطية إلى تدارك ما ضاع في السنوات العجاف، والكد من أجل اللحاق بالدور المتقدمة. وسيسهم هذا التحول الإيجابي في إنضاج المسألة الثقافية حتى تؤدي دورها التنويري والتنموي، وتسهم في تقليص الفجوات الرقمية، وتوطين المعرفة، و ترسيخ أخلاقية النقاش في الفضاءات العمومية. إن الظروف السلمية ستسعف المثقفين على الانخراط في المشروعات الجماعية، وتحفزهم على اتخاذ المبادرات البناءة وممارسة النقد والتعبير عن مواقفهم دون وجل أو ارتياب. وإن كانت الديمقراطية تعد خيارا لا بديل عنه في الوقت الراهن، فهي- دوما- في حاجة إلى النقد والمساءلة من أجل تحسين أدائها، وتغذيتها بالملاحظات المناسبة (feedback). وهذه المسؤولية ملقاة على المثقف لتقديم التوجيهات البناءة، وتعزيز كل ما يمكن أن يدعم التفاهم اللغوي بين الناس، ويضمن لهم الرفاه الاجتماعي والكرامة الإنسانية.
{ حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له كيف تقرؤون هذه المفارقة ؟
عرف المد الثوري المستند إلى مرجعيات معينة انحسارا وفتورا بالنظر إلى حدوث تغيرات جوهرية في العالم ( وفي مقدمتها انهيار جدار برلين، وتفكك الكتلة الاشتراكية).
ومن الدروس التي يمكن أن تستخلص من مثل هذه التحولات المفاجئة والسريعة هو عدم التعامل مع المرجعيات كما لو كانت « كتبا منزلة». فهي تحتاج دوما إلى النقد والمساءلة والمراجعة حتى تواكب مستلزمات الواقع الجديد وتستجيب لانتظارات المواطنين. وبما أن هذه المرجعيات ظلت في، مجملها، ثابتة فقد أصابها الوهن والضعف، وأضحت غير قادرة على تعبئة المواطنين أو التجاوب مع متطلباتهم ومطامحهم. وهذا ما عمق الفجوة بين مناصري هذه المرجعيات والأجيال الصاعدة التي أصبحت لها مطالب جديدة ذات نزوع برغماتي يتمثل أساسا في تحقق العيش الكريم ( الحق في التعليم والحق في الشغل والحق في السكن اللائق والحق في المعرفة والحق في المساواة...) عوض أن يظل شعارا أو حلما يدغدغ المشاعر في كل محطة انتخابية. تبدو الثورة العربية ظاهريا أنها مفاجئة وغير مشدودة إلى مرجعية محددة. لكنها ، في العمق، وليدة صراعات طويلة ومريرة مع الطبقة الحاكمة والمستبدة أدى خلالها مناضلون الثمن بأرواحهم وبقسط وفير من حياتهم في غياهب السجون . كما أنها مستندة إلى المرجعية الكونية بالسعي إلى الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والوحدة الوطنية. وهذا ما ينبغي للمثقفين أن يدعموه تعزيزا لهذه المكاسب التي أعادت الروح إلى الحياة السياسية، وحرصا على حماية الثورة من براثن الانتهازية والرجعية ومخاطر الوصاية والحجر.
{ تتسم هذه الثورات بالتلقائية «والعفوية» وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية ؟
منذ سنوات انسحب المثقف من المعترك السياسي لأسباب ذاتية وموضوعية. وهي ظاهرة لا تخص العالم العربي فحسب وإنما العالم برمته على درجات متفاوتة. يعللها نعام تشومسكي بمواقف المثقف النخبوية(positions élitistes) أو اضطراره إلى الصمت إزاء ما يقع في العالم من تطهير عرقي وإبادة جماعية وكوارث طبيعية وبشرية حرصا على مهادنة الأنظمة الحاكمة والسعي إلى الترقي الاجتماعي . لم يظهر صوت المثقف العربي إلا بعد تنحي مبارك عن الحكم. ومع ذلك مازال حضوره باهتا وما فتئت مشاركته نادرة. على عكس ما كنا نعاينه في خضم الحرب الباردة بين السوفيات والأمريكان كان المثقف مشاركا في المعترك السياسي ومنخرطا في توعية الجماهير مهما كلفه ذلك من ثمن وتضحية. وبالمقابل، نلاحظ في الآونة الأخيرة ظهور موجة من الشباب المثقف الذي له تكوين تعليمي عال ومؤهلات تقنية متطورة (وهو يشكل رافدا من الطبقة البروليتارية الجديدة). وهو يحاول أن يسير آلية التغيير ويتحكم في زمامه حتى يؤتي أكله ولا ينحرف عن المسار المرسوم له. وإن أعوزته التجربة والحكمة في مواجهة بعض الصعاب، يستعين، كما هو حال شباب 25 يناير في مصر، بصفوة من الخبراء حتى يستنير بتوجيهاتهم ويستفيد من خبراتهم. إن أمل التغيير يتجسد في هؤلاء الشباب الذين جاء دورهم لتحمل المسؤوليات والإسهام في تقدم بلدانهم وتطورها وفق توافقات وتعاقدات ديمقراطية.
{ دأبت الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية ؟
مع الأسف مازال كثير من المستشرقين والغربيين ينظرون إلى الإنسان العربي في ضوء تمثلات وتصورات رسختها «ألف ليلة وليلة» في مخيلتهم وأذهانهم. وهذا ما جعلهم يحملون كثيرا من الصور النمطية المغلوطة عن الكائن العربي، ويتعاملون معه باستخفاف كما لو كانت صفات التخلف والخمول والفحولة الجنسية متأصلة في طبعه وخلقه. ومن مميزات الثورة العربية الحالية أنها أبانت عن مدى نضج الشاب العربي ووعيه وتحضره وانفتاحه. وهذا ما جعل الغرب ينبهر بصورته الحالية ويندهش لاستماتته دفاعا عن مطالبه المشروعة. وهذا ما سيدفع الغربيين إلى تغيير رؤيتهم للإنسان العربي وزحزحة كثير من الرواسم التي كانت تؤثر سلبا في تفاعلهم وتعاملهم معه.
{ في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين ؟
كانت بعض الأنظمة العربية تعتمد على أساليب التطويع ومن ضمنها الإخفاء والعنف الذهني والتعتيم. وكانت ، كلما اندلعت شرارة تظاهرة ما، تتهم أطرافا بالتآمر مع جهات أجنبية لإذكاء شعلتها أو تنعتهم بالإرهابيين. إن جذوة الثورة فاقت حجم هذه الادعاءات المغرضة، وفرضت واقعا جديدا لم يكن في الحسبان. تعاملت أنظمة معه بالعنف وهو ما أدى إلى تأزم الوضع وارتفاع سقف المطالب، في حين تعاملت معه أنظمة أخرى بكياسة ومرونة أملا في تفادي أكبر نسبة من الخسارة. وفي كلا الحالين نعاين ، وإن بدرجات متفاوتة، حراكا عارما على نحو عودة براكين خامدة أو نائمة إلى الانفجار. وتقصدت هذا التشبيه لكثرة المشاكل المغفلة أو المهملة التي تراكمت سنينا طويلة دون أن تجد حلا مناسبا لها لانتفاء الديمقراطية وانعدام الحكامة الجيدة. ومن جهة أخرى كانت الأنظمة المستبدة تعتمد على أسلوب الدعاية للتحكم في عقول الناس وترويج أخبار مزيفة بالاعتماد على المذياع والتلفاز الرسمي. ولكن المواطن يستطيع الآن، إثر الانفجار المعلوماتي والثورة التكنولوجية، أن يستقي الأخبار من مصادر متعددة، ويضطلع بتكذيب الأخبار الرسمية بنشر صور ومشاهد حية بهواتفه النقال ونشرها في مواقع الكترونية حتى يطلع عليها أكبر عدد من الناس في مختلف بقاع المعمور.
{ عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن (الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت ؟
كان المغرب من الدول العربية السباقة إلى توسيع الهامش الديمقراطي، وهو ما ترتبت عليه مبادرات بناءة لطي صفحة الماضي الأليم واستشراف آفاق المستقبل. إن المغرب مطالب، أكثر من أي وقت مضى، بتعزيز المكاسب المحققة، وإرساء دعائم ديمقراطية حقيقية، وصياغة دستور مستجيب للتطلعات، ومسهم في تخليق الحياة السياسية، وحريص على ضبط اللعبة الديمقراطية وتوازي السلط واستقلالها، وعلى استنبات آليات التقويم والوساطة والمحاسبة. لكن الدستور عموما موجه إلى الطبقة السياسية لتداول السلط واقتسامها بطريق نزيهة وشفافة وديمقراطية اعتمادا على تعاهدات وتوافقات ديمقراطية وشعبية ( عوض التوافقات الفوقية والمفبركة). وهذا ما يقتضي اضطلاع الحكومة المقبلة ببرامج عملية ومستعجلة للانكباب على القضايا الملحة على نحو توفير مناصب الشغل، والحكامة الجيدة، وتحسين جودة الخدمات العمومية في قطاعات العدل والتعليم والصحة، وفي الإدارة التي يحتك بها المواطن يوميا. لقد راكم المغرب تجارب في تدبير النزاعات والصراعات رغم بعض التجاوزات التي ينبغي تفاديها تعززا للمسار الديمقراطي في بلادنا. ولما نستحضر «الاستثناء المغربي» لا ينبغي أن نطمئن إليه كما لو كان إنجازا باهرا وإنما يجب أن نضعه دوما محل نقد ومساءلة حتى يكون حافزا على التقدم والتطور سعيا إلى اللحاق بالديمقراطيات العريقة.
{ من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاج لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية ؟
ليست للثورة الثقافية صبغة موسمية وإنما هي طاقة متجددة ومستمرة سعيا إلى تطوير المجتمع ورقيه. ينبغي للمثقف أن ينخرط فيها باستمرار للتأثير على محيطه، وتوعية المواطنين بالأفكار الجديدة والمتنورة. إن العالم العربي مجبر على التجدد والتطور إن أراد أن يواكب السيرورة العالمية، ويساير إيقاعاتها السريعة. ولن يتأتى له ذلك إلا بالانفتاح على المثقفين والاعتماد عليهم لما لهم من دور في توطين المعرفة، وتوفير البنيات التمكينية ومن ضمنها توسيع الحريات العامة ، وصوغ تشريعات داعمة لمرتكزات مجتمع المعرفة..، والإسهام في توظيف المعارف في إطار التنمية المستدامة والرفاه الاجتماعي. إن عودة المثقف إلى المشاركة في الفضاءات العمومية ستؤدي إلى توعية الناس وتكوينهم وتأهيلهم إلى الحوار السليم وأخلاقية النقاش أي كل ما يسعفهم على التفاهم بالبرهان الحجاجي (عوض العنف أو المال أو النفوذ) حرصا على تنسيق أغراضهم ومصالحهم وتوفير شروط نجاح مشروعاتهم المشتركة.
- يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي ؟
استلهمت الثورة العربية كثيرا من القيم الكونية وإن كانت متأصلة في الثقافة الإسلامية. وهي، في مجملها، قيم افتراضية يتناقلها الناس فيما بينهم على شبكة الانترنيت سعيا إلى الإمساك بتلابيب الكرامة الإنسانية بمختلف تجلياتها و معانيها. وهكذا أصبحت المرجعية الكونية هي الخلفية التي يحتكم إليها الشباب العربي لإحلال الأسلوب الديمقراطي القائم على تداول السلطة محل الأسلوب المستبد المحتكر للسلطة. زحزح هذا الواقع الجديد نسبيا الخطاب الإسلاموي الذي كان يستغل فقر الناس والحيف الممارس عليهم لدغدغة مشاعرهم. وهو ما جعل بعض الجماعات الإسلامية تحترس مما يحدث وتعيد قراءته تحسبا للمعارك السياسية المقبلة، وفي مقدمتها الانتخابات. وفي جميع الأحوال ينبغي أن ننوه بشباب مصر الذين أبانوا عن نضج كبير في حماية ثورتهم المستمرة، والتدرج في تحقيق المطالب وتعزيز المكاسب، وفي الحفاظ على نزاهتهم الفكرية حتى لا تزيح الثورة عن سكتها، ولا تُخترق من لدن جهات أخرى سعيا إلى الالتفاف عليها وتوجهيها لخدمة أغراضها وتصفية حساباتها مع جهات مناوئة. وكما قلت سابقا، لا ينبغي أن نطمئن على ما حدث في تونس ومصر. فهو مجرد بداية ستتلوها أحداث جسام إما تدعم المسار الديمقراطي وإما تفضي إلى ثورة مضادة. وفي هذا الصدد، يجب على القوى السياسية الحية أن تبادر إلى إرساء توافقات جديدة تمثل المنطلق السليم لطي صفحة الماضي واستشراف آفاق المستقبل.
{ إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إذكائها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟
من إيجابيا الهبات العربية أنها أعادت الشباب إلى المشهد السياسي، وأبانت ما يتمتع به من وعي لمقاومة الاستبداد والسعي إلى الحرية والكرامة والديمقراطية، وما يعتريه من إحساس وتعطش للمشاركة في العمل الجماعي، وتحمل المسؤولية على الوجه المطلوب. استطاعت حركة 20 فبراير في المغرب أن تحدث قطيعة مع ما قبل هذا التاريخ و ما بعده، ويندرج الخطاب الملكي في 9 مارس في هذا التحول الإيجابي والمثمر لتعزيز الثورة الهادئة المشيدة على الحوار السليم سعيا إلى صنع لحظة تاريخية جديدة . وهي القطيعة التي ينبغي أن ندعمها بنضج وتأن حفاظا على المكتسبات وسعيا إلى صياغة دستور يستجيب لتطلعات القوى الحية في البلاد بهدف إرساء تقاليد التداول الديمقراطي. مازالت أشارك ، بين الفينة والأخرى، في بعض التظاهرات التي تدعو إليها حركة 20 فبراير. وآمل أن يحافظ الشباب على نزاهته الفكرية، ويحمي ثورته من الاختراقات التي يمكن أن تؤثر سلبا في مسارها وتشتت مطالبها، ويقوّم تجربته لتصحيح مكامن الخلل وتعزيز مكامن القوة حتى يسهم في صنع هذه اللحظة التاريخية بمشاركته الفعالة في الشأن الاجتماعي والسياسي بناء ونقدا وتصحيحا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.