'دير لاين' و'بوريل' يؤكدان التزام الاتحاد الأوروبي بعلاقاته الوثيقة مع المغرب وتعزيزها انسجاما مع مبدأ 'العقد شريعة المتعاقدين'    وزير الشؤون الخارجية الإسباني يدافع عن الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب ويؤكد إرادة الحفاظ عليها    الخارجية المغربية ترد على قرار محكمة العدل الأوروبية بالغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    قرار محكمة العدل الأوروبية: فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    وزير خارجية إسبانيا يجدد دعم سيادة المغرب على صحرائه بعد قرار محكمة العدل الأوربية    ثلاثة مستشفيات في لبنان تعلن تعليق خدماتها جراء الغارات الإسرائيلية    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    مسؤول فرنسي: الرئيس ماكرون يزور المغرب لتقوية دعامات العلاقات الثنائية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    أساتذة الطب ينددون بحملة التشهير    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    المحامون يقاطعون جلسات الجنايات وصناديق المحاكم لأسبوعين    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    ابتدائية تطوان تصدر حكمها في حق مواطنة جزائرية حرضت على الهجرة    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    عشرات الوقفات الاحتجاجية بالمدن المغربية رفضا للتطبيع وتنديدا بالجرائم الصهيونية في فلسطين ولبنان    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو        فيلا رئيس الكاف السابق واستدعاء آيت منا .. مرافعات ساخنة في محاكمة الناصري    إيران: خامنئي يؤكد في خطبة الجمعة أن إسرائيل لن تنتصر قط على حزب الله وحماس    باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    وزارة الخارجية: المغرب يعتبر نفسه غير معني بتاتا بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    الجمع العادي للمنطقة الصناعية بطنجة برئاسة الشماع يصادق بالإجماع على تقريريه الأدبي والمالي.. وإشادة كبيرة بالعمل المنجز    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    الجماهير العسكرية تطالب إدارة النادي بإنهاء الخلاف مع الحاس بنعبيد وارجاعه للفريق الأول    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    محكمة أوروبية تصدم المغرب بقرار إلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    ارتفاع طفيف في أسعار النفط في ظل ترقب تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    آسفي: حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    محكمة العدل الأوروبية تصدر قرارا نهائيا بإلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري مع المغرب    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    وزير خارجية إيران يصل إلى مطار بيروت    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقف مدعو لفتح إنتاجه على مهام التغيير الاجتماعي
في سياق التأخر التاريخي للمجتمع المغربي
نشر في المساء يوم 03 - 12 - 2010

ليس الحديث عن موت أو خيانته جديدا، لقد سبق لميشيل فوكو في «الكلمات والأشياء» الحديث عن موت الإنسان، ضمن الميتات العديدة التي أثبثت الحداثة الغربية.
المثقف عموما، ككائن وكوظيفة، حديث جدا، يمكن قياس ميلاده بأكثر من قرن بعقدين أو ثلاثة لكنه في المعرب أكثر حداثة وجدة، لأن ميلاده مرتبط، في الغالب الأعم، بنوع من النزعة المحافظة التي تروم إعادة إنتاج نفس أنماط التفكير والوعي ووسائل التعبير عنها. ولعل الصورة التي ظلت تتأقطب المثقف، منذ تلك الفترة، هي صورة المثقف التقليدي التي انضافت إليها صورة المثقف الحداثي، لذا فإن الحديث عن موته سيظل مجرد حديث نظري، بالنظر إلى محدودية تأثيره في المجتمع وارتباطه، فعلا، بنوع من الثقافة العالمة، ثقافة النخبة، بشقيها العروبي والفرنكفوني. لقد تحدث فوكو في «موت الإنسان» عن غيابه كانمحاء لوجه منحوت على ساحل البحر سرعان ما يَصّاعد المد لكنسه.
لقد ارتبط «موت الإنسان» بتصورات أركيولوجية لإبيستيمات (epistimes) يتجاوز بعضها البعض، وقد يبدو الحديث عن موته بهذا الشكل بالنسبة إلينا من قبيل الترف الفكري والنظري، لكن الأمر هنا يتعلق بموته داخل المجال الاجتماعي والسياسي، أي الغياب الفعلي لحضوره النقدي الوازن إزاء الكثير من المشكلات والأزمات التي تستدعي أحيانا كثيرة، وبإلحاح، تدخله وتكثر من الطلب عليه، خصوصا أن المثقف في مجتمع مركب تتعايش داخله أنماط متناقضة من التفكير والسلوكات والقيم والعلاقات الاجتماعية، يكون دوما مطالَبا من طرف فئات اجتماعية متفاوتة في الوعي والفهم والمستوى، بالإدلاء برأيه والتدخل في حيز الصراع الاجتماعي والسياسي وعدم الاكتفاء بالإنتاج النظري وحده. إن الثقافة ليست مهنة ولكنها القدرة على النقد والتحليل والتوفر على القدرة على التغيير، وأولى مهام المثقف ودوره هو أن يؤدي وظيفته داخل المجتمع المدني، أما باقي التخصصات الفكرية والأكاديمية فتأتي بعد ذلك.
المثقف الموجه
إن المثقف في مجتمع يعاني التأخر التاريخي على جميع الأصعدة يكون مطروحا عليه أن يتقمص دور الموجه، وهو بالتالي يفتح الإنتاج الثقافي على مهام التغيير الاجتماعي.
سيظل هذا الدور مطروحا باستمرار ومفتوحا على إمكانياته في المغرب، منها أولا أن دور المثقف العضوي لم يستنفد نفسه بالنسبة إلى شرائح اجتماعية عديدة، وثانيا، أن الثقافة نفسَها، في ظل الجمود القاتل الذي يعيشه مجتمعنا، ما زال دورها وسياستها ضروريين، خصوصا بالنظر إلى النزوع المتزايد إلى المحافظة والانتشار الفادح للتيارات الظلامية، التي من شأنها تغليب النقل على العقل. أما ثالث هذه الاعتبارات فهو تدعيم المثقف العضوي، الذي يحاول إنتاج وعي الطبقة الاجتماعية التي ينتمي التعبير عنه، باعتباره المثقف الذي يمارس النقد، بمعناه الإبداعي الخلاق، أي كابتكار لأنماط سلوك وتفكير تنشد التغيير وتجاوز التأخر التاريخي والاستفادة بشكل فعال من مراحل التطور الإنساني. هناك إكراهات تلزم المثقف أخلاقيا (بالمعنى العلمي للأخلاق) بأن يستجيب للأسئلة التي تطرحها السياقات السياسية والتاريخية التي داخلها يوجد، وهي الإكراهات التي ترتبط أحيانا بأحداث وقضايا فردية وأحيانا بمجريات التاريخ، في إطار زمني، محدد. لقد كان هناك المثقف الفقيه، بالمعنى التقليدي المحافظ، والذي لبس جبة «المناضل» إبان الحركة الوطنية، من أجل الاستقلال، الذي تطور هو نفسه وتقمص صورة المثقف الإصلاحي، الذي قادت مواقفه الملتبسة إلى ظهور المثقف النقدي الثوري عند نهاية الستينيات، في صورته اليسارية الماركسية، الذي أحدث نوعا من القطيعة مع الصور السابقة على مستوى تصوره للنضال وللمواقف السياسية، وعلى مستوى شكل تدخله النظري والسياسي ومحتواه ونمط التعبير عنه.
المثقف الإيديولوجي
إن غياب المثقف، بالمعنى الذي تحدثنا عنه آنفا، معناه ظهور المثقف الإيديولوجي، الذي يمارس التفكير بطريقة ديماغوجية وينتج وعيا زائفا قد يؤثر إلى حين في الحشود العطشى لسماع أو قراءة نصوصه الحماسية، لكنه سرعان ما يترك خلفه حقلا من الألغام والأنقاض. لقد سبق لأنطونيو غرامشي، المفكر السياسي الماركسي الإيطالي الذي قضى في سجون إيطاليا الفاشية حوالي 11 سنة، أن كتب في كتابه «دفاتر السجن» أن «كل الناس مثقفون، وبناء عليه يمكن المرء أن يقول ويكتب، لكن كل الناس لا يمارسون وظيفة المثقفين داخل المجتمع. إنّ كل هم المثقف العضوي الذي يمارس مهمته النقدية هو بناء حركة اجتماعية مدعومة بتشكيلة ثقافية كاملة، وإنجاز الترابط الوثيق بين الحركتين، إن المثقف العضوي، من منظور غرامشي، هو كل مثقف ملتزم بقضايا الطبقة أو الفئة والشريحة الاجتماعية التي إليها ينتمي، في ارتباط فعال معها، تتفاوت مستويات هذا الارتباط ومحتواه وطبيعته من إعادة إنتاج السائد والمهيمن ثقافيا وسياسيا، إلى محاولة إحداث القطيعة معه وتجاوزه وتغييره. وتدخل كل الصور التي أشرنا إليها آنفا عن المثقفين عندنا في المغرب في هذا السياق، بعضها يكتفي بإعادة إنتاج السائد من الخطابات المحنَّطة، والبعض الآخر حلم بطوبى التعيير، عبر المجابهة الإيديولوجية والثقافية والسياسية مع الدولة وتأدية الثمن غالبا في السجون، قبل أن ينتهي كل شيء إلى مجرد رماد لا تاريخ له.
يرى المرحوم عبد الكبير الخطيبي أن المثقف، سواء كان محافظا، إصلاحيا أو مجددا، مندور للدفاع عن حقيقة خطيرة بالنسبة إليه وبالنسبة إلى الأفكار التي تلقاها عبر المحاكاة. إن المثقف، من وجهة نظره، ملاحظ يحلل ويموضع نفسه داخل حوار نقدي وسجالي، إذا كان ذلك ضروريا، مع الأصدقاء والخصوم الذين يقبلون هذه الحقيقة الخطيرة أو يرفضونها، أن يكون المرء مثقفا إذن، هو أن يمتلك هذه الحقيقة الخطيرة أو يعتقد امتلاكها، حقيقة التطور الدائم لتأكيد البعد الحضاري للمجتمع. هذا بالذات ما يبرر اشتغاله، تضحيته، شغفه بالمعرفة، تبنيه مشروعا إنسانيا، دفاعه عن حرية الرأي والتفكير، وطرحه بشكل دائم للقضايا التي يراها ملخة وضرورية. امتدت الفترة التي كان فيها المثقف المغربي ملتزما بالكثير من القضايا الهامة، كمسألة التحرر الوطني، بناء الدولة الديمقراطية الوطني، دمقرطة الدولة والمجتمع، قضية المواطنة المساواة، والعدالة الاجتماعية، بناء ثقافة وطنية تحررية.. (امتدت) هذه الفترة تقريبا من أواسط ستينيات القرن الماضي إلى نهاية ثمانيناته. وقد اتسمت هذه الفترة بعدم مهادنة المثقفين وبولوجهم، علانية، حيِّز الصراع الإيديولوجي والسياسي والثقافي، سواء عبر ارتباطهم بأحزاب سياسية (نموذج الجابري وبنجلون مع الاتحاد الاشتراكي، وعزيز بلال مع التقدم والاشتراكية،) أو عبر ارتباطهم بالهوية والحقوق الثقافية عبر دسترة اللغة الأمازيغية، مثلا) أو من خلال تأسيس تنظيمات يسارية سرية، وهو ما انسحب على العدد الأكبر منهم ضمن الحركة الماركسية اللينيية، التي عرفت بروز العديد من الكتاب والمفكرين والمحللين، وشهدت الكثير من السجالات والنقاشات الفكرية والنظرية. وتكفي هنا الإشارة إلى عبد اللطيف اللعبي وعبد القادر الشاوي وغيرهما ممن أغنت كتاباتهم محتوى الناقد عبد الحميد عقار و«الثقافة الجديدة» وغيرهما. لقد حاول هؤلاء تحرير الفكر والمتخيل، في مجالات الإيديلوجيا والعلوم الإنسانية وتجاوز النزعة الإصلاحية الدينية، للإسهام في بناء مشروع مجتمع حديث ومتقدم. كان لهؤلاء دور أساس، كما يرى الخطيبي، صاحب فكرة النقد المزدوج في إعادة قراءة وتشكيل خصوصياتنا في الثقافة اللغة والتاريخ والمجتمع وإعادة صياغة المساهمة السياسية والتطور الاقتصادي. فكر أغلب هؤلاء المثقفين حينها انطلاقا من عقدة تناقضات تاريخية جعلت التدخل (intervention) في الحقل النظري والأدبي بالنسبة إليهم تدخلا في الحقل الاجتماعي والسياسي. كان الهم مرتبطا بوظيفة المثقف كحامل للوعي ودوره الأساس في تنوير الفئات والطبقات الاجتماعية بقضاياها وشؤونها ورهاناتها الحاسمة، حتى تلعب دورها كاملا في مهمة التغيير، وكان الهم أيضا منصبّا على خلق قنوات لإضفاء بعد جماهيري على الشأن الثقافي، حتى لا يظل شأنا نخبويا بامتياز.
هل مات المثقف ؟
ما الذي استجد، إذن، حتى يتم الحديث عن «موت المثقف» في بلادنا؟ ينبغي القول، بدءا، إن الرهانات والتحديات اختلفت الآن ولم تعد منحصرة في ما هو إيوديلوجي وسياسي محض ينبغي أن تكون الثقافة تابعة له. أصبحت الرهانات التي أصبحت الأنمرتبطة بالمثقف النوعي (specifique) بدل المثقف المذهبي والمثقف العضوي اللذين كان دورهما أساسيا ومازال مطروحا في بعض الجوانب، خصوصا مع حدة الصراع الإيديولوجي التي برزت الآن بين النزعات النكوصية المحافظة والنزاعات الحداثية. من الضروري، إذن، الاستمرار في تقييم الوضع الاعتباري لكل مثقف على حدة والنظر بشكل نقدي في إسهاماته. لقد أصبحت الرهانات على المثقف في عصر العولمة مغايرة ولم تعد التيارات القومية أو العروبية أو الوطنية ولا العالمثالثية ولا الإسلامية المنثورة كافية لإضاءتنا وتوجيهنا من أجل تحديد وضعنا المتغير داخل العالم. الآن هناك في المغرب، وبصدد المثقفين وأدوارهم بالذات، نوع من الالتباس الكبير، هناك انسحاب تام من القضايا الكبرى وغياب شبه فاجع للمثقف الذي يمارس دوره النقدي بنزاهة ووضوح. لن نتحدث عن عبد الله العروي في كتابيه الأخيرين «السنة والإصلاح» و«من ديوان السياسة»، فهما هامان على أكثر من صعيد، يتضمنان إضاءات وتخيلات ترتبط بواقعنا في الكثير من مجالاته، ولكنهما يظلان موجهين لمثقفين في نهاية المطاف، أي لأشخاص يستطيعون فهم محتواهما ومناقشة وقراءة ما بين السطور. يبدو الأمر، إلى حد الآن، عاديا بالنظر إلى أن غياب المثقف أو «موته»، الكائن أو المفترض، وهو أيضا غياب وموت لقنوات التواصل الاجتماعي والسياسي، موت للطبقة الوسطى، التي غالبا ما ارتبطت بها شريحة المثقفين، إيديولوجيا وسياسيا، وموت للأخلاق الثقافية العلمية وموت للثقافة النقدية التحررية، صاحبة الركض السريع خلف المناصب في الدوائر المخزنية. والتبرير المجاني الانتهازي لكل التغييرات حتى للأسوأ منها، ويبدو المثقف في المغرب، أو ما تبقى منه على الأقل، كما لو كان مورطا في اختيارات لا تتعلق بحسه النقدي العقلاني، بل برغبات وغرائز وأحاسيس تدعوه حتما وبشكل من الأشكال إلى ركوب الموجة /الموجات، والبحث عن مكان لائق تحت الشمس، والحد ما أمكن من سقف الطموحات التحريرية والنقدية، بدعوى الواقعية والبراغماتية، أما النادرون من المثقفين النزهاء فقد لاذوا بصمتهم...
لقد تخلى الكثيرون عن «سلطتهم الأخلاقية»، لصالح نزوعات نفعية مهمتها دغدغة العواطف والأحاسيس الجماعية، عبر إنتاج خطابات عاطفية وإيديولوجية مهادنة، خصوصا في زمن الثورة الإعلامية في شقها العربي، التي تحول معها مجرد الصراخ إلى تحليل سياسي، وحلت الابتسامات الصفراء والتعبيرات اللطيفة المخادعة محل النقد الجريء والنزيه. هل ماتت القضايا الكبرى في مجتمعنا المغربي، ليتم الحديث عن «موت المثقف»؟ ليس من قبيل جلد الذات، أبدا، ولا من قبيل التيئيس المجاني القول إننا في المغرب مجتمع يعيش العديد من أنماط الحجز والموانع والإعاقات. ما زالت هناك في المغرب قضايا ومشكلات عويصة، يظل مطروحا على المثقف الإدلاء برأيه فيها والقيام بتحليلها، مثلا مشكلة التفاوتات الطبقية الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، مشكلة التنمية الثقافية والبشرية، القضايا المرتبطة بحرية التعبير والتفكير والوعي، مسألة الديمقراطية، مسألة المواطنة الكاملة التي تمنح الفرد المواطن حرية الاختيار، مسألة التعليم الذي يُعتبَر واقعُه في مجتمعنا كارثيا وعظيم الخطر بالنسبة إلى الأجيال القادمة. مشكلة التفاوتات بين البوادي والمدن، والهوامش والمراكز.. وغير ذلك من القضايا والمشكلات، ومن ضمنها أيضا التعصب الديني والنزعة الظلامية التي تقصي الاختلاف في الرأي. أمام هذه القضايا، يكون مطروحا على المثقف المغربي الاستمرار في التدخل سياسيا وفكريا، لتحقيق نوع من الفهم والطرح الواضحين لها، وتحديدا مآلياتها، دون ادعاء ولا حذلقة، ووضع نوع من التراتبية المقبولة إلى حد ما بينها، انطلاقا من وجهة نظر توافقية وتفاوضية، وإلا تفجرت معارك الآراء وحروب التأويلات. إن المغرب، بقضاياه وإعاقته الكثيرة، ما زال مطروحا كأفق للمساءلة والتفكير والنقد، ليس ضمن المنظور الإيديولوجي والدعائي الفج، بل ضمن منظور التحليل العقلاني والفعالية الحضارية والفكر الحر والتطور.
أي مجتمع مدني؟
هناك في المغرب، الآن، الحديث عن واقع موجود هو المجتمع المدني الذي يتصدى للكثير من القضايا والمشكلات، لكن هل يستقيم «مجتمع مدني» ما، بدون مثقفين وبدون الأدوار التي يجب أن يقوموا بها داخله؟ يفرض وجود مجتمع مدني فعال على المثقف الانخراط بشكل عملي، حتى لا نتحدث بالضرورة عن الالتزام بمعناه الإيديولوجي والسياسي وإيجاد موقعه داخل المجتمع. لقد انتهت العزلة اللوجستيكية للمثقف، بلغة الخطيبي، خصوصا في ظل التعالقات والتواشجات بين ما هو ثقافي معرفي وسياسي واجتماعي، وفي ظل الانتشار المتسارع لمجتمع التواصل والمعرفة. وهنا، من الضروري القول إن الكثير من القضايا لا تفرض اتخاذ المواقف بدون وعي نقدي مزدوج، أي نقد الذات الفردية ونقد الذات الجماعية، نقد التقليدانية النكوصية المفرطة ونقد النزعة الاغترابية التي تتخذ كثيرا من الأحيان طابعا استشراقيا. إن غياب النقد الفعال و غياب السجال النقدي هو غياب العقلانية في المواقف النظرية والسياسية وغياب القبول بالاختلاق والاعتراف بالآخر وغياب النزاهة الأخلاقية التي تُلزِم المثقف بأن يكون نزيها، أولا تجاه نفسه وفكره، قبل أن يكون كذلك إزاء الآخرين. فإلى أين يسير المغرب ثقافيا، إذن؟ لقد تغيرت الرهانات والتحديات، ولعل القضايا الكبرى المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والتطور الثقافي والحرية الفردية والجماعية، مسألة الثروة الوطنية والديمقراطية والمواطنة الحقة واحترام كرامة الإنسان وإنسانيته واحترام حرية التعبير.. كلها تعتبر من التحديات التي ما زالت مطروحة على المثقفين، المشكلة هي أن صورة المثقف لدينا كثيرا ما ارتبطت بالأستاذ الجامعي والأكاديمي المتخصص، والذي ينشغل أكثر بإنجاز أبحاث، بغية الترقي الوظيفي، بعدما كانت مرتبطة بالمثقف التقليدي، المحافظ الذي يمثله «الفقيه» و«العالم»، وهي الهيمنة التي تكرست أكثر بعد انسحاب الكثير من المثقفين اليساريين من الساحة. إن هؤلاء الموظفين من محترفي التنظير الفكري قد يكون دورهم في مؤسسات البحث والجامعات ضروريا، لكن تأثيرهم في المجتمع غالبا ما يكون منعدما، وهي إحدى التفسيرات التي تفسر هذا الغياب أو القطيعة الكلية بين المثقف المغربي وقضاياه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.