أغلب المراقبين الأجانب في المغرب اكتشفوا مع الأموي معنى جديد المفهوم الإضراب العام. في بلدانهم عندما تنادي النقابات للإضراب العام فإن الحركة تشل في جميع قطاعات البلد. أما في المغرب فيمكن أن تنادي أقدم نقابة إلى الإضراب العام ومع ذلك تشتغل القطارات وحافلات النقل العمومي وتفتح الأسواق الممتازة والمطاعم أبوابها، وكأن الأمر يتعلق بيوم عطلة كسائر أيام الله. عندما نتأمل قليلا بعض الجمل في الخطبة التي ألقاها الأموي في الجماهير التي حملته على الأكتاف كأي منتصر عاد لتوه من الجبهة، نفهم عمق المثل المغربي الذي يقول «المندبة كبيرة والميت فار». فقد سأل الأموي «شعبه» قائلا «واش شي مقدم ولا شيخ ولا قايد جا عندكم وكال ليكم خدمو»، فيجيبه الشعب «لا». فيسري الحماس في عروق الأموي ويقول «الآن يحق للمغرب بأن يفاخر بأنه وصل إلى مصاف الدول الديمقراطية، والحقوق التي كانت مصادرة عادت وكرست في «المغرب الأخضر» بقيادة جلالة الملك». هكذا يختزل الأموي نصره العظيم في هذا الإضراب العام في مجرد نجاحه في جعل السلطة تقف على الحياد وعدم إجبارها للناس على تكسير الإضراب بالعمل. يا له من انتصار تاريخي عظيم. عبد القادر الزاير، نائب الأموي في الكونفدرالية، قال أن اللافت في هذا الإضراب هو أن التجار شاركوا بكثافة، وهو الأمر الذي عاد بذاكرته إلى الثمانينات وجعله يتأكد من أن التجار هم الحلفاء الأساسيون للطبقة العاملة في المغرب. ونسي الزاير أن التجار أغلقوا حوانيتهم لأن الذاكرة عادت بهم هم أيضا إلى الثمانينات، وتذكروا تحديدا لعلعة الرصاص الذي أمر إدريس البصري بإطلاقه على المتظاهرين، وعندما سقطوا في الشوارع سماهم «شهداء الكوميرة». ولذلك فظل التجار إغلاق حوانيتهم بعد أن باع بعضهم الكومير بكميات كبيرة حتى ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء الماضي للمواطنين الخائفين من جوع مفاجئ. ويبدو أن الرابح الوحيد من وراء هذا الإضراب العام هو وزير المالية، لأنه سيقتطع ما يفوق خمسين مليار سنتيم من رواتب المضربين عن العمل. بعد أن أثار خشيشن في مجلس حكومي أمام عباس إشكالية كونه الوحيد الذي يطبق قانون الاقتطاع من أجور رجال التعليم المضربين. وطالب في إطار «التضامن الحكومي» بأن تطبق الاقتطاع كل الوزارات. خصوصا وأن الإضراب حسب مزوار لا يعني سوى التغيب عن العمل بشكل غير قانوني. وهذا المبلغ المحترم الذي جمعه مول الشكارة من رواتب المضربين عن العمل قد يفيد الحكومة في تمويل الحوار الاجتماعي الذي يطالب به هؤلاء المضربون، عملا بالحكمة التي تقول «فزيتو قليه». ولعل أحد المطالب الأساسية التي تنادي يها النقابات وترفض الحكومة الاستجابة لها هو مطلب الزيادة في الأجور لجميع الموظفين تحت يافطة «اقتسام الثروات»، وهو الشعار الذي كان يرفعه حزب عباس الفاسي في السابق تحت تسمية أخرى هي «التعادلية». فالمقترح الذي قدمته حكومة عباس والذي ستشرع في تطبيقه ابتداء من الشهر المقبل لا يطبق قاعدة المساواة وإنما حكمة «زيد الشحمة فظهر المعلوف». فالموظفون الصغار والمتوسطون الذين يشكلون الأغلبية تقترح عليهم الحكومة زيادة لا تتعدى 188 درهما في رواتبهم، مقسمة على سنتين، بحيث أنهم سيتقاضون 94 درهما الشهر المقبل و94 درهما السنة المقبلة . فيما موظفو السلالم عشرة والحادي عشر سيتقاضون زيادة تتراوح بين 500 و800 درهم. أما بالنسبة للمدراء المركزيين في المؤسسات العمومية والكتاب العامين في الوزارات فهؤلاء تقترح عليه الحكومة زيادة تصل إلى أربعة آلاف درهم. والحكاية وما فيها أنه ليست هناك زيادة ولا هم يحزنون، هناك فقط تخفيض من الضريبة على الدخل. وكما هو معروف فالموظفون الذين يقبضون رواتب مرتفعة يؤدون ضريبة مرتفعة على الدخل لخزينة بنسودة، مدير مديرية الضرائب، وزير المالية الفعلي للمملكة. أما الموظفون القابعون في السلالم المتوسطة فمنهم من يؤدي ضريبة بسيطة على الدخل ومنهم من لا «تحق» عليه أصلا. ولذلك فعندما تقرر الحكومة تخفيض الضريبة على الدخل، يستفيد الكبار فقط ويوفرون ما بين ثلاثة وأربعة آلاف درهم للموظف في رواتبهم كل نهاية شهر. وأكبر المستفيدين من هذه الزيادة هم المدراء الذين يشتغلون في الوزارات، وأولهم مدراء الوزارة الأولى والكتاب العامون الذين سيرون رواتبهم تسمن فجأة. مع أنهم لم يضربوا عن العمل ولم يناضلوا في أية مركزية نقابية. فهذا هو المغرب «شي يحطب وشي يسخن عليها». وفي الوقت الذي يغرق عباس الفاسي ووزيره في المالية في «حساب البيض» مع المركزيات النقابية، وفي عز الحديث عن أزمة الشغل والبطالة، نفاجأ بأخبار تتحدث عن استعداد شركات دولية للرحيل من المغرب بعد أن اكتشفت أن الوعود التي أسمعهم إياها جطو الوزير الأول السابق في آخر زيارة له إلى فرنسا حول وفرة اليد العاملة في المغرب، لم تكن سوى كلام معسول. الشركات الأجنبية التي تقدم خدمات في المغرب في إطار ما يسمى OFFSHORING تحتاج إلى حوالي ثلاثة آلاف مهندس في السنة، فيما المغرب لا يستطيع توفير أكثر من ألف وستمائة مهندس. أغلبهم بمجرد ما يتسلمون شهادة تخرجهم حتى يصطفون أمام قنصليات كندا وأمريكا لوضع طلبات الهجرة. وحتى ثمار المشروع الطموح الذي أطلقه جطو قبل ذهابه، والذي سيمكن المغرب من تخريج عشرة آلاف مهندس، لن تنضج إلا بعد ثلاث سنوات. أي عندما ستكون هذه الشركات قد جمعت حقائبها وذهبت لكي تبحث في تونس ودول أوربا الشرقية حيث المهندسون كثر ومكونون بشكل أحسن ويقبلون بالعمل بأسعار تنافسية. وليس «مخطط الخدمات عن بعد» وحده المهدد بالإفلاس، وإنما حتى «المخطط الأزرق» الذي تريد به الدولة جعل السياحة قاطرة لجر اقتصاد المملكة. وفي الوقت الذي تقف الحكومة مكتوفة الأيدي أمام مطالب الأطر العليا المعطلة تقف محطة السعيدية السياحية مكتوفة الأيدي بسبب افتقارها إلى 1.500 إطار سياحي قبل بداية الصيف، أما محطة «مازاغان» السياحية فتحتاج بشكل مستعجل إلى 800 إطار سياحي. وبعد كل هذه السنوات من تكوين الطلبة في المعاهد السياحية سينتبه القائمون على هذا المجال إلى أن أكثر من أربعين بالمائة من خريجي هذه المعاهد السياحية يفضلون التوجه للعمل في البنوك عوض الفنادق والمؤسسات السياحية. ومنهم من يهاجر إلى إسبانيا للعمل في فنادقها ومؤسساتها السياحية، حيث شروط العمل أكثر إنسانية. والسبب واضح، إنهم يبحثون عن راتب يعادل المجهود الذي يقومون به، لا إلى «باطرون» يمص دمائهم طيلة اليوم ويشغلهم كمتدربين إلى الأبد ويصرف لهم في آخر الشهر ألفا وخمسمائة درهم. هذا دون أن نتحدث عن التحرشات الجنسية التي تتعرض لها الراغبات في العمل في بعض المؤسسات السياحية. هذا هو المغرب، هناك من يقوم بالإضراب وهناك من يجني ثماره. وهناك من يشكو من البطالة وهناك من يشكو من قلة اليد العاملة. والسبب الرئيسي في كل هذه التناقضات هو أن الذين يضعون المخططات لا يضعونها على أساس علمي مدروس، وإنما يضعونها وهم يقولون في أنفسهم «تقدر تصدق تقدر ماتصدقش». يحكى أن أحد الديكتاتوريين الأفارقة لمعت في ذهنه فكرة اقتناء كرسي كهربائي لبلده الذي يعاني من الفقر والمجاعة لكي ينفذ حكم الإعدام في معارضيه على الطريقة الأمريكية. فأمر باقتناء الكرسي الكهربائي من أمريكا. وعندما وصل الكرسي طلب الديكتاتور تجريبه أمامه في أحد معارضيه. وعندما أجلسوا المعتقل فوق الكرسي ساد صمت مخيف. وعندما طال الصمت انتفض الديكتاتور وسأل أحد جنرالاته عن عدم تنفيذ حكم الإعدام، فهمس له الجنرال في أذنه : - الكرسي خصو الضو باش يخدم...