لم تكن المناظرة الأولى للفلاحة فضاء لتبادل الأفكار المختلفة والمتباينة أحيانا حول السياسة الفلاحية الجديدة التي يروم المغرب الانخراط فيها في العشر سنوات القادمة، بل تم الاكتفاء فيها بتقديم الخطوط العريضة لمخطط الأخضر الذي بلوره خبراء مكتب الدراسات الدولي ماكنزي. غير أن منظمي المناظرة ارتأوا بعد تقديم الخطوط العريضة للخطة الفلاحية الجديدة، من أجل التأكيد على سداد الخيارات التي مال إليها واضعوها، تنظيم مائدتين مستديرتين أول أمس الثلاثاء جرى خلالهما تقديم شهادات لبعض التجارب التي اعتبرت ناجحة في القطاع الفلاحي بالمغرب. تجارب أريد من عرضها التأكيد على حتمية الانخراط في تعاونيات أو شركات أو تنظيمات مهنية وراء قطب رائد ومدمج، كما تدعو إلى ذلك الإستراتيجية الجديدة، حيث تبدى أن تلك هي السبيل الوحيدة من أجل الحصول على حصص في السوق المحلي والسعي إلى تأمين حصص معتبرة في السوق الخارجية. وضرب لذلك مثلا في العديد من المرات خلال المناظرة بنموذج تعاونية كوباك بتارودانت. صورة أخرى لم تكن مسرحا لها قاعة المناظرة بمدينة مكناس بل نقلت عبر شهادات تضمنها «ميكروطروطوار»، حيث جرى التركيز على مزارعين صغار لم يكفوا عن الشكوى من انسداد الآفاق أمامهم، بسبب غلاء تكاليف الإنتاج والخوف من الانفتاح والتحرير الزاحفين بقوة، حيث لن يصمد أمام التحولات القادمة سوى من استعد لها جيدا. بث تلك الشهادات لم يكن بريئا، فقد وظفت للتأكيد على أن خلاص هؤلاء الفلاحين الصغار رهين بتحولهم إلى زراعات أخرى بديلة ذات قيمة مضافة عالية والانتظام في إطار تنظيمات جامعة يقودها الفلاحون الكبار على غرار تجربة «كوباك». ورغم احتفائها بالتجارب الكبيرة التي اعتبرت ناجحة ونموذجا يحتذى، حاولت الاستراتيجية الجديدة الاستناد إلى دعامتين، تتمثل الأولى في تنمية الفلاحة ذات القيمة المضافة العالية والإنتاجية المرتفعة، والتي تقتضي استتثمارات قدرت ب10 ملايير درهم في السنة على غرار الاستثمارات التي التزم من اكتروا أراضي « صوديا وصوجيتا» بإنجازها، وتتجلى الدعامة الثانية في المصاحبة المتضامنة لصغار الفلاحين عبر حثهم على الانخراط في مشاريع تتيح تحولهم عن الحبوب إلى زراعات ذات قيمة مضافة عالية، وهذه الدعامة تفترض استثمارات قدرت بما بين 15 و20 مليار درهم على مدى عشر سنوات. غير أن نجاح الاستراتيجية الجديدة يبقى رهينا بتحقق أربعة شروط، يتمثل الأول في إحداث وكالة وطنية تسهر على التنفيذ وتتولى التتبع، ويتجلى الثاني في المضي في عملية التعاقد مع سلاسل الإنتاج عبر إنجاز 16 مخططا جهويا و8 عقود برامج، ويخص الشرط الثالث تحرير 700 ألف هكتار من الأراضي التابعة للدولة، وينصب الشرط الرابع على الانخراط في خوصصة تدبير الماء من خلال تفويت القطاع. وقد تجلى من خلال المناظرة أن الإكراهات الموازنية التي ما فتئت تحتج بها الدولة من أجل تبرير الضغط على نفقاتها، لم تحل دون واضعي الإستراتيجية الجديدة والدعوة إلى مساهمة الحكومة عبر الميزانية العامة ب50 مليار درهم على مدى عشر سنوات في الخطة الجديدة، مسوغهم في ذلك، كما أشار وزير الفلاحة والصيد البحري، عزيز أخنوش، إلى ضعف الدعم الذي تخص به الدولة الفلاحة مقارنة ببلدان مماثلة. لكن ما الذي يميز الاستراتيجية الجديدة عن باقي التصورات والمشاريع التي رامت إصلاح حال الفلاحة المغربية في السابق دون أن يجري تطبيقها؟ مصدر مسؤول من وزارة الفلاحة والصيد البحري، يؤكد أن «المخطط الأخضر» الذي يشير إلى السياسة الفلاحية الجديدة يلتقي مع تلك المشاريع في تشخيص واقع الفلاحة، لكنه يختلف معها في كونه يضع توقعات مرقمة للاستثمارات التي يفترض إنجازها في القطاع حتى يتمكن المغرب من زيادة الناتج الفلاحي بما بين 70 و100 مليار درهم. إلحاح السياسة الجديدة على تحول الفلاحين الصغار عن زراعة الحبوب إلى زراعات ذات قيمة مضافة عالية، قد يبدو اتجاها نحو التخلي عن الحبوب في ظل ظرفية تدعو إلى تثمين هذا المنتوج لندرته في السوق الدولية، غير أن وزير الفلاحة والصيد البحري يؤكد أن التحول عن الحبوب لا تمليه الرغبة في التخلي عن هذا المنتوج، بل يفرضه ضعف الإنتاجية في الاستغلاليات الصغيرة، ثم إن الوزير يشدد على أن إنتاج الحبوب في المغرب سيتم بطريقة مختلفة بما يسمح بتوفير ما بين 60 و80 في المائة من الحاجيات الوطنية في أفق 2020.