هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجتمع المدني وآفاق إصلاح القضاء

إن التطرق لهذا الموضوع يتطلب أساسا حسم نوع المعالجة المطلوبة، ذلك أن مجالات الفكر السياسي العام التي يمت إليها الموضوع وإن كانت قديمة قدم الانسان، فإن مناهجه العملية تعتبر حديثة . ومن هنا يصعب التطرق إلى الموضوع بمنهجية علمية قطعية تتناول الحقائق المسندة بالأدلة لتسند إليها النتائج المتولدة عنها... ذلك أن مثل هذا النهج يجب أن يحلل الواقع الموضوعي ويدقق عناصره كما هي كائنة الوجود.. إلا أن عنوان المداخلة يوحي بأن الكلام يجب أن يتوجه ليس إلى الواقع كما هو، وإنما إلى ما يجب أن يكون... فآفاق الاصلاح، أي إصلاح تحمل في طياتها تجاوز الكائن المعاش إلى رحاب مازال مرتقبا سيحمل المستقبل عناصره وملامحه... وهو ما يجعل بالضرورة معالجة الموضوع لن تكون إلا فكرية من حيث المقاربة تتوخى استجماع بعض عناصر التحليل لإنضاج ملامح الصورة في بعض معالمها على الأقل.
ويمكن القول بأن المعالجة العلمية الصارمة تقتضي التخطيط والبرمجة التي تجعل التسلسل قائما ما بين الأول والثاني الذي لا يمكن أن يتبعه إلا الرقم الثالث، في حين أن ما تطمح إليه هذه المداخلة في أقصى الغايات ليس إلا نوعا من الاضاءة العامة بمنظار خاص يبين بعض خطوط الصورة تاركا بينها أسطرا غير مستكملة مادمت اللوحة على العموم تعطي انطباعا على موضعها ولو بالتقريب.
إن تقديم هذه الورقة بهذا الشكل وإن كان ينبني على تواضع حقيقي، فإنه مع ذلك منبثق من تأثير وإعجاب بمنهج لمح له الدكتور يورغن روتغرس الحقوقي التكوين الذي هو الآن على رأس الوزارة الجديدة في ألمانيا هي وزارة التعليم والعلوم والأبحاث والتكنولوجيا، والتي تعرف لدى الرأي العام الألماني بوزارة المستقبل. لقد سئل هذا الوزير في غضون شهر يونيو 1995 عن مستقبل ألمانيا باعتبار مسؤولية وزارته فأجاب بالنص: «لا يستطيع المرء التخطيط للمستقبل، ولكنه يستطيع التحضير أو التدبير له..» .
المجتمع المدني وهم أم حقيقة؟
لقد وقع تداول مصطلح مفهوم المجتمع المدني خلال العشر سنوات الاخيرة بشكل كثيف وخلق المصطلح من كثرة الاستعمال نوعا من الاستئناس مع الأذن واللسان معا، إذ أصبح المفهوم يتناغم في كل خطاب لدى الجامعي والحقوقي والسياسي والجمعوي... وهو ما جعل دوريتين على الأقل حسب علمي ، تفتحان مقاربة إجرائية وتأصيلية لهذا المصطلح ، وهما مجلة «علامات الحاضر» ومجلة «آفاق» لاتحاد كتاب المغرب على مدى عددين سنة 1992 و1993 تحت عنوان: المثقفون والمجتمع المدني بالمغرب.
والسؤال المشروع بهذا الصدد، هل معطى المجتمع المدني مجرد اختلاق وشعار مرحلي، أم أن له ما يبرره إلى حد يبيح التعامل معه كفكرة مسلمة؟ وبعبارة أخرى أكثر وضوحا في وسطنا المهني الذي يتعامل مع القواعد المؤطرة للمجتمع ويميز بين حمولاتها المختلفة كجنين فكري فلسفي أو انطباع أخلاقي أو أدبي، أم أن الفكرة أصبحت محكمة النضج مهيئة للإعمال بشكل يقترب من الالزام والالتزام...
ومعلوم أنه في ميدان الفكر العام لا يمكن أن نتصنع نحت قاعدة الالزام القاضي بالوجوب والجزاء... ولكن مع ذلك ونحن دائما في ميدان المقاربة الفكرية، لابد من تمحيص الامور وتدقيق المفاهيم الفاعلة مفرقين ما بين المصطنع كمحبول صحفي يومي قد لا يثبت في صلب التجربة التاريخية للمجتمع، وبين ما له أساس موضوعي محكوم له فكريا وتاريخيا بالثبات والاستمرار ولو لمرحلة تاريخية فاعلة تؤسس لأخرى مغايرة، إذ لا يدوم سوى الكمال والعدم وهما من حيث الثبات سيان.
إن من المفارقة أن نجد لدى المهتمين في بلدنا نظرتين إلى مفهوم المجتمع المدني رغم أنهما يظهران متقابلتين، إلا أنه في العمق لا تتناقضان ذلك أنه بقدر ما تعتبر فكرة المجتمع المدني مسلمة يتعامل معها كنسق قائم وحي لدى الأطر السياسية والمهنية والجمعوية في غالب الأحيان بقدر ما نجد تحفظا لدى الدارسين الجامعيين إما بالتشكيك الذي عبر عنه الاستاذ محمد سبيلا بكل وضوح تحت عنوان بارز (المجتمع المدني هل هو فكرة سابقة لأوانها؟» أو بالنقد الاجرائي في كون توظيف مفهوم المجتمع المدني يتم استعماله بدون تأصيل لمفهومه في الفكر السياسي العربي عامة كما لاحظ الاستاذ كمال عبد اللطيف عن حق . ويظهر أنه من الطبيعي في مرحلة البدايات التأسيسية أن تكون للفاعلين المدنيين جرأة الاعلان والايمان بالمفهوم الذي تمرسوا عليه عمليا من خلال الممارسة اليومية للهموم المدنية العامة... كما أنه أيضا من الطبيعي أن يكون للأكادميين حرصهم على الدقة وعدم التسرع في إصدار الأحكام... على أن لهذا الطرح وجه آخر يمكن من المقاربة لكيان المجتمع المدني المغربي الذي لا يمكن تصور الدولة المغربية ككيان سياسي بدون التسليم بوجوده...
إذ أن تبلور المفهوم منذ كتب جان لوك في الحكم المدني تنظيره لنظرية التعاقد تجاوزا للمفهوم الديني للدولة منذ ذلك كان واضحا مدى الربط بين مفهوم الدولة غير الكنسية ومفهوم المجتمع المدني أو السياسي.
وإن هذا الربط بين المفهومين وارد أيضا بدرجات متفاوتة لدى كل من هوبز وهيجل وبشكل أكثر وضوحا لدى كارل ماركس.
على أن ما يتوخى نقاش مفكرينا وكتابنا في الواقع ليس الوجود المدني في حد ذاته، وإنما مدى بروز هذا الوجود بشكل فاعل ووازن تقديرا لما لحق دور المجتمع المدني من تطور في الدول الحديثة الغربية واضطلع من مسؤوليات الدفاع عن الفرد والحد من عنف الدولة وكبح جبروتها وتسلطها على الأفراد والمجتمع.
وفي هذا المضمار، لابد من التشديد على بروز دور المجتمع المدني المغربي كخاصية له في المراحل الراهنة لتاريخ المغرب... إذ بقطع النظر على نكهة الاستقلالية في العمل الذي تتشبث به طلائع المجتمع المدني، فإن مراحل التأسيس الديمقراطي الذي تسعى إليه البلاد منذ التعاقد الوطني على الوحدة الترابية الذي وثقته المسيرة الشعبية الخضراء سنة 1975، فإن تشابك العلاقة بين الدولة ككيان مهيمن بطبعه والمجتمع المدني بتياراته المتطلعة للحد من الهيمنة بالمشاركة والمساهمة في التحدي والعصرنة تجعل هذه العلاقة المتداخلة ترمي إلى إنجاز واحد هو البناء الديمقراطي الذي به وحده تلج الدولة رحاب الحداثة لتصبح دولة الحق والقانون.
وإذا كان الشعار مسلماً من طرف الجميع، فإن ديناميكية الإنجاز تختلف كل حسب موقعه، ذلك أنه إذا كان مفهوما أن كيان المجتمع المدني ليس وحيداً وموحد المصالح، غير أن حدة الاختلاف تخفت في مرحلة أو تتحالف في مرحلة أخرى. وقد لا تتأزم أحيانا إلا عند الاقتسام المباشر للمصالح والمنافع، فإن ما يجب أن يفهم في نفس الآن أن الدولة ليست هي نفسها سوى توافق فعلي لمجموع التوازنات الفاعلة فيها بما يجعلها عند اتخاذ القرار تراعي أولا توازنها الداخلي قبل أي اعتبار آخر.
إلا أنه حين يضغط المجتمع المدني للإسراع بالإنجاز تتحرك المصالح المضادة لمحاولة خلق أطراف أخرى تشوش كيان المجتمع المدني نفسه، وهو ما يفسر أزمة وتردد الإنجاز الديمقراطي المغربي على الأقل من سنة 1976 الى الآن، حيث مازالت العربة الديمقراطية تنتظر الإقلاع الحقيقي مما يطرح على المجتمع المدني المغربي بجميع مكوناته المهنية والجمعوية والنقابية والحزبية مهام أساسية ليست بالضرورة محصورة في الدفاع عن الحريات وتعزيز حقوق الإنسان، وإنما أيضاً في نفس الآن بالعمل في نفس الإطار العام على فك وفضح التوازن الداخلي للدولة بتعرية الجانب اللاتاريخي المدسوس منذ الاستعمار المثبط لعزيمة التغيير والتحديث تقوية وإسناداً للجانب الشرعي التاريخي من أجل إنجاز مهام المرحلة الديمقراطية وتحديث الدولة.
ومن هنا يتضح أن الأمر لا يتعلق بوجود المجتمع المدني المغربي أو عدم الوجود بقدر ما يتعلق بمهام دور هذا المجتمع المدني في المرحلة الراهنة الذي وإن كان مستقلا عن الدولة في مجال نشاطه، إلا أنه يجب بهذا النشاط أن يفعل في الدولة نفسها من أجل الإقلاع الديمقراطي السليم.
إن المجتمع المدني المغربي بهذا المعنى إذا كان سعى إلى تحصين الفرد والجماعة ضد سطوة سلطة الدولة، فإنه في نفس الآن، يحصن الدولة نفسها ضد عنف الاضطراب الاجتماعي ويقي كيان الأمة والدولة معاً من غوغاء العنف الأهوج بتقنين سلوك الاحتجاج الشرعي تجاه الدولة وهنا تكمن شرعية وجوده.
موقع مهنة المحاماة في المجتمع المدني المغربي
إن تداخل مهام المجتمع المدني بالتحديد الذي أشرنا إليه تجعل بطبيعتها نوعاً من التراتبية لمختلف تياراته وأجنحته ليس فقط بحكم الشعار المرحلي المتفق عليه من طرف الجميع وهو دولة المؤسسات التي يحكمها الحق والقانون، وإنما أيضاً بطبيعة التكوين والممارسة لكل فريق على حدة.
وإذا كانت مهنة المحاماة أصلا تعتبر في حد ذاتها مجالا للنضال العام لفائدة العدالة والمشروعية بحكم طبيعة وجودها ومهامها... فإن هذه الميزة تجعلها في المجتمع المغربي حاليا في باب الصدارة للدفاع عن تحديث الدولة المغربية وإرساء أسسها العصرية الثابتة كدولة تحكمها مؤسسات شرعية قائمة وسليمة ويتحكم في تصرفاتها وقراراتها سلطة الحق والقانون، ومن هنا يجب النظر إلى مهنة المحاماة كطليعة من طلائع المجتمع المدني المغربي الحديث...
وإن من الدارسين من يعمم هذه الصدارة التي يجب أن تتبوأها مهنة المحاماة على العالم العربي قاطبة لأسباب وجيهة قد تنطبق على جل البلاد العربية، يقول الدكتور سعد الدين ابراهيم بصدد حديثه عن النضال الديمقراطي وهو أستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ورئيس مركز ابن خلدون للدراسات التنموية، وكان أمينا عاماً سابقا لمنتدى الفكر العربي بعمان، «وضمن النقابات المهنية تأتي نقابات المحامين كرأس الحربة الأكثر صلابة والأصعب كسراً، وذلك لأسباب ثلاثة على الأقل: أولها أن مهنة المحاماة من أول المهن الحديثة ظهوراً في المجتمعات العربية منذ عصر النهضة الحديثة ونقابات المحامين هي أقدم وأرسخ النقابات المهنية، وبالتالي من أقدم وأرسخ منظمات المجتمع المدني على الإطلاق.
وثانيا لأن طبيعة التدريب لهذه المهنة وممارستها تجعل من الحق والعدل والحرية قيماً أصيلة يتم غرسها مبكراً في أبناء المهنة...
وثالثا، لأن معظم المشتغلين بهذه المهنة هم الأقل اعتماداً على الدولة وأكثر استقلالا عن الحكومة، ومن ثم، فإنهم يتمتعون بهامش نسبي أكبر من حرية التعبير والتنظيم والحركة (4)».
ومن خلال استقراء تاريخ مهنة المحاماة ببلادنا يتضح بالفعل أنها ساهمت في إغناء جذوة نضال المجتمع المدني بمختلف أشكاله ليس فقط بما أصدرت من توصيات وبيانات ودراسات في مختلف أنشطة جمعية هيئات المحامين، وهو معروف لدى الخاص والعام، بل قبل ذلك وبعده باعتبارها أي مهنة المحاماة مدرسة وطنية رائدة قدمت أطراً وقيادات تاريخية رائدة للحركة السياسية المغربية طبعت ببصماتها تاريخ المغرب الحديث ولازالت طلائع المحامين المغاربة في الصفوف الأولى لمختلف ساحات نضال المجتمع المدني بجميع أشكاله.
وإن هذه الخاصية في الواقع ليست إلا وفاء لرسالة المحاماة نفسها باعتبارها في العمق مجرد تركيز قيم القانون والمشروعية في المجتمع عبر مختلف المجالات، أي إن المحامي في واقعه الموضوعي والمهني شخص لا ينحاز إلا إلى جانب القانون مهما كان دفاعه صلباً، سواء لفائدة طرف خاص أو في نشاطه العام لفائدة المجتمع، فهو بذلك كائن قانوني بامتياز.... وداعية لا تكل لتطبيق القانون، ولكن هل يستقيم دور مهنة المحاماة بدون قضاء؟
يتبع
القضاء والمجتمع المدني
لقد حاولنا بإيجاز فيما سبق التطرق للمجتمع المدني حديثاً بإشكاليته الحالية ومهامه في المرحلة الراهنة على أن ذلك لا يعني أن المجتمع المدني المغربي في حد ذاته كنسق فكري هو وليد اليوم، ولا ملامح له في تاريخ الأمة المغربية... إن المجتمعات الحية لا تولد إلا في رحم التاريخ والمجتمع المغربي مجتمع له جذور عميقة في التاريخ.
وإن أهمية القضاء كسلطة بالنسبة للمغاربة قاطبة تجد تبريرها في تاريخهم. ولقد ثبت تاريخياً أن المغاربة الأقدمين بقبائلهم المختلفة كانوا يعطون للتحكيم فيما بينهم أهمية قصوى إلى حد جعلوا لتنصيب الحكم وهو سلطة قضائية شروطاً منها:
1 ألا يكون ذا عصبية قوية بألا يعتمد على أي دعم من طرف أية عشيرة، وبالتالي ألا يجابي أية قبيلة.
2 أن تكون موارده الاقتصادية محدودة ممنوحة من طرف الجماعة.
وبذلك تضمن القبائل قاضياً حكماً يصدر عن قوة معنوية وازنة دون امتلاك أي جبروت قبلي أو اقتصادي.
وإن إدريس الأول لم يكن في بداية الأمر إلا حكما نصبته القبائل المغربية لكونه يتوفر على الشروط الأساسية باعتباره غير ذي عصبية قبلية و لا قوة اقتصادية له بالإضافة إلى نسبه وعلمه، فكان حكما ثم أصبح مؤسسا لأول مملكة إسلامية مغربية مستقلة (5).
وإذا كانت بلادنا كما يقول المرحوم الأستاذ محمد زنيبر: «تنتمي إلى صنف خاص من البلدان التي تتميز بكون التاريخ مازال ينزل فيها بثقل كبير على الحاضر، بحيث أن هذا الحاضر مازال غير قادر على التحرر من الماضي...»(6)، فإنه يجب اعتبار ما يلعبه في ذاكرة الأمة الجماعية أن يكون أول ملك للدولة الإسلامية المغربية ليس إلا حكما نصبا من طرف القبائل للفصل فيما بينها وهيئته وحنته وحكمته ونزاهته في مهامه لتأسيس دولة مستقلة في ربوع المغرب.
إن ملاحظة المؤرخ الكبير الأستاذ زنيبر لا يجب حصرها في سياق حديثه عن مؤاخذة المجتمع المغربي بتمسكه ببعض العادات القديمة، بل يمكن توسيع الفكرة لتتسع إلى كثير من المظاهر المعنوية الإيجابية الضاربة بجذورها في تاريخ المجتمع، والتي وإن كان ظهورها بدأ يخفت شيئا فشيئا، فإنها ومع كل التغييرات الإيجابية والسلبية لازالت لم تمت بشكل نهائي... ولذلك فإنه إلى زمن قريب كان الناس عامتهم وخاصتهم حين يقدم لهم أحد الهيئة القضائية يحيونه باحترام مفسحين له المجال يقدمونه على أنفسهم باسم الفقيه بما يحمله النعت من إجلال وتقدير...
بل أكثر من ذلك يمكن القول بأن فكرة استقلال القضاء كسلطة عن غيره من السلط الأخرى ذات القوى والنفوذ وإن كانت أصبحت معطى دستوريا حديثا، فإن شروط القبائل المغربية قبل دولة الأدارسة تقدم حفرية تاريخية لجذور فكر استقلال القضاء حين تشترط فيه عدم الموالاة لأية عصبية قبلية وهي في ذلك الوقت سلطة وأية سلطة، بالإضافة إلى العفاف الاقتصادي بتولية الجماعة لتدبير شؤون معيشته، فهي بذلك سلطة متواضعة إلا أنها قوية بهذا التواضع الذي يجعلها تحكم الأقوياء ويرضون بالحكم.
وقد يقال أين يكمن الخلل الآن، فإذا كان تاريخنا يحمل بذرة نزاهة واستقلال القضاء، فإن قانوننا الحالي أيضا ينص صراحة على استقلال القضاء وسيادة القانون ومساواة الجميع أمام أحكامه.
نعم هو كذلك على الصعيد النظري وما يقع أحيانا في كتابة التاريخ هو الاكتفاء الى الاحتكام بما هو مكتوب في بيان أو تقرير أو حتى تشريع لكي تبنى عليه تحاليل فكرية واجتماعية لا تتعدى في الواقع سوى تركيب الكلام النظري على ما سطر نظريا دون النفاذ لجوهر الواقع الذي تحكمه قواعد أخرى هي مسكوت عنها في حينها ولكن لا يعمل في الغالب النافذ سوى بهذا المسكوت عنه.
نعم لنا حفريات في التاريخ تصلح أساسا صلبا لإصلاح القضاء ونعم كذلك بأن الدستور والقانون يقر باستقلال القضاء، إلا أن هناك قانونا مكتوبا وهناك ما يسميه الفقيه الاجتماعي الألماني أرليخ (Ehrlich)، بالقانون الحي، (7) المبلور لسلوك القوى الغالبة كنظام داخلي فعلي شبيه بما يسميه علماء الأنثروبولوجيا بنمط الثقافة.
ومعنى ذلك أن القانون المكتوب إذا تجاهل القانون الحي السائد كنمط ممارسة للقوى الغالبة، فإن الرجحان يقع دائما لصالح القانون الحي.
وإذا ما حاولنا مقاربة هذه الفكرة في تدبير شؤون القضاء في بلادنا، فإنه لا يجب إغفال أن المهمة الأولى الأساسية لدولة الاستقلال هي البسط الفعلي لسلطة الدولة من حيث التسيير والمراقبة والضبط بمفهوم الأمن الإداري تركيزا للسلطة الأولى في الدولة وهي السلطة الحكومية التنفيذية.. وإنه بقطع النظر عن المجادلة والاختلاف، فإن النظرة المسؤولة لرجال الدولة أيا كانوا بعيد مرحلة الاستعمار لابد من أن يولوا الأهمية القصوى لهذا الاختيار وإن كانت تختلف الأساليب حسب مفاهيم المسؤولين المنفذين لهذا الاختيار.
إذ أن الفراغ الذي تركه الاستعمار يجعل البلاد في غياب سلطة قوية قد تنزلق إلى صراع أو فوضى وهو ما جعل القانون الحي السائد هو تثبيت الأمن أولا وإظهار جوانب السلطة الرداعة بكل عنف وقوة.. فليس غريبا إذن ألا تقع أول التفاتة الى القضاء إلا سنة 1965 بالمغربة والتوحيد وهي السنة نفسها التي شهدت أحداث الدار البيضاء العنيفة المعربة عن غضب الشعب تجاه الحكومة القائمة... مما مكن من جديد من استمرارية اتجاه التحكم والضبط على اتجاه المشروعية والمؤسسات القانونية.
وهكذا وقع التعامل الواقعي مع القضاء في الإبان كما يقع التعامل مع الموظفين الإداريين باعتبار أن منطق الممارسة هو قانون نمط السلوك الحكومي الذي لا يعترف بالشرعية والسلطة إلا لنفسه، و هو ما يخول القول بأن الدولة في الحقيقة لا تنظر ولا تتصرف مع القضاء إلا كقطاع من الموظفين تحت هيمنتها لا يمتازون إلا بسلاليمهم الإدارية الخاصة ولا غير...
وبعد حصول التوافق الوطني بين ملك البلد وباقي ممثلي المجتمع المدني حول الوحدة الترابية بدأت الدولة تجدد شرعيتها بفتح أبواب التمثيل الشعبي بدءا 76 للجماعات وما تلاه من برلمان سنة 1977 أي أن الدولة ا نطلاقا من ظروف داخلية وتأثير خارجي عام تفتح المجال للمشاركة وبناء سلطة المنتخبين كسلطة ثانية للدولة لها مجالها واختصاصها... ومهما كان الأمر فإن القانون المكتوب لازال في احتدام مع قانون نمط السلوك السابق وصار الصراع مكشوفا فوقعت الانتخابات سليمة في بعض المواقع المحدودة ومغشوشة في مواقع أخرى ومتلبسة غامضة فيما بينهما، غير أن اتجاه الحداثة والعصرنة لم يتوقف وزخم المجتمع المدني بكل عناصره رغم الصدمات لم يؤسس ولازال يناضل.. فجاءت تجربة 84 ثم تجربة 92 فتقدم القانون المكتوب خطوات أخرى أكثر علانية وظهورا وأعطى للقضاء لأول مرة دورا يبينه كسلطة قضائية مستقلة ترأس لجنة مراقبة الانتخابات في كافة العمالات والأقاليم.. إلا أن سلوك النمط المخزني لم يمت وإنما تخندق بأسالب جديدة يتآمر في الخفاء ويغدق المال ويرشي الكبار والصغار...
لينتبه الجميع الى أن القضاء لازال لم يتمرس على عمله كسلطة قائمة تعلو معنويا كل السلط وتستقل عن قواها المادية والمعنية، وإن الاستثناءات المشهود لها في هذا الباب لا تلغي القاعدة وإنما تزكيها...
السلطة القضائية إصلاح أم تأسيس؟
إنه لا أحد ينكر ما هو باد للعيان من توسع كمي للقطاع القضائي من إحداث أصناف المحاكم الابتدائية والإستئنافية وتنصيب أخيرا المحاكم الإدارية الجهوية في كافة الجهات مع تمتيعها بامتياز التجهيز المناسب على خلع بقية المحاكم الأخرى التي تعيش فقرا مدقعا وإن كان ذلك بعشوائية غريبة إلى حد يتم بها إنشاء محكمة بمدينة ويجعل مكانها في مدينة أخرى غير التي تحمل اسمها...
إن شعور الدولة بتوسيع ونشر الأجهزة القضائية في البلاد ليس فقط من جراء الحاجة الداخلية لتنمية قطاع العدل وإنما أيضا بتأثير خارجي أصبح له وزن على مصداقية الدولة لدى الأوساط المالية الخارجية والمحافل الدولية، إنه أيضا يستجيب لقانون حي جديد مؤداه خلق واجهات شبه إشهارية مقبولة في السوق المالي والسياسي.
7.
الدولي جلبا للديون واستجداء لمساعدات خارجية وطمعا في الصيت الحسن لدى الكبار، على أن هذه المظاهر لا يمكن ان ينظر اليها باستصغار او احتقارل أنها في نهاية المطاف تؤكد ان التحديث للدولة وعصرنتها بمؤسسات قانونية ذات سلطات واضحة، انما اصبح مطلبا دوليا لا محيد عنه الآن لكل بلد يريد ان يلعب دوره ويحافظ على كيانه وينمي طموح أمنه في ان يكون لها مكان في عالم اليوم والمستقبل. يقول الاستاذ العروي، الداعية للحداثة والعقلنة في احد استجواباته الشاملة : »ان المنظمات الدولية تشترط دائما قبل المساعدة عملية ترشيد، وهذه في حد ذاتها تكتسح شيئا فشيئا كل المجال الاجتماعي، تبدأ بالسياسة المالية والتجهيزية ثم التعليمية ولابد ان تنتهي بالاصلاحات السياسية. ان الكثير من الناس يعارضون تدخل تلك المنظمات بدعوى الحفاظ على الاستقلال الوطني.. انا لا اشاطر هذا الموقف المناهض. تدخل المنظمات الدولية يفرض على الاقل عموم المنطق العقلاني، فالأمر بهذه النظرة الغائبة يلتقي في جوهره مع متطلبات المجتمع المدني في تأسيس سلطة قضائية مستقلة ونزيهة وليس فقط انشاء هياكل شكلية لها ذات مضمون نمط مخزني قديم.. اننا اليوم في ميدان القضاء علينا جميعا المطالبة بالتأسيس والاصلاح في نفس الوقت، التأسيس الذي يجعل حدا للتعامل مع السلطة القضائية بنمط قديم يعتبرهم مجرد موظفي العدلية تابعين لمراكز القوى في السلطة التنفيذية تسخر بعضهم لتفسد الباقي حتى تضمن طواعية المجموع.. انه لا معنى في مجتمع حي تواق الى التعايش الديمقراطي الا يكون للقضاة صوت ذي مصداقية يعبر عن المطامح وينتقد المفاسد ويرص الصفوف ويعبئ الصالح ضد الطالح.
أو ليس غريبا أن ينادي المجتمع المدني برقابة القضاء على سلامة الانتخابات، في حين ان انتخابات المجلس الاعلى للقضاء التي تهم الجهاز القضائي نفسه تمارس في مجملها بشكل مزيف لا يحترم فيها حتى ادني شرط انتخابي وهو سرية التصويت.. مما يجعل السادة القضاة الحقيقين وان كانوا يجارون الامر فانهم ينتحون بعيدا عن الاوحال المغشوشة ويضحكون عليها بمرارة وأسف.. كاتمين الغيض ترفعا واستكبارا او ليست هذه المهزلة دليل قاطع على ان ما اسميناه قانون النمط الفاسد او ماتسميه الادبيات السياسية المغربية «بالحزب السري» قد خرق جسم القضاة خرقا عميقا وجعله قضاء مفعولا به وليس سلطة قضائية فاعلة.
إنه لا يمكن تأسيس سلطة قضائية بالمعنى الصحيح إلا اذا تعاملت الدولة مع هذا الجهاز بمقتضى الدستور القانون المكتوب الذي سطره المشرع و قبله الشعب واجثت من جسم الدولة بما فيها القضاء عناصر النمط اللاتاريخي المعرقل للتغيير والعصرنة والعقلانية.
وإذا كانت الدولة لا يمكن أن تقبل شعار تأسيس السلطة القضائية بهذا الوضوح البين حتى لا تكون في حكم التي تنقض عزلها.. فإن شعار الاصلاح الذي اصبح مقبولا إلى درجة نسمع معها تصريحات حكومية تعلن فساد القضاء وتضع نسبا مائوية لهذا الفساد، وهو أمر بالغ الدقة الى حد يثير التفكه ان لم نقل السخرية، فإن على المجتمع المدني الضغط والالحاح على شعار الاصلاح نفسه ليتسع الى درجة تقارب التأسيس، ان لم يكن التأسيس ذاته، لأن الفساد والارتشاء في حد ذاته لا يمكن ان يخص به القضاء وحده، اذ انه اذا عشر السيد وزير العدل القضاء بأن حدد نسبة الفساد فيما لا يتعدى العشر الا بقليل، فلا نعرف لحد الآن كم سيحدد السيد وزير الداخلية في وزارته من نسبة الفساد وهكذا دواليك بالنسبة لباقي الوزراء!
إن محاسبة رجال القضاء عن الفساد في وضعهم الحالي لا يمكن أن ينظر اليه إلا كما ينظر الى كافة الموظفين والاطر عامة، ماداموا لا يعتبرون من طرف الدولة، إلا كذلك وهم في غالبيتهم كذلك.
وعلى كل حال، فإن الارتشاء و الفساد كما يقول الاستاذ روبرت كيتجارد استاذ الاقتصاد زائر في جامعة ناتال بجنوب افريقيا وكان سابقا استاذا بجامعة هارفارد في بحثه تحت عنوان: «استراتيجيات الاصلاح» «الفساد من الموضوعات المحيرة وهو موضوع أرهق العديد من مواطني الدول النامية، فلقد شاهدوا قادتهم وهم يدعون للاخلاق ثم لا يبدلون جهودا حقيقية في مواجهة الفساد.
لذا، فإن المطلوب من المسؤولين ليس تحديد نسب الفساد، إنما ماذا فعلوا حقا لتطويق الفساد ومحاربته ماداموا يعترفون بانفسهم بوجوده.
إن الفساد في الواقع كما اظهرت الفضائح المالية الأخيرة في اوربا والولايات المتحدة واليابان لايزال يضرب بعمق حتى الديمقراطيات العريقة.
وكما يقول الاستاذ مايكل جونتسون استاذ ورئيس قسم السياسة بجامعة كولجيت في هاميلتون بنيويورك وساهم مع اخرين في انجاز دليل الفساد السياسي سنة 1989 يقول: »ان عاجلا او آجلا سيجد المواطنون والباحثون المهتمون بقضايا الديمقراطية وتحقيقها على ارض الواقع انفسهم في مواجهة مشكلة الفساد.
والديمقراطية والفساد مفهومان متوازيان وهما يطرحان تساؤلات جوهرية حول مسؤولية الحكومة وحدودها، وكذلك حول شرعية النفوذ الخاص وحدوده في السياسة العامة.
نعم اننا في المغرب حاليا كمواطنين ومهتمين بقضايا الديمقراطية وتحقيقها على ارض الواقع في بلادنا نجد انفسنا محاصرين بمشكلة الفساد من كافة الاصناف، غير ان حكومتنا لحد الان لا تجرأ على الحرب ضد الفساد السياسي، لأن مثل هذه المبادرة من شأنها ان تقوي وتعزز القانون وتلغي غيره من الانماط، كما ان مثل هذه المبادرة تحمل في طياتها تنشيطا للمجتمع المدني الفاعل وتعطي تماسكا قويا للديمقراطية وهو ما لا يطمئن اليه المسؤولون حاليا خوفا من التغيير الذي قد يطيح بنفوذ بعضهم المفتعل و المبني على الفساد السياسي العام.
إن محاربة الفساد في القضاء وفي غيره من دواليب التسيير والتدبير العامة والخاصة لابد له من مدخل عام يجعل هذه المحاربة شاملة وجادة ونافعة وهو القبول المسبق بنتائجه التي لا محالة ستؤدي الى تفعيل المجتمع المدني وتجذر في الدولة والمجتمع البناء الدمقراطي السليم المبني على قواعد القانون المعلن وليس العمل بالمسكوت عنه في الخفاء أو حتى في العلن احيانا.
ومع كل ما سبق، لابد أن نقر بكل اعتزاز أن في إدارتنا عامة وقضائنا خاصة، اعمدة شامخة من العاملين الشرفاء الذين يصبحون ويمسون على نتء روائح الفساد ويغضون ابصارهم عن العورات الاخلاقية لغيرهم قانعين الى حد الزهد والنسك، فهم لبنة التأسيس وخميرة الاصلاح.
واذا كان بعض هؤلاء القضاة الشرفاء ممن ساعدهم الحظ فاصبحوا معروفين بحكم مسؤولياتهم وطول تجربتهم، فإن منهم ايضا من يئن يوميا تحت ثقل الفساد ويدمح مع غيره نكرة غير معروف، يحسب عليه ما يحسب على غيره، مع أنه منه براء.
الحاجة إلى الترشيد والشفافية في القضاء
1- الشفافية
لما بدأ تعميم القضاء الجماعي في المحاكم الابتدائية كما هو في الاستئناف،حصل أن سألت أحد السادة القضاة الجادين عن انطباعه حول التجربة الجديدة للقضاء... فكان جوابه من السخرية بمكان، حين ذكرني بتنكيت الزعيم سعد زغلول لما سئل عن الوحدة العربية فأجاب: «صفر زائد صفر صفر ما يعطي؟...».
إن الأمر فعلا ليس بهذا الفراغ المطلق ولكن لايخلو التنكيت من بعض الواقع المر.
اذ ان تفعيل القضاء الجماعي في نظري لايمكن ان يصل الى مداه في الوضع الحالي الا اذا اقترن بتعديل مسطري تشريعي يقر بفكرة الرأي المخالف في الاحكام المدنية عامة، ومؤدى هذا الرأي بكل تركيز ان الحكم الصادر عن هيئة مدنية،إما أن يصدر بإجماع القضاة فلا إشكال حيث تكون المسؤولية جماعية وإجماعية بشكل واضح، وإما أن يصدر هذا الحكم وهو مجرد رأي اغلبية القضاة وضمن الهيئة من يخالفه، فيحق لهذا الاتجاه المخالف ان يدون رأيه وتعليله ووجهة نظره القانونية المخالفة للحكم ويسمح له بإبدائها علانية او على الاقل تدوينها في ملف القضية على اختلاف نسبي بين التشريعات التي تقر بهذا الاتجاه.
واذا كان الفقه القانوني منقسم على نفسه ما بين المتحمس المناصر لإبداء الرأي المخالف في الاحكام مدعما موقفه بتعداد مزايا هذا الفقه وما بين المتشبث بوجوب الكتمان وعدم افشاء سرية المداولة، معللا ذلك بالمخاوف التي يفترضها في الاقرار بهذا الاتجاه.
فإن تفصيل المقال في هذا النقاش ليس هنا مجاله، وإنما يكفينا ان نقرر ان عدة بلدان مشهود لها بوزنها تأخذ بفكر الرأي المخالف وهي كل من : انجلترا، الولايات المتحدة الامريكية، اليابان، السويد، النرويج، استراليا، الهند، باكستان، تركيا، لبنان، الاردن ، سوريا ، العراق والسعودية.
وان ما يجعل العمل بهذا في بلادنا ليس فقط لاقتداء ببعض هذه البلدان ذات التاريخ العريق في استقلال القضاء ونزاهته، وانما ايضا لما تقتضيه متطلبات التأسيس والاصلاح القضائي من إيجاد منهج عملي وموضوعي نستطيع معه ان نفرز الغث من السمين ونستبين الصالح من الطالح، كما أن هذا المنهج كفيل بالدفع بالعمل القضائي الى الجدية والاتقان وفتح المنافسة الايجابية بين القضاة وجعل المداولة مداولة حقيقية لايسيطر الكم الضعيف، وانما يقودها العلم والتحليل الرصين والكفاءة المهنية..
ثم ان فسح المجال لإبداء الرأي المخالف حين يحصل موجبه يجعل ضمير المخالف مرتاحا ومسؤوليته واضحة، كما أنه امام الدارسين الرأي العام القانوني يعري اغلبية منحازة وغير نزيهة،مما يتيح رقابة المجتمع للمسؤولية يضفي على العمل القضائي شفافية واضحة تعري الضعف والفساد وتزكي العلم والنزاهة...
1- ترشيد القضاء
اذا كان القضاء سلطة اساسية وضرورية للمجتمع والدولة الديمقراطية،فلايمكن تصور المشروعية القانونية بدون وجود حكمه القانوني العادل،ليس بين الافراد والجماعات فيما بينها فقط ولكن حتى فيما بينها وبين سلطة الدولة وفيما بين اشخاص وسلطة الدولة نفسها، وان كان هذا المرمى هو الغاية التي يسعى الاصلاح الى تأسيسها فإنه لابد من إعادة النظر ضمن ما يجب إصلاحه في أمرين مستعجلين:
ا- طريقة الانتساب الى سلطة القضاء على الاقل من حيث سن القاضي، فلا يعقل في مجتمع كمجتمعنا الذي يخضع لعدة ضغوطات اقتصادية وبنيوية ان يفسح المجال امام شاب في مقتبل العمر وبعد تخرجه من الجامعة وفترة التكوين مباشرة لينصب قاضيا.
ان هذا الانتساب في الواقع لايمكن ان يسمح به الا لدى من يعتبر القضاة مجرد موظفين في أسلاك الدولة عليهم ان يكتسبوا التجربة والنضج في وظائفهم سلبا وإيجابا، غير ان اعتبار القضاء من أدناه الى أعلاه سلطة مستقلة تختلف عن باقي السلط يفترض الا تقع المجازفة والتهور في إسناد سلطة كبرى هي سلطة القضاء لمن لايفترض ان يعي دورها وقيمتها..
ان خصائص الاستقلال والاستقامة والنزاهة والتجرد والاتزان والتواضع عن غير ضعف والعلم بالقانون نصا وفقها وعملا والمعرفة بشؤون المجتمع واعرافه... والقناعة والتعفف عن الاغراء المادي والمعنوي... ان كل هذه الصفات والخصائص لاتولد مع الانسان في رحم أمه، وانما يكتسبها عن تجربة واختيار بعض نضج وممارسة تبيح للمرء اما اختيار هذه المعاني والمجاهدة اليومية لاكتسابها والالتزام بسلوكها، واما ان يختار ميدانا آخر كالمقاولة الصناعية والتجارية مثلا التي تحتاج الى أوصاف أخرى، غير ما ذكر مثل المغامرة وحب المال والجاه ودراسة السوق والاحساس بمواطن الربح السريع.
ومن هنا ينبغي الا تسند مهمة القاضي الا بعد أخذ حظ من التجربة العامة في عمل او مهنة ذات الصلة ويختار المرشح بعد سن الاربعين على الاقل أن ينهي حياته العملية بالقضاء عن اختيار صادق لما يقتضيه ذلك من الالتزام بما ذكر ويزكي اختياره الشخصي تزكية موضوعية من المهنة او العمل الذي سبق ان مارسه واحواله العامة بواسطة من هو أهل لذلك...
لقد دلت التجربة العملية أن السنوات الاولى لغالبية القضاة الشباب غالبا ما يتعلمون «الحلاقة في رأس اليتيم» كما يقول المثل الشعبي، هذا اذا خلصت النيات، فما بالك اذا عين شاب من أصل الدار البيضاء مثلا في مركزية ببادية سوس وهو مازال اعزبا، نيئا ويافعا وشغوفا بالحياة وهو لازال لم يذق طعم مادياتها يريد في نفس السنة الاولى من التوظيف ان يمتلك سيارة ويتزوج ويجهز دارا للسكن وغير ذلك من حاجيات الشاب المقبل على الحياة، وهو من حقه، ومع ذلك يقال له تنسك يا سيادة القاضي في مركز المحكمة ولاتنظر الى الحياة الا بمنظار النزاهة والقانون والعدل... يا له من منطق غريب ونفاق بين..
وحري بنا أن نفتح أعيننا على تجارب امم أخرى في هذا الإطار، وكفى من المنظار ذي الاتجاه الاوحد والوحيد الذي لايرى في الدنيا كلها الا تجربة وحيدة هي تجربة فرنسا ويعمى عن باقي الامم الاخرى...
2- ان ترشيد السلطة القضائية واصلاحها بما يضمن تأسيسها تأسيسيا سليما لابد فيه ايضا من إعادة النظر في رواتب القضاة وما يصرف لصالحهم... واذا كان هذا الشأن يناقش وهو مسلم ايا من الجميع، فإن النظر البعيد يقتضي حين يحترم ما ذكر فيما يتعلق بطريقة ولوج القضاء، ان يكون المرتب واحدا تتساوى فيه مختلف درجات القضاة، ذلك ان قيمة الحكم والجهد المعنوي المبذول فيه ووزنه بالنسبة للاطراف يعتبر واحدا، سواء فصل في العشرات من الدراهم او المئات او الآلاف والملايين.. ان القيمة المعيارية للعدالة واحدة ويجب ان يجازى من يصنعها نفس الجزاء... وألا يقع التفاوت فيما بين القضاة على ضوء هذا المنهج الا باعتبارات معنوية ومادية عينية تتعلق بمراكز المسؤولية ودرجات العلم والعمل وليس بالاقدمية الجوفاء احيانا كما هو الآن...
عود على بدء
ان خلاصة هذه المقاربة للموضوع لاتريد ان تستطرد في تقديم الوصفات التقنية حول تشوفات المجتمع المدني لمستقبل الاصلاح، لأن ذلك ليس من اختصاصها ولا يتناسب مع المقام ،خصوصا وان الحوار الشامل الذي تجريه مختلف الاطراف انما ينصب على المناهج والاسس وليس على الجزئيات كالتناوب الديمقراطي وعلاقة الكم بالكيف واسباب الازمة او التحولات...
على أن حمولات الاصلاح والتغيير بالنسبة للمجتمع المدني المغربي لها محطات يجب عدم إغفالها لربط الماضي القريب بالحاضر الآني الذي سيبلور وجه الغد المقبل...
ذلك ان ما يجب ابرازه بعجالة هو هذه الخصائص المميزة لتاريخ مجتمعنا المدني الحديث، الذي صنع للبلد عيدا خاصا له حمولته العالية في الدفع بفعالية التطوير والتحديث وهو ذكرى 1953/8/20 ذكرى ثورة الملك والشعب التي تعني ضمن معانيها الكبيرة تعاقد المجتمع المدني مع ملك البلاد من أجل استرجاع سيادة البلاد.
وان هذا التجسيد للتلاحم بين الطرفين الملك والشعب انما قدم له تأسيسيا بوثيقة اساسية من صنع نفس اطراف المجتمع المدني وملك البلاد رمز سيادتها الشرعية وهي وثيقة المطالبة بالاستقلال 1944/1/11.
وها نحن اليوم بين مد وجزر تشابكت المصالح وتطورت بعض المطالب ولم يكن دائما أقصر المسافات بين المطالب والاهداف هو الخط المستقيم، فللهندسة المجتمعية التاريخية التواءاتها ومنعرجاتها..
والمغرب بنفس الارتباط والتلاحم يستعد للتراضي والتوافق على التغيير في صلب الدستور في افق سنة 1996 كما أعلن جلالة الملك في ذكرى ثورة الملك والشعب سنة 1995 مما يطرح على المجتمع المدني قاطبة الدفع بهذه المبادرة الايجابية بكل وضوح وفعالية من اجل الاقلاع الديمقراطي السليم والشامل الذي لايمكن تصور نجاحه الا بإصلاح عام يضع حدا «للقانون» المدسوس ويعلي شأن القانون المشروع.
وفي صلب هذه المعادلة تبرز السلطة القضائية الناجعة كركن اساسي لهذا البناء الديمقراطي الطموح... وهو ما يلبي المتطلبات الملحة للمجتمع المدني المغربي اولا قبل ان يرضي البنك الدولي والمستثمر الاجنبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.