يتطلع المناضلون اليساريون داخل الاتحاد الاشتراكي وخارجه إلى نجاح المساعي والجهود النبيلة الرامية إلى تمكين الحزب المذكور من استرجاع مصداقيته ومكانته الاعتبارية لدى الناس وإعادة اكتساب السمعة التي تمتع بها لعقود من الزمن. كان المناضلون الاتحاديون عامة يشخصون بدون منازع على الساحة، قيم النزاهة والصدق، وتغليب المصالح العامة، والشجاعة في قول الحق، والدفاع عن الجماهير الشعبية، واستقلالية القرار، وصفاء الطوية، ووضوح الفكرة والشعار، وسمو الأخلاق. وأصاب هذه الصورة اليوم خدش غائر وندب عميق، وهو الأمر الذي يمثل مشكلة حقيقية وخطيرة، إذ أن المصداقية لا تباع ولا تشترى، وإذا فقدتها حركة سياسية، فلن تسترجعها بسهولة، وهذا الذي يفسر صعوبة المهمة المطروحة على المؤتمر الثامن للحزب. وهي المهمة التي تتطلب في نظرنا تقديم إشارات قوية تعكس الوعي بضرورة إعادة بناء الحركة الاتحادية، ووضعها على سكة التصالح مع هموم المغاربة، والولوج مجدداً إلى عقولهم وأفئدتهم، كحركة تفكر فيهم ومعهم، وتلتزم بقضاياهم، وتفرز أطراً في خدمتهم، ومواقف متجاوبة مع تطلعاتهم وممارسات منضبطة لما يفرضه المعنى النبيل للسياسة. وتتلخص «الإشارات القوية» أولاً، في إفراز قيادة جديدة لم تتحمل مسؤولية تدبير المرحلة الراهنة، مع احترام الرموز الحالية وبقائها في الحزب متعاونة مع «الوجه المتجدد» الذي يجب أن يتخذه الحزب، وثانياً في العودة إلى المعارضة باعتبار أن أي حزب هو ملزم دوماً باقتناء تذكرتي الذهاب والإياب والامتثال لحكم صناديق الاقتراع والجاهزية لخدمة أهدافه في جميع المواقع، وثالثاً في اعتماد خط سياسي جديد قادر على مواجهة تحديات المرحلة والاحتفاظ للحزب بعمقه اليساري والديمقراطي وبوظائفه الأصلية وبتحالف ووسائل وطرق عمل مطابقة لهويته. كما توجد ضمن الإشارات القوية مهمة رابعة متعلقة بتحويل بنية الحزب الحالية إلى بنية حداثية تعددية، يتعايش فيها الرأي والرأي المخالف، وتنتظم داخلها التيارات، وتضمن رقابة فاعلة على ممارسات وثروات القادة، وتضمن توقيع الجزاءات المناسبة على كل مس بمعايير النزاهة. يتعين أن تتاح للمواطنين فرصة التثبت من أن الحزب الذي طالما تعلقوا به وعلقوا عليهم الآمال العراض، قد تحرر من أدران مرحلة، وانتفض على نفسه، وصحح مساره. والمعركة التي تنتظر الاتحاد ليست سهلة على الإطلاق، فهي في حقيقة الأمر عملية شاملة لإعادة بناء الحزب فكرا وممارسة وتنظيما، ولهذا فلا ينتظر أن تجري بدون مقاومات. فلقد نشأت وتأصلت خلال العشر سنوات الأخيرة عادات ومصالح وعلاقات وبنيات بشرية ومادية يمكن أن تقف حاجزاً في وجه إرادة التصحيح والتقويم. هناك من سيرفض بشكل قاطع كل حديث عن خطأ المشاركة في 1998، وسيظل متشبثا بأن تلك المشاركة أنقذت البلاد مما هو أخطر من الوضع الحالي، وحالت دون حصول «السكتة القلبية»، وكانت ضرورة تاريخية لا محيد عنها. ولكن هذا الموقف لن يمثل بالضرورة عقبة رئيسية أمام مهمة التصحيح، إذا ما تم الاتفاق على خلاصتين أساسيتين، وهما: 1 -تعليق أية مشاركة حكومية مقبلة على شرط دفتر احترازات مسبق، يسمح بتفعيل المشاركة وجعلها قادرة على توقيع لمسة يسارية مختلفة على مسار التدبير العام بكل مستوياته في البلاد. 2 -الاعتراف بأن النتائج الإجمالية للمشاركة كانت دون الحد الأدنى من الانتظارات، ولم تفتح طريق الانتقال، ولم تمكن الوضع السياسي من التسلح بما يكفي من عتاد لسد منافذ التراجع والارتداد، ومنع «عودة» المظاهر السلبية الخطيرة التي أتى على ذكرها الخطاب الاتحادي الذي أعقب انتخابات 7 شتنبر 2007. إن الصعوبات الكبرى التي تحف بخطة التصحيح توجد خارج النقاش حول صواب أو خطأ المشاركة السابقة، رغم أهمية ذلك النقاش. إن الصعوبات «الجدية» تتمثل أساساً في أربع: - الصعوبة الأولى متعلقة بوضع أعيان الانتخابات الذين تم «استيرادهم». هناك جماعات انتقل فيها الانتماء من الأحزاب الإدارية إلى الاتحاد الاشتراكي، وظل تقريبا نفس الأفراد يسيرون الجماعة. وهناك الفريق النيابي للحزب الذي يضم عدداً كبيراً من الذين سبق لهم الترشيح باسم أحزاب إدارية، والذين اختاروا في ما بعد التقدم إلى الانتخابات باسم الاتحاد الاشتراكي. ففي حالة ما إذا قرر الحزب التخلي عن منهجية الاستيراد بالنسبة للمستقبل، فماذا سيصنع مع الأعيان الموجودين حالياً بين صفوفه؟ وهل سيقبل مثلاً، في حالة هجرة هؤلاء إلى فريق أو فرق أخرى أو تجميد أنفسهم عملياً في الفريق الاتحادي، أن يظهر بمظهر «حزب متوسط» فقط وليس بمظهر حزب كبير؟ وهل يمكن أن يمضي إلى حد فقدان الحق في تشكيل فريق نيابي؟ مع العلم بأن أكبر نسبة للغياب في المجلس الوطني للحزب تسجل حالياً في صفوف أعضاء الفريق النيابي. ففي حالة اختيار الاتحاد العودة إلى المعارضة، والبحث عن تحالفات يسارية، ووضع برنامج للإصلاح المؤسسي العميق، وإطلاق سلسلة من المبادرات والنضالات في الساحة، واحتدت المواجهة مع التوجه التكنوقراطي للدولة وأساليبها العتيقة في الحكم، ورفض الأعيان تحمل تبعات المواجهة، فسيكون على بقية أعضاء الحزب الذين يزكون الاختيار الجديد أن يتدبروا الوضع الذي يمكن أن ينجم داخلياً عن ذلك، والذي قد يتمثل في هجرة مضادة للأعيان، أو تشكيل معارضة لاختيار المعارضة، خاصة أن بعض هؤلاء أصبح في موقع الكاتب الجهوي ويمكن له أن يعبئ قاعدة خاصة للمؤتمرين. إن الذين يتم تصنيفهم عادة ضمن فئة أعيان الانتخابات داخل الاتحاد ليسوا جميعا كائنات قدت من معدن سياسي رديء، ففيهم بكل تأكيد كفاءات محترمة، إلا أن المنطق السياسي العام لحركة الأعيان يفيد أن هؤلاء «اختاروا» الالتحاق بالاتحاد الاشتراكي لسببين أساسيين: أولهما تقديرهم أنه خلال المرحلة السابقة على 7 شتنبر كان الحزب «المقرب» من الدولة بامتياز، وثانيهما شعورهم أن الحزب استساغ في النهاية وسائلهم في العمل بعد أن كان يقاومها بشدة، وبالتالي انزاحت كل الأسلاك الشائكة التي كانت تمنع أعيان الانتخابات من الإقبال على الترشيح باسم الاتحاد. وعبرت أجهزة هذا الأخير عن طلب على مثل هذه المبادرات. واليوم لاشك أن ظهور قوة جديدة مقربة أكثر من النظام سيغير حسابات فئة الأعيان، وهذا ما أشار إليه صراحة قيادي في الحزب توقع أن يستقطب حزب قادم للدولة كل الأعيان ويهزم بقية الأحزاب بسلاح الصناديق! قد يرد البعض، بأن حزب الاستقلال سبق له المرور من الحكومة إلى المعارضة دون أن يفقد أعيانه، إلا أن حالة حزب الاستقلال تتسم ببعض الخصوصية، فالأمر يتعلق عموما بأعيان الحزب الأصليين الذين لم يباشر جلبهم من جهة ما، وبنيته تقوم على ازدواجية تسمح للجهاز القيادي بالدخول مع أعيان المناطق في تعاقد يتيح لهم حتى في أشد لحظات المعارضة اتقادا أن يشعروا بأن مصالحهم هي مع الحزب وليس خارجه، وهو الذي أوجدهم كظاهرة، وصلتهم به وثيقة. - الصعوبة الثانية متعلقة بمصير مكتسبات العلاقة مع الدولة. فخلال عشر سنوات، سيكون عدد من أعضاء الحزب وأجهزته قد نسجوا ربما علاقات مع الدولة في بنية ثقافية مبنية على الزبونية، وتم تحصيل مكتسبات مادية ورمزية. وقد يكون هناك موظفون ارتبطوا بالحزب بسبب تواجدهم في قطاعات يسيرها، وانتعشت بسبب ذلك نقابات قطاعية تابعة للمركزية التي أنشأها الحزب... إلخ، بمعنى أن حالة «الفطام» ستكون صعبة وقاسية وستتطلب عزيمة حديدية. أي أن على الحزب وهو يختار موقع المعارضة، أي يهيئ نفسه لسيل من المتاعب الآتية أحياناً من انزعاج النظام وغضبه في ظل فلسفة أبوية رسمية لا تعترف بالمعارضة إلا في حدود المنازعة في جدية تطبيق برنامج الدولة القار. يجب على الحزب أن يتقبل التعامل معه كسائر الأحزاب المعارضة الأخرى، وأن يقبل التضحية بامتيازات وضع سابق، بما في ذلك «العادات» الناجمة عن العلاقة العضوية مع جهاز الدولة. فكلنا يتذكر مثلاً كيف أن الدعوات الموجهة إلى الهيئات السياسية لحضور مؤتمر الحزب، كانت ترسل من جهاز الفاكس الموجود بالوزارة التي يتولاها الكاتب الأول للحزب. سيكون الاتحاد إذن مطالباً بالاعتماد أكثر على نفسه، وبتجاوز الوضعية الناجمة عن غياب الأغلبية الساحقة من مناضليه طيلة سنوات عن عدد من الوقفات والأنشطة النضالية. إن الأستاذ محمد اليازغي عندما يرد على المطالبين بعودة الحزب إلى المعارضة بقوله: نعارض ماذا؟ ومع من؟ فهو يدرك صعوبة هذا التمرين، ولهذا يفضل الحل السهل والاستمرار في الحكومة بدون آفاق. - الصعوبة الثالثة مرتبطة بتدبير الاتحاديين لعدد من المجالس المنتخبة. لقد سبق لقواعد الحزب أن أمدت القيادة بملفات عن سوء تدبير بعض المنتخبين الاتحاديين، لكن ظروف الاستعداد للمشاركة الحكومية أملت على القيادة إهمال معالجة تلك الملفات، فساد بعدها جو من التغاضي عن المحاسبة. وعقب فتح أبواب الحزب للمرشحين المنحدرين من الأحزاب الإدارية تفاقم المشكل. إن وجود حالات لسوء التسيير، إن ثبتت، تعرض الحزب لنوع من «الهشاشة السياسية» وخاصة في اللحظة التي يختار فيها المواجهة، مما يتطلب التفكير مسبقاً في توفير شروط تأهيله لممارسة الحسم في هذه القضايا. يجب أن يكون الحزب إذن قادراً على تتبع الممارسة التدبيرية لأعضائه ومساءلتهم عن أخطائهم، بمعنى أن عليه إطلاق آلية المحاسبة وفق ضوابط التحري الدقيق واتخاذ القرارات اللازمة، بما في ذلك التخلص من العناصر التي يثبت حسب الإعمال الموضوعي لتلك الآلية سوء تدبيرهم، حتى يظل الحزب منسجما مع مبادئه الأصلية، ويفوت على أي كان فرصة ابتزازه وفرض مواقف وقرارات عليه لا تنسجم مع خط المعارضة الذي اختاره ومع التزامه إزاء حلفائه ومع بنود برنامجه وتوجهاته النضالية. - الصعوبة الرابعة تهم موقف الوافدين الجدد. في ظل ظروف المشاركة الحكومية، انثال على الحزب، رسميا وحسب تصريحات قيادته، سيل من الأعضاء الجدد، حيث وصل مجموع أعضاء الحزب الآن إلى 120 ألف عضو، كما سبق أن أعلن ذلك الأستاذ اليازغي في حوار أجرته معه يومية Aujourd’hui le maroc ع 1425-1-3 يونيه 2007-ص 12. بمعنى أن أكثر من 65 ألف عضو التحقوا بعد مشاركة الحزب في الحكومة، أي نظريا أغلبية الأعضاء الحاليين. نحن إذن أمام حزب جديد عمليا، فماذا سيكون موقف هذا الحشد البشري الهائل الذي انضم إلى الاتحاد في ظروف «التوافق»، إذا ما قرر العودة إلى المعارضة وخط «الصراع»؟ إذ قد لا يرضيهم ذلك أو لا يرضي عدداً منهم. علما بأن هناك أيضاً من يكون قد انخرط في الحزب لأنه تعرف عليه أكثر من خلال الحكومة أو من خلال حضوره المستمر في وسائل الإعلام، أو أعجب بخطابات قادته، أو تجاوب مع خطة «الانفتاح» التي تولاها الحزب، أو قدر أن المشاركة الحكومية جلبت نفعاً للبلاد. إن هذا الجيش العرمرم من الوافدين الجدد يظهر في إحصاءات الحزب و«يختفي» في الواقع، فلا يظهر له أثر في الوقفات والمظاهرات وحتى في المهرجانات التي ينظمها الحزب ونقابته، فلما فكرت القيادة الحزبية في النزول خلال مظاهرة وطنية للتضامن مع فلسطين، بشكل متميز عن الآخرين وتحت لافتة حزبية، لم يتعد عدد الذين ساروا خلف اللافتة ألفي مشارك. ويظهر أنه كلما ازداد عدد الأعضاء، قل عدد الناخبين، حتى إن العضو لا يجلب معه في المتوسط حالياً إلا أقل من ثلاثة ناخبين. نحن إذن أمام حالة أعضاء في حالة سكون، ليست لهم مساهمة تذكر في النقاش اليوم، ولا تعرف الاتجاهات العامة وسطهم. إنهم إلى حد الساعة لم يخوضوا معارك، وربما يشعرون بأنهم لم يدخلوا ليخوضوها أصلا ولكن دخلوا البيت الاتحادي لحظة إقامة مراسيم عرس، وإذا انفض الحفل لا ندري ماذا ستكون كلمتهم. وعلى كل حال، فإن الديمقراطية الداخلية تمنحهم سلطة تقرير مصير الحزب، وهذا من حقهم طبعا شريطة استيفاء العضوية لمعايير النظامية. إشكال «العضوية الجديدة» في الاتحاد الاشتراكي قد يطرح نفسه في سياق الأدوار الجديدة التي يمكن أن يلعبها الحزب. هناك أمثلة دالة على حجم الإشكال. لنتأمل مثلاً أجوبة الآنسة خديجة الصفريوي بن زرو ملكة جمال حب الملوك في مقابلة مع مجلة «نيشان»ع 109-13/7يوليوز2007-ص50، فهي تقول: «أحس أن عندي ميولاًً للاتحاد الاشتراكي. ربما لأن والدي اتحادي. حتى إنه سجلني معه في الحزب بدون علمي». وتولت جريدة (الاتحاد الاشتراكي) مؤاخذة الصحفي الذي أجرى معها الاستجواب على «حواره الملغوم» وأسلوب الضغط على المستجوبة لتغيير موقفها، ونوهت في ذات الوقت بتصريحات ملكة الجمال، بل إن جريدة الحزب أعادت نشر نص الفقرة الواردة أعلاه كاملة (الاتحاد الاشتراكي ع 8613- 18 يوليوز 2007 -ص 1و3 مقال لحسن رحيمي)، دون أن تشعر الجريدة بأي حرج وهي تكشف عن حالة لعضوية غير جائزة لا قانونيا ولا أخلاقيا يقبل بها الاتحاد الاشتراكي ويمارسها. إذ ليس من حق أي شخص «تسجيل» انخراط شخص آخر دون علمه في حزب سياسي. فكم سيكون عدد الانخراطات المسجلة بهذه الطريقة لدى الاتحاد؟ وهل هذا هو الذي يفسر التضخم النظري لكتلة الأعضاء؟ وكيف سيتصرف الذين تولوا تسجيل الناس بهذه الطريقة غداً في المؤتمر؟ ألا يمكن أن تستعمل عملية حشو لوائح العضوية بالمعارف والأبناء والأقارب والمرؤوسين في إفساد الديمقراطية الداخلية وتعويق الانتفاضة الاتحادية المأمولة؟ إن أي حزب حداثي طبعاً سيفخر بوجود ملكة للجمال ضمن قائمة أعضائه، ولكن الانضمام يتعين أن يكون بالتعبير الصريح للشخص المعني. كما أن «مبادرة الانفتاح» هي فكرة رائدة وموفقة، لكن على أساس أن تمارس أجهزة الحزب قدراً من التحري، بدون شطط، حتى لا يكون التعبير المنفرد عن إرادة الانخراط كافياً وحده. وهكذا نرى أن أبناء الاتحاد، وهم يعدون العدة لخطوة إصلاحية جريئة في حزبهم، سيواجهون بلا ريب مخلفات مرحلة فتحت أبواب الحزب على تقاليد جديدة وأنواع من التعامل والعلاقات والممارسات لم تكن معهودة من قبل.