منذ فترة طويلة بدأ البعض يطالب بتقنين حق الإضراب وبالأخص من طرف أرباب العمل. وهو ما نتج عنه فتح نقاش بين الأطراف الثلاثة الحكومة وأرباب العمل والنقابات. كما أن الحكومة سبق لها أن هيأت بعض مشاريع قوانين لتقنين حق الاضراب خلال مراحل مختلفة سابقة لم تحظ بقبول النقابات، وبالتالي لم تتم مناقشتها. غير أننا لاحظنا في المراحل الأخيرة أن البعض أخذ لأسباب ودوافع تدخل في سياق الهجوم على حقوق ومكتسبات الطبقة العاملة وبالأخص منها ضرب حق الانتماء النقابي والمس بحق الإضراب والتهرب من تطبيق قانون الشغل ومن تطبيق قانون صندوق الضمان الاجتماعي، حيث تم تحويل النقاش عن تنظيم حق الإضراب الى اتجاه خاطئ، مما خلف نوعا من الغموض لدى البعض، وأعطى صورة بأن ممارسة حق الإضراب في المغرب تكتسي طابعا من الفوضى تضر المقاولة والاقتصاد الوطني، رغم أن حق الإضراب ظلت تمارسه الطبقة العاملة دفاعا عن حقوقها، ولتحقيق مطالبها منذ عهد الاستعمار الفرنسي الذي كان يعتبر أن هذا الحق مسموحا به فقط للعمال الفرنسيين دون المغاربة. إلا أن تمكنت الطبقة العاملة بعد صراع طويل، أن تفرض ذلك على أرض الواقع بعد تضحيات كبيرة، كما تمكنت من توفير العديد من الحقوق و المكتسبات والتي لولاها لكانت أوضاعها جد سيئة، ولم يكن حق الإضراب منصوص عليه في قانون الشغل باستثناء ما كان ينص عليه ظهير 19 يناير 1946 حول المصالحة والتحكيم. ورغم ذلك، ظلت الطبقة العاملة تمارس هذا الحق، إلى أن تم إقراره والتنصيص عليه في دستور 1962 في فصله الرابع عشر، وخلال هذه الفترة الطويلة تم تكريس عدة قواعد لممارسة هذا الحق على الصعيد الوطني في القطاعين العام والخاص، وهي لا تختلف عن القواعد التي يمارس بها هذا الحق في باقي الدول، ومن الأسباب التي جعلت البعض ينساق مع النظرة الخاطئة لممارسة حق الإضراب في المغرب، كون الكثيرين لا يعرفون الكيفية التي يمارس بها حق الإضراب على أرض الواقع بنفس مستوى معرفة النقابات ومديري المؤسسات والإدارات العمومية ومفتشي الشغل. ويتمثل الإضراب في التوقف الجماعي للمأجورين عن العمل، الى أن كيفية ممارسته تختلف من ظرفية الى أخرى، وحسب طبيعة القطاع فهناك الإضراب الإنذاري الذي يتم خوضه لمدة يوم واحد أو عدة أيام خارج المقاولة، حيث لا يأتي العمال الى المقاولة، وقد يتحول الى إضراب مستمر الى أن تتم الاستجابة الى مطالب العمال. وهناك الإضراب الانذاري المحدد المدة داخل المقاولة والمعروف بالإضراب الدائري، حيث يتم خوض الإضراب لمدة ساعة أو ساعتين وقد يكون أكثر أو أقل داخل أماكن العمل في يوم واحد، وقد يتكرر في كل فوج إذا كان العمل بالمقاولة يتم حسب الأفواج، ويمكن أن يتحول الى إضراب مستمر الى أن يتم التوصل الى الاتفاق. وهذا النوع من الإضراب لا يمكن أن يمارس إلا داخل المقاولة، لأن الفترة الزمنية لا تسمح للعمال بالخروج من العمل، كما أن المصلحة تقتضي أن يظل العمال داخل المقاولة، لأن خروجهم منها قد تكون له بعض السلبيات، وخاصة إذا كانت الشوارع المجاورة للمقاولة ضيقة، مما قد يتسبب في عرقلة حركة المرور أو احتكاك مع ممثلي السلطات المحلية. وهناك الإضراب المصحوب بالاعتصام، كأن يتواجد العمال داخل المقاولة أو أمامها، إذا ما لاحظوا أن إدارة المقاولة تقوم بتشغيل عمال جدد، أو بإخراج الآلات أو إخراج المواد غير المصنعة قصد تصنيعها في مقاولات أخرى. وهناك الإضراب المفاجئ الذي يتم إذا ما أقدم المشغل على الطرد الجماعي للعمال، وهو ما يحدث في كثير من الأحيان عندما يلتحق العمال بالنقابة، أو إذا ما قام بأي إجراء يشكل خطرا على العمال، حيث تلجأ النقابات مضطرة الى خوض هذا النوع من الإضراب والذي قد يؤدي الى إيجاد حل للنزاع وقد يتحول الى إضراب مستمر. أما بالنسبة للقطاع العام، عادة ما يتم الإضراب خارج أماكن العمل لمدة يوم واحد أو عدة أيام. وفي الغالب لا يأتي الموظفون الى العمل لأنه ليست هناك دواعي لذلك. ونفس الشيء يتم بالنسبة للإضراب العام الذي يتم خوضه على الصعيد الوطني، وفي بعض الحالات يتم اللجوء الى الاعتصام أو تنظيم وقوف جماعي أمام باب إدارة القطاع المعني، قصد الاحتجاج على عدم فتح الحوار أو عدم تلبية المطالب، حيث يتم الإعلان عن ذلك من طرف النقابة المعنية. وقبل الدخول في الإضراب يتم القيام بعدة إجراءات من طرف النقابات، حيث يتم الاتصال بالجهات المعنية قصد حثها على فتح الحوار وتلبية المطالب. وإذا فشلت هذه التدابير والمساعي، يتم اللجوء الى الجهات المسؤولة قصد مطالبتها بتنظيم جلسات للحوار، بهدف إيجاد حل للنزاع القائم وتلبية المطالب. وحول الأسباب التي تؤدي الى خوض الإضرابات في القطاع الخاص، فحسب ما تعرفه العلاقات المهنية الآن، نجد أن جلها يتم من أجل تطبيق قانون الشغل، وقانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، واحترام حق الانتماء النقابي، وإذا ما تمت إزالة هذه الأسباب فسيتم معها إزالة هذه الإضرابات. وستبقي فقط الإضرابات العادية التي يتم خوضها من أجل تحسين أوضاع العمال الاجتماعية، أي ما يدخل في إطار الاتفاقيات الجماعية وهي غير كثيرة. غير أنه يمكن أن تحدث بعض النزاعات التي تقع بسبب تحول احتكاكات العلاقات المهنية الى توتر والتي يمكن التغلب عليها بسهولة. وبالنسبة للقطاع العام عرفنا في السنوات الماضية عددا كبيرا من الإضرابات حول مطالب الفئات من تقنيين ومتصرفين وأطباء ومهندسين. وسبب ذلك يعود الى سوء تدبير هذا الملف والى التأخر في معالجته، مما تطلب وقتا طويلا في إيجاد حلول له، والذي لازال لحد الآن لم يطو بشكل نهائي. كما عرفنا عددا كبيرا من الاضرابات في قطاع الجماعات المحلية، ويعود ذلك الى الاوضاع الاجتماعية السيئة التي يعاني منها موظفو هذا القطاع، نظرا لتراكم القضايا التي كان يتطلب إيجاد الحلول لها في المراحل السابقة رغم أن هذا القطاع عرف مجهودات كبيرة إلا أنها لم تكن كافية، كما عرفنا عدة إضرابات حول المطالب القطاعية من طرف النقابات القطاعية بسبب عدم تلبية الملفات المطلبية القطاعية وعدم اعتماد الحوار الجاد بشكل دائم ومستمر. كما عرفنا عدة إضرابات واحتجاجات قامت بها المركزيات النقابية حول تحسين الأوضاع الاجتماعية لكافة المأجورين وتلبية المطالبة واحتجاجا على الزيادة في الأسعار كما عرفنا إضرابات بقطاع النقل بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية احتجاجا على مدونة السير، لكن رغم كل ذلك، فإن النقابات لها إرادة قوية في البحث عن الحلول الممكنة. وفيما يتعلق بعمل الحد الأدنى بهدف عدم إتلاف الآلات التي لايمكن توقيفها بشكل مفاجىء بحكم طبيعتها أو عدم إفساد المواد الاولية التي تتعرض للضياع في حالة التوقيف المفاجىء، حيث تقوم النقابات بتنسيق مع المشغلين بتحديد العمال الذين يستمرون في العمل خلال فترة الاضراب. ونفس الشيء بالنسبة لقطاع الصحة، حيث يتم تحديد الأطباء والممرضين الذين يستمرون في العمل خلال فترة الإضراب، خلافا لما يدعيه البعض لأسباب خاصة بأن النقابات لا يأخذون بعين الاعتبار هذه الحالة. وحول وجهة النظر المطروحة من طرف بعض أرباب العمل، منها من تقول بأن الاضراب يجب أن يمارس خارج المقاولة، مثل ما كان يقال بأن ممارسة حق الانتماء النقابي يجب ان يتم خارج المقاولة قبل أن يتم التنصيص عليها في مدونة الشغل، وهو أمر غير ممكن خاصة بالنسبة للإضراب القصير المدة، الذي لايتجاوز الساعة أو الساعتين، كما أن المصلحة تقتضي أن يبقى العمال داخل المقاولة وخاصة إذا كان عددهم كبيرا، فتتصور كيف يمكن ذلك إذا كان الشارع المجاور للمقاولة ضيقا على سبيل المثال، وبالنسبة لما يقال حول الاعتصام، بأن وجود العمال داخل المقاولة أثناء الإضراب يعد احتلال لملك المغير، وهو رأي خاطىء، لأن العمال يقومون بذلك مضطرين، كما أشرنا الى ذلك سابقا، وبأن علاقاتهم بالمقاولة من الناحية القانونية واضحة، كما أن هذا الأسلوب من التأويل والتهويل يساهم في توتير العلاقات المهنية، إذ يستوجب التعامل مع الاضرابات ومع نزاعات الشغل، بأنهما أمران طبيعيان وعاديان، يمكن حدوثهما في أي وقت وحين، إذا ما يتم العمل عن إزالة الأسباب التي تؤدي الى حدوثها مع العلم أن عدد الإضرابات في القطاع الخاص ظل باستمرار ضعيفا اللهم ما يقع من تهويله وتضخيمه لأسباب معروفة، وقد عرف تراجعا كبيرا في المراحل الأخيرة رغم وجود الأسباب التي تؤدي الى تكاثرها. كما أن عدد الإضرابات في القطاع العام عرف تراجعا خلال الفترة الأخيرة وإن كانت اسبابها لازالت قائمة. إن التحدي المطروح على الحكومة حاليا هو أن تعمل على توفير الأجواء لخلق علاقات مهنية واجتماعية سليمة، وأن تحث أرباب العمل على ذلك، مما سيؤدي الى تقليص عدد الإضرابات، وهو أمر ممكن وفي المتناول، إذا ما توفرت الإرادة الصادقة لدى الجميع. وكما أشرنا إليه سابقا بأن حق الإضراب بالمغرب أصبح منظما منذ مدة طويلة من خلال الأعراف والتقاليد التي يتم اعتمادها من طرف النقابات وأرباب العمل والحكومة، ولو مع عدم وجود قانون مكتوب ينظمه، مع العلم أن فرنسا على سبيل المثال لايوجد بها قانون لتنظيم الإضراب بالقطاع الخاص. غير أنه إذا كان من الضروري إخراج قانون تقنين حق الإضراب الى حيز الوجود، فيتطلب التوافق عليه بين الحكومة وأرباب العمل والمركزيات النقابية، لأن القانون الاجتماعي بطبيعته يبنى على قاعدة التوافق، كما يتطلب اعتماد ما تم تكريسه من أعراف وتقاليد على أرض الواقع كقاعدة لممارسة حق الإضراب ويتطلب توفير آليات لتطبيق قانون الشغل، وتطبيق قانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، واحترام حق الانتماء النقابي حتى لايضطر النقابات اللجوء الى الإضراب في هذه الحالات، هذا بالنسبة للقطاع الخاص. أما بالنسبة للقطاع العام، يجب احترام النظام الأساسي للوظيفة العمومية ومراجعته بالتوافق، واعتماد الحوار البناء على كافة المستويات محليا وجهويا وقطاعيا ومركزيا، واستثمار ما تم تحقيقه من تراكمات إيجابية وتوافقات ومنها التصريح المشترك لفاتح غشت 1996 واتفاق 23 أبريل 2000 واتفاق 30 مارس 2003، والتوافق على مدونة الشغل على أن يتم العمل على تطبيق مقتضياتها وما تم تحقيقه من خطوات حول الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والتغطية والصحية على أن يتوج ذلك بالاستجابة للمطالب المقدمة من طرف المركزيات النقابية وأن يتم التوقيع على اتفاق جديد بين الحكومة الحالية والنقابات وأرباب العمل، يعزز ويوضح ما تم تحقيقه خلال المراحل الماضية ويحدد الخطوط العامة لما يتطلب به في المراحل المقبلة، وهو ما يشكل منعطفا جديدا في العلاقات بين الأطراف الثلاثة.