بدأت الدارالبيضاء صباحها يوم السبت 20 يونيو 1981 بهدوء شبيه بذاك الذي يسبق العاصفة، المدينة المكتظة المزدحمة دؤوبة الحركة، وأصبحت كما لو كانت مدينة شبح: المعامل خالية من العمال، المتاجر مغلقة، ووسائل النقل العمومي توقفت عن التجول في شوارع المدينة. ليس هذا عيد فطر ولا عيد أضحى، بل هو يوم الإضراب. الدعوة إلى هذا الإضراب جاءت من نقابة «فتية» هي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والهدف إجبار الدولة على إلغاء الزيادات في أسعار المواد الأساسية التي أعلن عنها رسميا يوم 28 ماي من نفس السنة. وسكون الدارالبيضاء، المدينة التي تضم الجزء الأكبر من «الطبقة العاملة» بالمملكة، قد يعني شيئا واحدا: نجاح الإضراب. وهذا النجاح بدوره ستتم قراءته بطريقة عكسية، أي كفشل لأجهزة الدولة وإدارتها الترابية، والتي قد تكون جازفت بطمأنة سلطاتها العليا بتحكمها في زمام الأمور، وأخبرتها بأنها وحدها من يملك زمام الشارع، وأن قوة أخرى لا تستطيع منع دواليب المملكة من دورانها المعتاد. فكيف يعقل أن جولات المقدمين والشيوخ ليلة الإضراب لتوزيع الأوامر ب «العمل» بجد يوم الإضراب، لم تثمر شيئا؟ وكيف يعقل أن التجار الصغار والمتوسطين استجابوا لدعوة العمال بشل حركة البلاد؟ وكيف أن عسكرة المدينة عشية الإضراب ونشر الآلاف من رجال مختلف الأجهزة الأمنية لم يقنع المضربين بالعدول عن الفكرة؟ فمع أولى التحركات الاحتجاجية، أخرجت القوات العمومية آلتها القمعية، رافعة حالة التأهب كما لو كانت في حرب. هذا القمع سرعان ما كان له مفعول عكسي، فبدل بث الرهبة والخوف في نفوس الساكنة، أثار غضبهم وأشعل فتيل مواجهات وأعمال عنف وتخريب. بالمقابل، ومنذ صباح اليوم الأول للإضراب، كانت مقرات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل محاصرة ومحتلة من قبل رجال الأمن، وقيادة النقابة في حالة اعتقال، على رأسهم الكاتب العام نوبير الأموي، الذي تم استدعاؤه إلى مكتب عامل المدينة، ليحتجز هناك. والتجمعات الخطابية التقليدية في مثل هذه المناسبات محظورة. ذات السيناريو عم باقي مدن المملكة، تأهب أمني واستنفار لقوات القمع، ثم محاصرة للمكاتب الجهوية للكونفدرالية واعتقال للمسؤولين المحليين. وخلال كل ذلك، كان لدى القوات المنتشرة أمر بإطلاق الرصاص الحي في حال اندلاع المواجهات. وكانت قمة التوتر بالعاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء، التي عاشت حالة طوارئ إلى غاية 23 يونيو، تخللتها جرائم ومذابح ضد المدنيين. الحصيلة الحقيقية والدقيقة لما جرى ظلت في علم الغيب، فلجنة تقصي الحقائق التي طالبت المعارضة الاتحادية بإنشائها تم رفضها، بدعوى أن الدستور لا يخول للبرلمان ذلك، رغم أن لجنة تقصي الحقائق في قضية امتحانات الباكالوريا لم تكن ببعيدة، ووسائل المراقبة الدولية والرصد الإعلامي تم تحييدها ومنعها من تغطية الأحداث، بدءا من صحافة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الصحافة الدولية، وأعمال هيئة الإنصاف والمصالحة لم تشمل التحقيق في مثل هذه الأحداث وجرد لوائح الضحايا والبحث في حقيقة المقابر الجماعية. من كانوا في خندق المعارضة آنذاك، يقولون إن أكثر من 600 مغربي قتل إلى غاية ظهيرة يوم الأحد 21 يونيو 1981، ضمنهم عدد كبير من الأطفال. رقم أيده أحد المحامين الفرنسيين (مينيار) الذي كلفته الجمعية الدولية لحقوق الإنسان بالتحقيق في الموضوع، مدققا أن عدد القتلى هو 637 ضحية، بالإضافة إلى قرابة خمسة آلاف جريح وعشرين ألف موقوف، ألفان منهم سيحالون على القضاء، نالوا أحكاما بلغت عشر سنوات سجنا. وفي الشق السياسي، كان من بين المعتقلين مائتان وأربعة وثمانون من أعضاء وقيادتي كل من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ضمنهم اثنا عشر من أعضاء اللجنة الإدارية الوطنية للاتحاد، وخمسة أعضاء للمكتب التنفيذي للكونفدرالية، وثلاثة وعشرون مسؤولا وطنيا... الثورة في رحم الإضراب «هل الإضراب معناه أنه هو المظهر الوحيد الذي يمكن أن نعبر به عن تذمرنا؟ وهل الإضراب معناه أنه يجب أن يشمل جميع قطاعات الدولة دفعة واحدة؟ هل مفهوم الإضراب أن الدولة في جهة والمضربين في جهة؟ لا أظن ذلك، أظن شخصيا أن القانون الأساسي للإضراب هو أولا الحوار، فإذا لم تحصل نتيجة عن الحوار يقع الإنذار...»، يقول الملك الراحل الحسن الثاني. لذلك لم يكن مقتنعا بوجود أسباب «كافية» لإعلان الإضراب العام. لكن المغرب في أعين من قرروا شل الحركة الاقتصادية في ذلك اليوم الدموي، كان بلد الأزمة الاقتصادية المستفحلة والفوارق الطبقية، وكان برأيهم من الواجب الجلوس إلى طاولة المفاوضات إن أرادت الدولة الحفاظ على التوازن الاجتماعي. وفي وثيقة للمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول أحداث 1981، يعتبر الحزب أن الكنفدرالية تمكنت من إرغام النظام على الدخول في حوار حول المطالب الاجتماعية والعمالية. أول فصول ذلك الحوار جرت شهر فبراير 1979، أي مباشرة بعد تأسيس المركزية النقابية الجديدة. حوار رافقته حملة اعتقالات في صفوف القادة النقابيين. لترفع الكنفدرالية شهر مارس من السنة نفسها، مذكرة إلى الوزير الأول ضمنتها مطالبها الأساسية: احترام الحريات النقابية تطبيق السلم المتحرك للأجور والأسعار الزيادة في الأجور رفع الحد الأدنى للأجور إلى ألف درهم لم تتم الإجابة رسميا عن تلك المذكرة، وتمت بالمقابل، شهر ماي من نفس العام، الزيادة في الأجور بنسبة ضعيفة لم تشمل الجميع، كما تم الرفع من الحد الأدنى دون أن يشمل القطاع الخاص والمؤسسات شبه العمومية. وهذا الإجراء الأحادي الجانب بدوره كان مسبوقا بحملة اعتقالات وطرد للمئات ممن شاركوا في إضراب في قطاعي التعليم والصحة يومي 10 و11 أبريل 1979. وخلال العامين 1979 و1980، بدأ مسلسل ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وارتفع مؤشر كلفة المعيشة ب38 في المائة، ما حدا بالكونفدرالية إلى مطالبة الحكومة بالرفع من الأجور ومباشرة الحوار المجمد، لترفع مذكرة جديدة إلى الوزير الأول في 25 أبريل 1981، مطالبة إياه بفتح الحوار واحترام الحريات النقابية. جواب الحكومة لم يكن مجرد الصمت حيال تلك المذكرة، بل كان عن طريق البيان الشهير الذي بثته وكالة الأنباء الرسمية في 28 ماي 1981، والذي جاء حاملا لنبأ الزيادة في سعر المواد الأساسية، بمعدلات قياسية، إذا أضيفت إلى الزيادات التي سجلت في السنتين السابقتين، تكون النتيجة كالتالي: السكر: 112 في المائة الزيت: 107 في المائة الحليب: 200 في المائة الزبدة: 246 في المائة الدقيق: 185 في المائة التحرك الأول سيأتي من حزب عبد الرحيم بوعبيد، إذ سارعت اللجنة المركزية للحزب إلى إصدار بيان يوم 31 ماي، اعتبر أن الوضع بالمغرب بلغ مستوى غير مسبوق من الأزمة، وطالب الحكومة بالتراجع عن هذه الزيادات، محملا إياها مسؤولية ما قد يترتب عنها. وأمام اللجنة، قال الأمين العام للحزب، إنه لم يسبق اتخاذ قرارات بهذه الخطورة بكل هذا التساهل والتعسف. النقابة التابعة لحزب بوعبيد لم تتأخر بدورها في التحرك، وبثت نداء إلى الشغيلة المغربية يوم 2 يونيو، داعية إياها إلى التعبئة الشاملة لحمل الحكومة على التراجع عن تلك الزيادات. بينما كان الفريق الاتحادي في البرلمان يحاول الضغط على الحكومة ومساءلتها عما أقدمت عليه، فكان الرد تحت قبة البرلمان، أن حكومة صاحب الجلالة تعتزم إعلان زيادات أخرى، لأن صناديق الدولة في أزمة. وتحت وقع هذه الصدمة، التقى الوزير الأول المعطي بوعبيد، برلمانيي حزب عبد الرحيم بوعبيد يوم 5 يونيو، وأصدر غداة ذلك بيانا أعلن فيه تخفيض الزيادات الأخيرة إلى النصف، يومين بعد إعلان وزير المالية قرب اتخاذ زيادات أخرى، «ما يعكس المستوى الكبير للتساهل الذي تتعامل به الحكومة مع الموضوع»، تقول وثيقة داخلية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. تنتقل المبادرة مرة أخرى إلى الجناح النقابي، باجتماع المجلس الوطني للكونفدرالية يوم 7 يونيو، وإصدار بيان بمطالب واضحة وصارمة: إلغاء الزيادات الأخيرة في أجل سبعة أيام، وفتح حوار فوري حول الملف النقابي. والنقابة «مستعدة لاتخاذ الإجراءات اللازمة في حال تشبث الحكومة بقراراتها»، وتحملها كامل المسؤولية عما يمكن أن يترتب عن ذلك (التحذير مرة أخرى). وفي اليوم الموالي، عقد الكاتب العام للنقابة، نوبير الأموي، ندوة صحفية تناول فيها الأوضاع الاجتماعية المتأزمة. مهلة الأسبوع التي حددتها الكونفدرالية انصرمت دون تلقي أي رد حكومي، فدعت المركزية التابعة لحزب عبد الرحيم بوعبيد باقي المركزيات إلى التحرك المشترك، فلم تلق تجاوبا، لتعلن في 15 من يونيو، اعتزامها خوض إضراب عام لمدة أربع وعشرين ساعة، في العشرين من الشهر نفسه. في 16 يونيو، يعلن الاتحاد الجهوي للدار البيضاء، التابع للاتحاد المغربي للشغل، إضرابا بمدينة الدارالبيضاء يوم 18 يونيو، مبادرة تلقفتها الكونفدرالية بإعلانها إضرابا مماثلا يشل مدينة الدارالبيضاء، كخطوة تعبوية للإضراب العام المرتقب يوم السبت 20 يونيو. وفي ردهات البرلمان، كانت المعركة حامية بدورها، حيث وضع الفريق الاتحادي مشروع قانون يقضي بإلغاء الزيادات الأخيرة في الأسعار، ويتخذ إجراءات استعجالية لدرء خطر الانفجار الاجتماعي، دون أن تلقى المبادرة صدى من نواب الأحزاب الأخرى. فلم يبق أمام البلاد سوى الاستعداد ليوم السبت 20 يونيو، يوم الإضراب العام. مجزرة «شهداء كوميرة» «الأمر ليس بخطير كتظاهر، ولكن الأعمال بالعكس كانت خطيرة، لأنها مست ممتلكات المواطنين وأملاك الدولة... إن هؤلاء الأطفال كانوا في عطلة مدرسية، فحُرضوا على إلقاء الحجارة، والأطفال لا يرحمون كما يقول المثل. لقد بدؤوا برمي الحجارة ثم تلاهم أفراد معروفون ألقي عليهم القبض...»، يقول الراحل الحسن الثاني في ندوة صحفية. وحسب الرواية الرسمية الحكومية، فإن الإضراب كان فاشلا أولا، والسلطات لم تتدخل لمنع تنظيمه واحترامه ثانيا، ثم إنه لم يسقط في تلك الأحداث سوى 66 مشاغبا من «شهداء كوميرة»، بتعبير وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، كما أن الجيش لم يتدخل إذ لم تكن هناك حاجة لذلك، طالما أن الدولة كانت حريصة على ممارسة الحريات النقابية. أما من دعوا إلى شل اقتصاد البلاد، فإنهم محرضون ومتآمرون، ومتواطئون مع أياد خارجية تعرف أن المملكة كانت مقبلة على مؤتمر نيروبي الحاسم في ملف الصحراء... تلك رواية من يملكون سلطة القول. الوثيقة التي بين أيدي «المساء» أنجزها المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وتقدم ردودا دقيقة ومفصلة عن كل محاور أطروحة الدولة، وبجوار الرأي الحزبي المنحاز بطبيعته، نجد وثائق وشهادات أخرى، وطنية ودولية. فهل نجح الإضراب أم فشل؟ الإضراب ناجح... الإضراب فاشل.. رفاق عبد الرحيم بوعبيد يحتكمون في أمر نجاح الإضراب من فشله، (نجاح الإضراب يقاس بدرجة الاستجابة له والامتناع عن العمل)، إلى «الذاكرة الشعبية»، ويعتبرون أن هذه الأخيرة باتت تختزن عن يوم 20 يونيو 1981، ذكرى يوم تاريخي بصم الحياة السياسية والاجتماعية للمغرب الحديث. ويعتبرون أنه شكل لحظة فارقة في تاريخ الإضرابات بالمغرب، والدليل هو التوقف الشامل لكل الأنشطة اليومية المرتبطة بالإنتاج، من المقاولات الصناعية والمؤسسات العمومية إلى المتاجر الصغيرة والمتوسطة. وهذه المشاركة الواسعة كانت مؤطرة تنظيميا، من خلال انخراط النقابة الوطنية للتجار الصغار والمتوسطين، والنقابة الوطنية للتعليم العالي، والاتحاد الوطني للمهندسين... مؤشر آخر على نجاح الإضراب برأي معلنيه، تلك الحملة الواسعة للاعتقالات والمضايقات التي شملت قيادات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل وطنيا ومحليا، بعد أن كان هؤلاء مجتمعين في مقرات النقابة لمتابعة أطوار اليوم الاحتجاجي، إضافة إلى استعدادات المغاربة ليوم الإضراب، من خلال الاصطفاف في طوابير طويلة مساء يوم الجمعة، أي عشية الإضراب، أمام محلات بيع المواد الأساسية والمخابز... دور المقدمون والشيوخ منذ انعقاد المجلس الوطني للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، أياما قبل موعد الإضراب، تمت محاصرة المقر المركزي للنقابة، ووضعت مقراتها الجهوية تحت المراقبة الصارمة. وفي عدد يوم التاسع من يونيو لجريدة «المحرر» الناطقة باسم حزب عبد الرحيم بوعبيد، نشرت صورا تظهر الحصار الأمني حول مقر المركزية. وحتى وصول أعضاء الكونفدرالية إلى مقرها المركزي بات شبه محظور. وحملة الاعتقالات بدأت في العاشر من الشهر نفسه في مناطق مختلفة (سيدي بنور، تازة، قلعة السراغنة، الدارالبيضاء...)، وبعض المركزيات الأخرى خضعت بدورها لضغط السلطات وشنت حملة مضادة للحث على العمل، أمر أعلنه بكل افتخار وزير الداخلية حينها داخل البرلمان. عشية يوم الإضراب، كانت أمواج الإذاعة الوطنية تبث بيانا للوزير الأول المعطي بوعبيد، كتب بلغة التهديد والوعيد، تاركا خلفه الفصل 14 من الدستور الذي يتحدث عن حق الإضراب، ليشهر لائحة عقوبات تنتظر المشاركين في الإضراب (طرد، توقيف...) بينما رجال إدريس البصري، من مقدمين وشيوخ وأعوان ورجال السلطة، يتجولون في الدروب والأزقة، وأمر واحد يشمل الجميع: العمل بجد يوم غد، المتاجر مفتوحة ومحطات البنزين في نشاطها العادي تحت طائلة التهديد بالسجن ستة أشهر وسحب رخصة توزيع المحروقات... الأخ الأكبر للمركزية النقابية، حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كان بدوره في مرمى الأجهزة الرسمية، هذه الأخيرة لم تستسغ إعلان الحزب دعمه الكامل لتحرك النقابة، وانخراطه في حملة مهاجمة وشجب زيادات 28 ماي. ومفعول الغضب الرسمي بدا جليا في تعامل السلطات مع صحافة الحزب، والتي باتت تحت رقابة صارمة ثلاثة أيام قبل الإضراب. فجريدة المحرر التي كانت تبدأ السحب عادة في السادسة مساء، لم تعد تتلقى الإذن بالطبع إلا بعد الثانية صباحا، ما يعني توزيعا فاشلا عمليا. الدولة تعمل بجد... يوم الإضراب خيبة أجهزة الدولة الأمنية كانت كبيرة عندما أشرقت شمس يوم السبت 20 يونيو 1981 على مغرب الأشباح. المعامل مغلقة، سائقو وجباة الحافلات يرفضون إخراج عرباتهم من مرائبها، التجار متنازلون عن مداخيل هذا اليوم، والقطاعان العمومي وشبه العمومي في عطلة غير رسمية... وآلة الدولة ترفض الاستسلام. المقدمون والشيوخ يطرقون أبواب التجار ويخرجونهم من بيوتهم نحو محلاتهم، فلا يترددون في فتح أبوابها بأنفسهم، وعربات «جيب» وآلاف الرجال المسلحين يجوبون الشوارع ويستعرضون القوة تحت إشراف مروحيتين عسكريتين تحلقان في سماء البيضاء. المذبحة... الإجراءات المستفزة للسلطات ضد مظاهر الإضراب وعسكرة المدينة، جعلت الأجواء مشحونة بكثير من التوتر. غضب الساكنة بدأ في الانتظام في شكل مظاهرات وتجمعات. عند الساعة ال11 صباحا تقريبا، ونتيجة لتوتر الأوضاع، هجم بعض الشبان على إحدى الحافلات، ما أدى إلى توقف الحركة من جديد، ليغادر رجال الأمن المسلحين حافلاتهم استعدادا للمواجهة. المحلات التجارية التي فتحت أبوابها تحت الضغط سرعان ما أقفلت، ومحاولة منها لكبح احتجاجات المواطنين، كانت قوات الأمن تعتقل كل من يوجد خارج بيته. اعتقالات عمياء بالجملة، واستعمال ممنهج للعنف ضد من يصادف عناصر الأمن، أطفال يضربون أمام أعين آبائهم وملاحقة للشبان إلى داخل منازلهم. على غرار مدن أخرى مثل فاس والرباط ومكناس وطنجة... كانت مسيرات المتظاهرين تتزايد، وفي البيضاء كانت أكبرها في أحياء شعبية مثل الحي المحمدي وسباتة وسيدي البرنوصي... مسيرات تعلن الغضب من محاصرة المدينة وتركز شعاراتها على زيادات 28 ماي. السلطات لا تنوي تخفيف وطأة الحصار، خاصة مع وصول اللواء الخفيف للتدخل، التابع للدرك الملكي، وأخذت سيارات حاملة لأسلحة رشاشة في التجول داخل المدينة، والعربات المصفحة في توجيه فوهات مدافعها نحو المتظاهرين. وبين الساعة ال11 صباحا و14 بعد الظهر، كانت تلك القوات تكتفي بترهيب السكان واستعراض قوة الدولة، لكن ذلك لم يمنع من تزايد أعداد الخارجين إلى الشوارع والمنضمين إلى المتظاهرين. الساعة الثانية بعد الظهر، مستشفيات البيضاء تتلقى تعليمات باستنفار الأطباء والممرضين والدخول في حالة تأهب، ليبدأ إطلاق النار في الساعة الثالثة، الأوامر تقضي بإطلاق مكثف للنيران على جموع المحتجين، ورصاصات تستقر بين الأعين وعلى الجانب الأيسر من الصدر. الساعة الرابعة بعد الظهر، أولى وحدات القوات المسلحة تصل إلى المدينة، وتنطلق في عمليات تمشيط واسعة داخلها، مع إطلاق ممنهج للنيران تجاه المواطنين. بعض الجرحى ينزفون في الشارع دون أن يتلقوا الإسعاف. اعتقالات لا تميز بين طفل وشاب وامرأة. ليحل الليل وسط حظر للتجول ومواصلة لعمليات التمشيط والاعتقال، حيث كان قرابة 10000 شخص محتجزين بفضاء معرض الدارالبيضاء، بعد أن امتلأت مراكز الاعتقال ودوائر الشرطة. شمس يوم الأحد الموالي أشرقت على وحدات عسكرية مصفحة رابضة أمام المؤسسات العمومية بالمدينة، وأخرى تجوب شوارعها كما لو كانت في حرب. احتجاجات السكان لم تهدأ ولم تهدأ معها عمليات القمع والاعتقال، خاصة في الأحياء الشعبية. بعض المعتقلين أخذوا إلى الثكنة العسكرية عين حرودة، حوالي عشرة كيلومترات شمال المدينة، وظروف الاحتجاز تذكر بالمعتقلات الكبرى الشهيرة في «سنوات الرصاص». والحصيلة قادمة من قاموس الحروب، مئات القتلى (637) وآلاف الجرحى (5000)، وجل الذين لقوا حتفهم رميا بالرصاص هم أطفال، والأغلبية المطلقة من المعتقلين تقل أعمارهم عن 18 سنة، حسب صحيفة «ماروك سوار» الرسمية، وحتى الصحفيين الفرنسيين التابعين للتلفزيون الفرنسي تم توقيفهم بينما كانوا يغطون الأحداث. جهود القوات العمومية سوف تتركز الآن على إخفاء معالم المجزرة، الجثث تجمع من الشوارع وتنتزع من الأسر لكي لا تعاود رؤيتها، المصابون برصاص الجيش والدرك والشرطة «محتجزون» في غرف خاصة بالمستشفيات حتى تختفي آثار ذلك، والعمليات الجراحية تتم بحضور رجال الأمن. وحدات من الجيش تتمركز أمام مستودع الأموات المركزي ومستودع ابن رشد. ومهمة المقدمين والشيوخ الآن، ترهيب أسر الضحايا وحثها على عدم القول بمقتل أبنائها... دون منعهم من إقامة الجنازات وأداء صلواتها في المساجد. من أشعل الفتيل؟ قبيل منتصف ليلة السبت إلى الأحد، 20-21 يونيو 1981، صدر بيان لوزارة الداخلية يتهم كلا من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بالتحريض على العنف، وبالعجز عن تأطير الإضراب. اتهام تضيفه المعارضة الاتحادية السابقة إلى لائحة تناقضات أطروحة الدولة، وتستدل على ذلك بالتالي: الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم تصدر أي نداء للتظاهر، ومسؤولوها الوطنيون والمحليون مكثوا في مقراتها إلى أن تم اعتقالهم هناك. لم يتم اعتقال أو توقيف أي من مناضلي الحزب أو النقابة في المظاهرات. تم شل قدرة النقابة عن الحركة باعتقال كاتبها العام نوبير الأموي على الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم الإضراب، رفقة أعضاء مكتبها التنفيذي، وتمت محاصرة واحتلال مقراتها من طرف قوات الأمن، ما جعلها عاجزة عن أداء مهمتها النقابية. تم منع صحافة الحزب عمليا صباح يوم الأحد الذي تلا اليوم الدامي، باحتلال مقر جريدة المحرر واعتقال رئيس تحريرها. أعلى سلطات البلاد متمثلة في الملك، اعترفت بتقصيرها ومسؤوليتها في عدم تأطير بعض الأحياء الشعبية، وعدم إمدادها بالأجهزة الأمنية والقضائية قبل هذه الأحداث... أين الحقيقة ومن المسؤول؟ ما تلا هذه الأحداث الدامية من محاكمات لقيادات سياسية ونقابية ومنع للصحافة وغيرها من التبعات السياسية، أطنبت أدبيات المعارضة السابقة في تعدادها، والتقارير الدولية في إحصائها. لكن أي وثيقة رسمية أو متفق على اقترابها من حقيقة ما وقع، لم تحصر أعداد الضحايا ولا حجم الخسائر ولا صحة المسؤوليات في إعطاء الأوامر بإعلان الحرب على أطفال ومدنيين راحوا «شهداء كوميرة». ووحدها الصدف وأخطاء في التقدير تكشف بين الفينة والأخرى عن الحفر التي دفنت فيها الجثث، دون أن تأخذ مساطر التحقيق طريقها نحو التأكد من هويات الضحايا وترتيب المسؤوليات. لكن حقائق أخرى تبقى ثابتة وخلاصات كثيرة تجاور الحقيقة. أولاها ثبوت ضعف المؤسسة البرلمانية في النظام السياسي، وضعف فاعليها الحزبيين، حين عجزت هذه المؤسسة عن رفع تحدي وزير الداخلية السابق وإجباره على القبول بلجنة لتقصي الحقائق، وعجزت مكونات المعارضة في توفير التغطية السياسية لجناحها النقابي، بل إن الحزب بدا تابعا ومنقادا لأجندة النقابة، ومضطرا إلى مسايرتها. ثم إن سلطة أخرى أبدت كامل عجزها وتبعيتها للسلطة التنفيذية المركزية، وهي القضاء، حيث وفر هذا الأخير الغطاء اللازم والكافي بانخراطه في تنفيذ رغبات الدولة وخدمة استراتيجيتها دون أدنى مقاومة أو إعمال لمبادئ المحاكمة العادلة أو فتح للتحقيقات الضرورية لتحديد المسؤوليات.