مبدئيا، هناك في المغرب اليوم أكثر من داع إلى خوض إضراب وطني عام، فقرار نقابي بخوض هذا الإضراب مبرر اجتماعيا بشرط استناده إلى حد أدنى من الوضوح في الفكرة والشعار والعقلانية في التنظيم والإعداد، إذ إن أوضاع الأجراء وعموم الجماهير ترزح تحت الثقل المتصاعد للزيادات في أسعار المواد الأساسية، وغالبية الأسر، في المدن كما في البوادي، لا تستطيع تأمين متطلبات العيش في حدودها الدنيا، وآلة التهميش والتشريد تطحن أبناء شعبنا وتدفع بهم إلى اليأس، والحديث عن الأوراش الكبرى لا يقابله شعور بتحسن ملموس للأوضاع بالنسبة إلى أوسع الفئات من المغاربة. والتعبئة الأمنية، التي أعقبت إعلان الكنفدرالية الديمقراطية للشغل عن قرار خوض إضراب عام، تترجم إحساس المسؤولين بحجم المعضلة الاجتماعية. لا شك أن النشطاء النقابيين يدركون ألا مصلحة لديهم في حصول انفلات أمني أو حوادث دامية، ولكن الأجهزة الأمنية تدرك أن القطاعات المهمشة قد تستغل مناسبة الإضراب لإسماع صوتها، بطريقتها الخاصة، لأن الشروط الموضوعية لنمو هذه القطاعات واتساعها مازالت قائمة، والآفاق لم تنفتح قط لبعث الأمل وزرع الثقة في إمكان الخروج من النفق.. ولقد كانت الكنفدرالية أول مركزية نقابية، دشنت تقليد الإضراب الوطني العام في المغرب المستقل، حتى إن هذا النوع من الإضراب ارتبط باسمها ومهرته بأسلوبها الخاص وشحنته بمضمون احتجاج اجتماعي وسياسي شامل وقوي، علما بأن مسلسل الإضرابات العامة للكنفدرالية، انطلق في 1979 بإضراب وطني تضامني مع الفلسطينيين في ذكرى يوم الأرض. ثم تعاقبت الإضرابات الوطنية، وكان أشهرها إضراب 1981، وإضراب 1990 الذي تم بالتعاون مع الاتحاد العام للشغالين بالمغرب. وبعد ذلك تمت إضرابات أخرى أو أعلن عنها ثم أجلت، ولكنها على العموم، وبحكم السياق السياسي الذي وقعت فيه، لم تخلف أثرا قويا ولا أذكت جذوة نقاش عام حقيقي. أما الإضراب الذي جرى يوم 21 ماي 2008، فلقد كان مثار تعليقات مختلفة ولاحقته سياط النقد وطرح سيلا من الأسئلة والاستفهامات. وربما يكون من المفيد أن نتوقف عند بعض الملاحظات المستخلصة من الحدث: 1- إضراب 21 ماي كان قرارا مفاجئا، فلقد جاء في خضم ما يشبه التوافق على تفادي أشكال التعبير الاجتماعي التي يمثل الإضراب العام أحدها. قبل الإضراب المذكور دخلت قيادة الكنفدرالية في منطق يوحي باستبعاد خيار الإضراب العام بصورة نهائية، إلى أن حصل ما حصل، وجاء القرار بدون أن تسبقه مقدمات تسمح للرأي العام بإدخاله في دائرة الاحتمالات. ولهذا تصور الكثيرون أن القرار لن يُنفذ، وأنه سيُعلق في آخر لحظة. وبحكم التأجيلات التي كانت تطال في السابق قرارات من هذا النوع، كان من الصعب على البعض أن يتصور أن «ك.د.ش» ستمضي إلى النهاية. ولم يستطع عدد من الملاحظين أن يأخذوا قضية الإضراب العام مأخذ الجد، بحكم بعض السوابق والعجز عن فهم التحول الطارئ في الخط الكنفدرالي. في الماضي، كانت المعارك النقابية الكبرى تُخاض لتأسيس الحوار الاجتماعي والتسليم بشرعية الأداة النقابية وحقها في الوجود، لأن الدولة كانت تعتبر أن تمتيع النقابات بحق التواجد كمخاطب وطني مسؤول سيقوي هذه الأخيرة وسيضعف هيبة الدولة. أما اليوم، فلقد صار من اللازم أن تؤسس المعارك على شعارات مطلبية واضحة. لم يعد من السهل أن نقنع الناس بجدوى حركة نضالية تستند إلى شعارات عامة فقط ليس لها مضمون محدد. ولهذا أجهد البعض نفسه في البحث عن الشعار الدقيق المؤطر لإضراب 21 ماي، ولما تعذر العثور عليه، وفاته إدراك سر القرار المصاحب والقاضي بالانسحاب من مجلس المستشارين، ولم يتبين له مصدر القوة «الاحتياطية» التي يفترض أن تعبأ لدعم القرارين، فإنه اعتبر أن الأمر في نهاية المطاف لن يتخطى الحديث عن الإضراب إلى حقل تفعيله على الأرض. 2- إضراب 21 ماي جاء في ظل ظرفية تتسم بتراجع فعالية وتأثير الهياكل النقابية عموما، وانحسار دائرة نفوذ وإشعاع عدد من المركزيات، وبلقنة المشهد النقابي، وغياب المواكبة النقابية لعدد من أحداث المجتمع، وتقلص الأدوار التي لعبتها النقابات في الماضي، ومن ثمة خطورة التحدي الذي كان على الكنفدرالية أن تواجهه وهي تعلن عن قرار الإضراب العام. 3- إضراب 21 ماي أعقب إضرابا وطنيا بقطاع الوظيفة العمومية خاضته في 13 ماي 2008 أربع مركزيات هي: الاتحاد المغربي للشغل والمنظمة الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الوطني للشغل، ولم تشارك فيه الكنفدرالية واعتبرت نفسها غير معنية به، مما زاد في تعقيد ظروف تنفيذ الإضراب الكنفدرالي الذي اعتبرت المركزيات المذكورة أنها أيضا غير معنية به رغم تشابه الشعارات المرفوعة بمناسبة الإضرابين. إن خوض معركتين بهذا الحجم، يفصل بينهما أسبوع فقط، يطرح مشكل غياب التنسيق والتعاون بين المركزيات رغم نضج الشروط. فهل كانت القيادة الكنفدرالية تريد أن تؤكد أن الانشقاق المزدوج الذي تعرضت له لم يضعفها، وأنها قادرة لوحدها على خوض المعارك وأن بإمكانها أن تسترجع عافيتها وقوتها ومضاءها، وأن تسترد كل ما ضاع منها بمجرد صرخة من رمزها تهز أركان البلاد وتحول المستحيل إلى ممكن؟ 4- إضراب 21 ماي تم بدون تعبئة إعلامية منهجية ومنظمة بسبب افتقار الداعين إلى الإضراب إلى علاقة عضوية مع جريدة يومية، وبالتالي فإن أية جريدة من الجرائد الواسعة الانتشار لم تتبن قرار الإضراب، وأيا من المنظمات المهنية الأخرى لم تعلن مساندتها للإضراب، خاصة أنها لم تُستشر ولم يطلب منها التعاون. لقد انطلق القادة الكنفدراليون من ثقة كبيرة في النفس واعتبروا عمليا أنهم في غنى عن مساندة هذه الجهة أو تلك. وحده تجمع اليسار الديمقراطي أعلن دعمه للإضراب الكنفدرالي وكذلك فعلت تنسيقية مناهضة ارتفاع الأسعار بالدارالبيضاء. لم تضع الكنفدرالية إذن خطة مرتبة لجلب الدعم لقرار الإضراب والتشاور مع الفرقاء السياسيين والنقابيين. 5- إضراب 21 ماي عرف، في المرحلة السابقة عن موعده، انتشار إشاعة تقول بالدخول المرتقب لجماعة العدل والإحسان على الخط، وبأن المفاجأة التي يحضرها الأموي هي الاستعانة بأنصار الجماعة وأطرها لتنفيذ الإضراب في جو «قومة كبرى» تعوض بها الجماعة فشل قومة 2006. هذه الإشاعة افتقرت منذ البداية إلى الأسس التي تجعل الفرضية ممكنة. فالجماعة في حالة جزر بسبب القمع الذي أنهك الكثير من قدراتها، وليس لها جناح نقابي عمالي قوي، وامتداداتها محدودة في البنية التنظيمية للمركزيات النقابية، وسيكون عليها في حالة القرار بالتدخل في الإضراب أن تبحث عن صيغ عملية جديدة لم تألفها، فالجماعة تعودت أن ترسل أعضاءها إلى نقطة تجمع كبرى، والأجهزة الأمنية هيأت بلا شك سيناريوهات إفشال خطة إغراق التجمعات الكنفدرالية بأنصار الجماعة وتحويلها إلى تظاهرات متحركة، خاصة أن الجماعة تفادت حتى الآن الاصطدام مع القوات العمومية، أما تعبئة الشباب في الأحياء الشعبية لإشعال فتيل التظاهرات المتفرقة التي تنطلق في وقت واحد لتنضم بعد ذلك إلى بعضها، فهي تمرين لم تجربه الجماعة بشكل جدي، وليس لديها حاليا فكرة عن مضاعفاته. 6- إضراب 21 ماي لم يعرف أحداثا أو اضطرابات أمنية، وهذه ليست أول مرة يمر فيها إضراب وطني بدون حوادث، لكنه أول إضراب وطني أثير حوله الكثير من التخوفات الأمنية، وفتح شهية وضع الاحتمالات الدرامية، وصاحبته إشاعات قوية بحصول اصطدامات وحوادث شغب، وجرى في ظل مظاهر بارزة لاحتقان اجتماعي، ومع ذلك مر الإضراب في جو هادئ. ويمكن تفسير ذلك بتعدد مناسبات التنفيس في مغرب اليوم، وهجر الدولة لأسلوب التدخل بالقوة المادية لمحاولة إفشال الإضراب مما يخلق أرضية صالحة لزرع بذور القلاقل والمواجهات. الدولة كانت ترى في الإضراب العام منازعة في شرعيتها وليس مجرد احتجاج اجتماعي مكفول قانونيا. 7- إضراب 21 ماي عرف تضاربا مثيرا في الأرقام ما بين الحكومة وقيادة الكنفدرالية. فمن العادي أن تقدم السلطة الحكومية نسبا للمشاركة أقل مما تقدمه النقابة، لكن أن يصل الفارق بينهما إلى الحد الذي ظهر به، فذلك يؤشر إلى وجود استخفاف بالرأي العام في هذه الجهة أو تلك. فما معنى أن تتحدث الكنفدرالية عن نسبة مشاركة في الإضراب صباحا تتراوح بين 65 % و75 % وما بين 80 % و100 %، حسب نائب الأمين العام، وتقدم بمدينة الرباط التي عرفت «إضرابا باردا» حسب الصحافة الأرقام التالية: التعليم العالي 70 % –التخطيط 70 % –الإذاعة والتلفزة 75% –بريد المغرب 96 %- الجماعات المحلية 95 %- وزارة المالية 60 %- الشبيبة والرياضة 59% – وزارة النقل 60 % - الطاقة والمعادن 75 % – القطاع الخاص 98 %، بينما تتحدث الحكومة عن نسبة مشاركة لم تتجاوز 2.3 % صباحا، وتورد الأرقام التالية مثلا: الصحة 22.28 % - العدل 9.61 % - المالية 49 % - الفلاحة 19 % - الجماعات المحلية 32 % - الصيد البحري 1 % - الإسكان 13 % - الصناعة التقليدية 11 % - الشبيبة والرياضة 3.8 % - الطاقة والمعادن 4.8 % - التشغيل 15 % - تحديث القطاعات العامة 0% - التنمية الاجتماعية 20 % - الأوقاف 0% - الشؤون الخارجية 0 %... إلخ. لا يمكن إذن بسهولة الاطمئنان إلى صدقية الأرقام المقدمة، ففي جانب الحكومة قد يعمد بعض المسؤولين الحكوميين إلى محاولة إظهار القطاعات التابعة لهم بمظهر القطاعات الأقل استجابة لنداء الإضراب، ويعتبرون أن ذلك يخدم صورتهم، وفي جانب المركزية النقابية، ليست هناك آليات عصرية ومتقدمة لإنجاز الإحصاءات الميدانية، فهناك تقديرات عامة يصعب الاعتداد بها علميا. ومع ذلك سيكون من غير المنصف أن تعتمد نسب المشاركة المسجلة بالقطاعات غير الخاضعة أصلا للتأطير الكنفدرالي كدليل على فشل المركزية في تحقيق أهدافها. هل نجح الإضراب العام إذن أم فشل؟ إن الجواب ربما يرتبط بزاوية النظر إلى الأمر. فإذا اعتمدنا مؤشر «الإضراب الإنتاجي»، فيحق لنا أن نعتبر أن قوة حضور الإضراب ظهرت في الدارالبيضاء باعتبارها القلب النابض للاقتصاد الوطني، بما أنها قد أثرت تأثيرا بالغا على الحركية الاقتصادية، وإن لم تصل إلى تعطيلها بالكامل، فهذا معناه أن دعوة الإضراب العام في النهاية قد حققت جزءا أساسيا من مفعولها. وإذا اعتمدنا على مفهوم «الإضراب المعنوي»، وهو ما يجري به العمل عادة في المغرب بحكم ضعف التجذر النقابي، فإن نجاح الإضراب العام مقرون بمدى الرجة السياسية التي خلفها، وتأثيره على المشهد العام وحركة الناس وأنشطتهم العامة، وبعبارة أخرى: هل كان يوم الإضراب يوما عاديا أم غير عاد؟ - هناك من يعتبر أن يوم الإضراب يكون يوما عاديا إذا لم تحصل حوادث أو اضطرابات أمنية، وهذا يسجن الإضراب العام في مرجعية 1981 و1990. - وهناك من يعتبر أن يوم الإضراب يكون عاديا إذا لم ينتبه الناس إليه وأسقطوه كليا من حسابهم. وبهذا المعنى فإن يوم 21 ماي لم يكن يوما عاديا. لقد أحس الناس، سواء الذين أضربوا أو الذين لم يضربوا، بأن شيئا ما مختلفا عما يحدث في باقي الأيام يحدث أمامهم، وأنهم معنيون بتداعياته. لقد بادر المواطنون في كل أرجاء المغرب إلى تكييف برنامجهم مع حالة الإضراب العام فخفضوا حجم نشاطهم وحاولوا الاحتياط لكل الطوارئ وقلصوا تحركاتهم. 8- إضراب 21 ماي شهد بروز ظاهرة «الإضراب خوفا من الإضراب»، أي بمعنى آخر لجوء البعض إلى المشاركة في الإضراب خوفا من أن تقع صدامات بين المضربين وغير المضربين، أو أن تتعرض مصالحه لمكروه. فنقابة التجار لم تقرر المشاركة في الإضراب رسميا، ومع ذلك عمد العديد من التجار، وخاصة في الصباح، إلى إغلاق محلاتهم في عدد من المناطق وخاصة بالدارالبيضاء. إذ إن الإضراب العام في نظر عدد كبير من العامة مرادف لأعمال الشغب والفوضى أو لانتفاضة الفقراء والمهمشين في الشارع العام، وأن الصورة الصباحية الأولى المتداولة عن الإضراب العام تتمثل في الشوارع المقفرة والمحلات التجارية المغلقة، بالرغم من أن إضراب 21 ماي هو مبدئيا إضراب للأجراء يهم الموظفين والعمال فقط. 9- إضراب 21 ماي تميز بنسبة مشاركة أكبر في المناطق التي شهدت في الماضي حوادث دامية، وهي الدارالبيضاء وفاس. وهذا يعني أن ذاكرة المدينتين مازالت تحتفظ بأثر ما وقع في الإضرابين العامين ل1981 و1990، وأن هناك تخوفا من تكرار السيناريو الدموي الذي آل إليه الإضرابان المذكوران. ولهذا كان هناك حرص على تفادي أي تطور سيئ للأحداث. حسب مسؤول نقابي كنفدرالي، تراوحت نسبة المشاركة بفاس ما بين 90 و95 %، وهذا يؤدي إلى مراكمة تقاليد قد تحول بعض المدن المغربية إلى مدن للإضراب العام بامتياز.