ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد الداهي ل «الاتحاد الثقافي» نجاح الثورات العربية سيحدث فصلا بين زمنين متناقضين

الثورة العربية الجديدة تطرح أسئلة عديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في سلسلة الحوارات مع المثقفين المغاربة، التي شرع «الاتحاد الثقافي» في نشرها منذ الأسبوع الماضي، هو أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا.
{ يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟
ما نعاينه في العالم العربي ، خلال الشهور الأخيرة، هو ثورات شعبية تروم نفض الغبار عن عقود من الاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي، وتسعى إلى جعل الإنسان العربي يسترجع مواطنته، ويتمتع بحريته، وينعم بخيرات بلاده. ومن خلال تجربتيْ تونس ومصر يتضح أن الثورة غير متوقفة عن إزاحة رموز الاستبداد السياسي ، بل مازالت مستمرة إلى حين اجتثاث منابت الفساد والظلم والميز بمختلف تجلياته ومظاهره، وإقامة صروح ديمقراطية تداولية(démocratie délibérative ) تضمن الفصل بين السلط واقتسامها وتداولها بطرق نزيهة وشفافة ومسؤولة. وفي هذا الصدد ينبغي تثمين مواقف الشباب الحريص على حماية مكاسب الثورة التي تحتاج إلى وقت طويل وصبر متواصل لمواجهة العوائق التي تعترض سبيلها. لا يمكن، مؤقتا، أن نطمئن على ما تحقق، فما هو إلى بداية لإرساء دعامات الديمقراطية مع الحرص على الحيلولة دون عودة المستبدين في صور جديدة وبأساليب مغايرة، وعلى التصدي لمن يحاول إطفاء جذوة الثورة، أو الالتفاف عليها ، أو سرقتها لخدمة أغراض ومأرب ضيقة. إن الميسم العام لهذا الحراك الاجتماعي والسياسي، الذي يمس بلدان العالم بأسره، هو « ثوروة البرونيتاريا La révolution du pronétariat «. ويعني بها جول دو روزناي صراعا طبقيا من نوع آخر، يحتدم بين مالكي وسائل الاتصال الجماهيري الذين يحرصون على ممارسة « الديبلوماسية العمومية» للتأثير في أكبر عدد من الناس بواسطة التلفاز أو الإذاعة أو الفن الموجه وبين طبقة جديدة « البرونيتاريا Pronétaires على مقاس البروليتاريا» ( مكونة من مستخدمي الشبكات الرقمية) تكد من أجل دمقرطة وسائل الاتصال، وتيسير خدماتها بالمجان إلى جمهور عريض، وممارسة التطويع المضاد لدحض ما تروجه الطبقة الأولى. وبمقتضى ذلك أضحى الانترنيت بمثابة تلفاز ضخم (télévision géante) ينشر فيه كل شخص ما يحلو له بواسطة قناته الخاصة. إن هذه الثورة ، إن أحكمت في شموليتها التنموية وليست في جزئياتها الاحتجاجية فحسب، ستسهم في إرباك البنيات التقليدية، وخلخلة الأنظمة الهرمية للحكم والمراقبة والتسيير.
{ بدأت ثورة تونس بقصيدة (إرادة الحياة) لأبي القاسم الشابي إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب ؟
مما استُثمر في الثورة العربية ترداد قصيدة أبي القاسم الشابي « إرادة الحياة» التي تجسد التحام الأمة لمناهضة الظلم والحيف أيا كان مصدره وزمنه وحجمه. ولما كنا مناضلين في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب كنا نردد نتفا من هذه القصيدة وغيرها سعيا إلى تكسير القيود التي كانت تكبل الكلمة الحرة والمسعى النبيل لإقامة مجتمع ديمقراطي وتقليص الفوارق الطبقية والاجتماعية. ومن ميزات الثورة العربية أنها استثمرت مختلف الأشكال التعبيرية الملتزمة ( الغناء والنشيد والشعر والقصة القصيرة والرقص) للصدع بمطالبها المشروعة سواء في ساحات عمومية أو عبر مواقع ومدونات الكترونية. كان المناضلون فيما سبق يكتبون على الجدران عبارات للتنديد بالظلم، وهذا ما كان، رغم محدودية الأثر التي كانت تخلف مثل هذه الكتابات، يستنفر السلطات المحلية. الآن هناك إمكانات هائلة لكتابة على «جدار» الفايسبوك ما تشاء (شعارات وأشرطة فيديو وقصائد وتعليقات ومقترحات..) دون الخوف من الرقابة أو العقوبة. ويكون لمفعول ما ينشر أثر محمود مع أفراد «القبيلة الافتراضية» الذين يتقاسمون نفس المشاعر والرؤى ، وينسقون خططهم ومشاريعهم الفردية والجماعية رغم تباعد مناطقهم أو أقطارهم.
{ قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟
أحدثت الثورة العربية مسافة مع ما كان يجري في القمم العربية، و ما يصدر عنها ويظل في غالبه حبرا على ورق.
إن نجاح هذه الثورات سيحدث فصلا بين زمنين متناقضين، وسيحفز الدول الديمقراطية إلى تدارك ما ضاع في السنوات العجاف، والكد من أجل اللحاق بالدور المتقدمة. وسيسهم هذا التحول الإيجابي في إنضاج المسألة الثقافية حتى تؤدي دورها التنويري والتنموي، وتسهم في تقليص الفجوات الرقمية، وتوطين المعرفة، و ترسيخ أخلاقية النقاش في الفضاءات العمومية. إن الظروف السلمية ستسعف المثقفين على الانخراط في المشروعات الجماعية، وتحفزهم على اتخاذ المبادرات البناءة وممارسة النقد والتعبير عن مواقفهم دون وجل أو ارتياب. وإن كانت الديمقراطية تعد خيارا لا بديل عنه في الوقت الراهن، فهي- دوما- في حاجة إلى النقد والمساءلة من أجل تحسين أدائها، وتغذيتها بالملاحظات المناسبة (feedback). وهذه المسؤولية ملقاة على المثقف لتقديم التوجيهات البناءة، وتعزيز كل ما يمكن أن يدعم التفاهم اللغوي بين الناس، ويضمن لهم الرفاه الاجتماعي والكرامة الإنسانية.
{ حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له كيف تقرؤون هذه المفارقة ؟
عرف المد الثوري المستند إلى مرجعيات معينة انحسارا وفتورا بالنظر إلى حدوث تغيرات جوهرية في العالم ( وفي مقدمتها انهيار جدار برلين، وتفكك الكتلة الاشتراكية).
ومن الدروس التي يمكن أن تستخلص من مثل هذه التحولات المفاجئة والسريعة هو عدم التعامل مع المرجعيات كما لو كانت « كتبا منزلة». فهي تحتاج دوما إلى النقد والمساءلة والمراجعة حتى تواكب مستلزمات الواقع الجديد وتستجيب لانتظارات المواطنين. وبما أن هذه المرجعيات ظلت في، مجملها، ثابتة فقد أصابها الوهن والضعف، وأضحت غير قادرة على تعبئة المواطنين أو التجاوب مع متطلباتهم ومطامحهم. وهذا ما عمق الفجوة بين مناصري هذه المرجعيات والأجيال الصاعدة التي أصبحت لها مطالب جديدة ذات نزوع برغماتي يتمثل أساسا في تحقق العيش الكريم ( الحق في التعليم والحق في الشغل والحق في السكن اللائق والحق في المعرفة والحق في المساواة...) عوض أن يظل شعارا أو حلما يدغدغ المشاعر في كل محطة انتخابية. تبدو الثورة العربية ظاهريا أنها مفاجئة وغير مشدودة إلى مرجعية محددة. لكنها ، في العمق، وليدة صراعات طويلة ومريرة مع الطبقة الحاكمة والمستبدة أدى خلالها مناضلون الثمن بأرواحهم وبقسط وفير من حياتهم في غياهب السجون . كما أنها مستندة إلى المرجعية الكونية بالسعي إلى الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والوحدة الوطنية. وهذا ما ينبغي للمثقفين أن يدعموه تعزيزا لهذه المكاسب التي أعادت الروح إلى الحياة السياسية، وحرصا على حماية الثورة من براثن الانتهازية والرجعية ومخاطر الوصاية والحجر.
{ تتسم هذه الثورات بالتلقائية «والعفوية» وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية ؟
منذ سنوات انسحب المثقف من المعترك السياسي لأسباب ذاتية وموضوعية. وهي ظاهرة لا تخص العالم العربي فحسب وإنما العالم برمته على درجات متفاوتة. يعللها نعام تشومسكي بمواقف المثقف النخبوية(positions élitistes) أو اضطراره إلى الصمت إزاء ما يقع في العالم من تطهير عرقي وإبادة جماعية وكوارث طبيعية وبشرية حرصا على مهادنة الأنظمة الحاكمة والسعي إلى الترقي الاجتماعي . لم يظهر صوت المثقف العربي إلا بعد تنحي مبارك عن الحكم. ومع ذلك مازال حضوره باهتا وما فتئت مشاركته نادرة. على عكس ما كنا نعاينه في خضم الحرب الباردة بين السوفيات والأمريكان كان المثقف مشاركا في المعترك السياسي ومنخرطا في توعية الجماهير مهما كلفه ذلك من ثمن وتضحية. وبالمقابل، نلاحظ في الآونة الأخيرة ظهور موجة من الشباب المثقف الذي له تكوين تعليمي عال ومؤهلات تقنية متطورة (وهو يشكل رافدا من الطبقة البروليتارية الجديدة). وهو يحاول أن يسير آلية التغيير ويتحكم في زمامه حتى يؤتي أكله ولا ينحرف عن المسار المرسوم له. وإن أعوزته التجربة والحكمة في مواجهة بعض الصعاب، يستعين، كما هو حال شباب 25 يناير في مصر، بصفوة من الخبراء حتى يستنير بتوجيهاتهم ويستفيد من خبراتهم. إن أمل التغيير يتجسد في هؤلاء الشباب الذين جاء دورهم لتحمل المسؤوليات والإسهام في تقدم بلدانهم وتطورها وفق توافقات وتعاقدات ديمقراطية.
{ دأبت الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية ؟
مع الأسف مازال كثير من المستشرقين والغربيين ينظرون إلى الإنسان العربي في ضوء تمثلات وتصورات رسختها «ألف ليلة وليلة» في مخيلتهم وأذهانهم. وهذا ما جعلهم يحملون كثيرا من الصور النمطية المغلوطة عن الكائن العربي، ويتعاملون معه باستخفاف كما لو كانت صفات التخلف والخمول والفحولة الجنسية متأصلة في طبعه وخلقه. ومن مميزات الثورة العربية الحالية أنها أبانت عن مدى نضج الشاب العربي ووعيه وتحضره وانفتاحه. وهذا ما جعل الغرب ينبهر بصورته الحالية ويندهش لاستماتته دفاعا عن مطالبه المشروعة. وهذا ما سيدفع الغربيين إلى تغيير رؤيتهم للإنسان العربي وزحزحة كثير من الرواسم التي كانت تؤثر سلبا في تفاعلهم وتعاملهم معه.
{ في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين ؟
كانت بعض الأنظمة العربية تعتمد على أساليب التطويع ومن ضمنها الإخفاء والعنف الذهني والتعتيم. وكانت ، كلما اندلعت شرارة تظاهرة ما، تتهم أطرافا بالتآمر مع جهات أجنبية لإذكاء شعلتها أو تنعتهم بالإرهابيين. إن جذوة الثورة فاقت حجم هذه الادعاءات المغرضة، وفرضت واقعا جديدا لم يكن في الحسبان. تعاملت أنظمة معه بالعنف وهو ما أدى إلى تأزم الوضع وارتفاع سقف المطالب، في حين تعاملت معه أنظمة أخرى بكياسة ومرونة أملا في تفادي أكبر نسبة من الخسارة. وفي كلا الحالين نعاين ، وإن بدرجات متفاوتة، حراكا عارما على نحو عودة براكين خامدة أو نائمة إلى الانفجار. وتقصدت هذا التشبيه لكثرة المشاكل المغفلة أو المهملة التي تراكمت سنينا طويلة دون أن تجد حلا مناسبا لها لانتفاء الديمقراطية وانعدام الحكامة الجيدة. ومن جهة أخرى كانت الأنظمة المستبدة تعتمد على أسلوب الدعاية للتحكم في عقول الناس وترويج أخبار مزيفة بالاعتماد على المذياع والتلفاز الرسمي. ولكن المواطن يستطيع الآن، إثر الانفجار المعلوماتي والثورة التكنولوجية، أن يستقي الأخبار من مصادر متعددة، ويضطلع بتكذيب الأخبار الرسمية بنشر صور ومشاهد حية بهواتفه النقال ونشرها في مواقع الكترونية حتى يطلع عليها أكبر عدد من الناس في مختلف بقاع المعمور.
{ عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن (الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت ؟
كان المغرب من الدول العربية السباقة إلى توسيع الهامش الديمقراطي، وهو ما ترتبت عليه مبادرات بناءة لطي صفحة الماضي الأليم واستشراف آفاق المستقبل. إن المغرب مطالب، أكثر من أي وقت مضى، بتعزيز المكاسب المحققة، وإرساء دعائم ديمقراطية حقيقية، وصياغة دستور مستجيب للتطلعات، ومسهم في تخليق الحياة السياسية، وحريص على ضبط اللعبة الديمقراطية وتوازي السلط واستقلالها، وعلى استنبات آليات التقويم والوساطة والمحاسبة. لكن الدستور عموما موجه إلى الطبقة السياسية لتداول السلط واقتسامها بطريق نزيهة وشفافة وديمقراطية اعتمادا على تعاهدات وتوافقات ديمقراطية وشعبية ( عوض التوافقات الفوقية والمفبركة). وهذا ما يقتضي اضطلاع الحكومة المقبلة ببرامج عملية ومستعجلة للانكباب على القضايا الملحة على نحو توفير مناصب الشغل، والحكامة الجيدة، وتحسين جودة الخدمات العمومية في قطاعات العدل والتعليم والصحة، وفي الإدارة التي يحتك بها المواطن يوميا. لقد راكم المغرب تجارب في تدبير النزاعات والصراعات رغم بعض التجاوزات التي ينبغي تفاديها تعززا للمسار الديمقراطي في بلادنا. ولما نستحضر «الاستثناء المغربي» لا ينبغي أن نطمئن إليه كما لو كان إنجازا باهرا وإنما يجب أن نضعه دوما محل نقد ومساءلة حتى يكون حافزا على التقدم والتطور سعيا إلى اللحاق بالديمقراطيات العريقة.
{ من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاج لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية ؟
ليست للثورة الثقافية صبغة موسمية وإنما هي طاقة متجددة ومستمرة سعيا إلى تطوير المجتمع ورقيه. ينبغي للمثقف أن ينخرط فيها باستمرار للتأثير على محيطه، وتوعية المواطنين بالأفكار الجديدة والمتنورة. إن العالم العربي مجبر على التجدد والتطور إن أراد أن يواكب السيرورة العالمية، ويساير إيقاعاتها السريعة. ولن يتأتى له ذلك إلا بالانفتاح على المثقفين والاعتماد عليهم لما لهم من دور في توطين المعرفة، وتوفير البنيات التمكينية ومن ضمنها توسيع الحريات العامة ، وصوغ تشريعات داعمة لمرتكزات مجتمع المعرفة..، والإسهام في توظيف المعارف في إطار التنمية المستدامة والرفاه الاجتماعي. إن عودة المثقف إلى المشاركة في الفضاءات العمومية ستؤدي إلى توعية الناس وتكوينهم وتأهيلهم إلى الحوار السليم وأخلاقية النقاش أي كل ما يسعفهم على التفاهم بالبرهان الحجاجي (عوض العنف أو المال أو النفوذ) حرصا على تنسيق أغراضهم ومصالحهم وتوفير شروط نجاح مشروعاتهم المشتركة.
- يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي ؟
استلهمت الثورة العربية كثيرا من القيم الكونية وإن كانت متأصلة في الثقافة الإسلامية. وهي، في مجملها، قيم افتراضية يتناقلها الناس فيما بينهم على شبكة الانترنيت سعيا إلى الإمساك بتلابيب الكرامة الإنسانية بمختلف تجلياتها و معانيها. وهكذا أصبحت المرجعية الكونية هي الخلفية التي يحتكم إليها الشباب العربي لإحلال الأسلوب الديمقراطي القائم على تداول السلطة محل الأسلوب المستبد المحتكر للسلطة. زحزح هذا الواقع الجديد نسبيا الخطاب الإسلاموي الذي كان يستغل فقر الناس والحيف الممارس عليهم لدغدغة مشاعرهم. وهو ما جعل بعض الجماعات الإسلامية تحترس مما يحدث وتعيد قراءته تحسبا للمعارك السياسية المقبلة، وفي مقدمتها الانتخابات. وفي جميع الأحوال ينبغي أن ننوه بشباب مصر الذين أبانوا عن نضج كبير في حماية ثورتهم المستمرة، والتدرج في تحقيق المطالب وتعزيز المكاسب، وفي الحفاظ على نزاهتهم الفكرية حتى لا تزيح الثورة عن سكتها، ولا تُخترق من لدن جهات أخرى سعيا إلى الالتفاف عليها وتوجهيها لخدمة أغراضها وتصفية حساباتها مع جهات مناوئة. وكما قلت سابقا، لا ينبغي أن نطمئن على ما حدث في تونس ومصر. فهو مجرد بداية ستتلوها أحداث جسام إما تدعم المسار الديمقراطي وإما تفضي إلى ثورة مضادة. وفي هذا الصدد، يجب على القوى السياسية الحية أن تبادر إلى إرساء توافقات جديدة تمثل المنطلق السليم لطي صفحة الماضي واستشراف آفاق المستقبل.
{ إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إذكائها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟
من إيجابيا الهبات العربية أنها أعادت الشباب إلى المشهد السياسي، وأبانت ما يتمتع به من وعي لمقاومة الاستبداد والسعي إلى الحرية والكرامة والديمقراطية، وما يعتريه من إحساس وتعطش للمشاركة في العمل الجماعي، وتحمل المسؤولية على الوجه المطلوب. استطاعت حركة 20 فبراير في المغرب أن تحدث قطيعة مع ما قبل هذا التاريخ و ما بعده، ويندرج الخطاب الملكي في 9 مارس في هذا التحول الإيجابي والمثمر لتعزيز الثورة الهادئة المشيدة على الحوار السليم سعيا إلى صنع لحظة تاريخية جديدة . وهي القطيعة التي ينبغي أن ندعمها بنضج وتأن حفاظا على المكتسبات وسعيا إلى صياغة دستور يستجيب لتطلعات القوى الحية في البلاد بهدف إرساء تقاليد التداول الديمقراطي. مازالت أشارك ، بين الفينة والأخرى، في بعض التظاهرات التي تدعو إليها حركة 20 فبراير. وآمل أن يحافظ الشباب على نزاهته الفكرية، ويحمي ثورته من الاختراقات التي يمكن أن تؤثر سلبا في مسارها وتشتت مطالبها، ويقوّم تجربته لتصحيح مكامن الخلل وتعزيز مكامن القوة حتى يسهم في صنع هذه اللحظة التاريخية بمشاركته الفعالة في الشأن الاجتماعي والسياسي بناء ونقدا وتصحيحا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.